فيما يواصل الخطاب الرسمي التبشير بغد صبوح ينتظر الشعب المصري بعد هنيهة من الصبر الجميل، تجوس في سماء السياسة والمجتمع في مصر غيوم مكفهرة، تخفي أضواء المستقبل وتبسط ظلالًا داكنة من الخوف والوحشة في سماء الحاضر. أربعة عواصف على الأقل تجمعت نذرها في الآفاق، ويشتد لهيبها يومًا وراء الآخر، ماضية - إن لم يتم إجهاضها سريعًا - بخطى واثقة نحو ما لا يُحمَد عُقباه.
أولًا: اشتدت وطأة العمليات الإرهابية كمًا وكيفًا. فمن ناحية شهدت الشهور الأخيرة اتساع في نطاق الهجمات الإرهابية وخروجها عن الحيز الجغرافي الضيق الذي انحصرت فيه لعدة أعوام في محافظة شمال سيناء، والذي أشار إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي بكونه لا يزيد عن 1% من مجموع مساحة شبه الجزيرة. خرج الإرهاب من مكمنه، وامتدت أياديه لتضرب عدة مناطق استراتيجية بالعمق المصري - في أقاليم القاهرة والأسكندرية والدلتا والصعيد - وجنوب سيناء.
أما على صعيد الكم، فتشير الإحصاءات الصادرة عن معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط إلى زيادة عدد العمليات الإرهابية في نطاق محافظة شمال سيناء من 143 في عام 2014، إلى 426 في عام 2015، ثم 681 في عام 2016. ثم كان أن دخلت القبائل مؤخرًا على خط المواجهة المسلحة مع فرع تنظيم الدولة الإسلامية في شمال سيناء، وهو تطور مآله لا ريب تعاظم الصراع وإطالة أمده. أما الهجمات التي وقعت خارج نطاق شمال سيناء، فقد انخفض عددها في عام 2016 مقارنة بالعام السابق، لكن زادت خطورتها وأعداد الضحايا الناجمة عنها في الشهور الأولى من عام 2017.
سنوات تربو على الأربع انقضت من حرب ضروس مع الإرهاب، أظهرت عجز الدولة عن التعامل بكفاءة مع هذا التهديد المتصاعد من زاويتين رئيسيتن؛ الأولى هي الخطط الأمنية المطبقة على الأرض في خضم المواجهات المباشرة، والثانية تتعلق بالإطار السياسي والفكري الذي زرع الريح فحصد العاصفة، إذ وفرت السياسيات المتبعة البيئة المناسبة لبزوغ وتمدد الإرهاب، من حيث أرادت حصاره واستئصال شأفته. وهو ما أشار إليه مؤخرًا مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، حين حذر من أن الإجراءات الأمنية العنيفة التي تنتهجها الحكومة المصرية تغذي التطرف والإرهاب ولا تقطع دابرهما، مضيفًا أنه ما هكذا يُواجه الإرهاب.
ثانيًا: تشهد الساحة المصرية منذ ديسمبر الماضي استهدافًا منظمًا للمسيحيين المصريين، شمل تهجيرهم قسريًا من منازلهم بمحافظة شمال سيناء، واستهداف كنائسهم بالقاهرة والأسكندرية وطنطا وسانت كاترين، إضافة إلى استهداف حافلة تقل مسيحيين في طريقهم للصلاة في المنيا.
والأكثر مدعاة للقلق من استهداف العاصمتين الأولى والثانية للدولة المصرية في غضون أشهر قليلة، هو أن استهداف الكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية في أبريل الماضي وقع أثناء تواجد البابا تواضروس بها. أما حادث المنيا، فيكشف عن اتجاه لاستهداف الأقباط في أكثر الأماكن الأمنية رخاوة، وفي أبعدها من الناحية الجغرافية عن مركز الأحداث. هذان التطوران – استهداف أهم القيادات، وعامة المسيحيين على السواء - ينذران إن تكررا بتداعيات ونتائج بالغة الخطورة.
ويدرك المتابع لسلوك وخطاب الفرع المصري للتنظيم، أنه ليس في نيتهم الإحجام عن استهداف المسيحيين، بل من المرجح أن يتسع المدى الجغرافي، وتطول قائمة الأهداف الحيوية لحملتهم الدموية. وبديهي أنهم لن يقفوا عند تهديد الأمن العام، وتقويض شرعية النظام، وخفض موارد الدولة من السياحة والاستثمارات الأجنبية فحسب، بل قد يصل الأمر بهم إلى شق صفوف المجتمع وزرع بذور فتنة طائفية، لا يعلم إلا الله آثارها ومداها.
ثالثًا: مازال الاقتصاد المصري في حالة من التأزم الشديد. فبعد أشهر من التلكؤ وجر الأرجل، استقرت الحكومة أخيرًا في نوفمبر/تشرين ثان الماضي على ما رأت فيه حلًا للأزمة، وهو تحرير سعر الصرف. لكن الأزمة الاقتصادية مازالت قائمة بعد أكثر من ستة أشهر من تطبيق الإجراءات الرامية لتعزيز موارد الدولة من العملة الصعبة، وتطويق السوق الموازية للنقد الأجنبي. وتشير الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى ارتفاع معدل التضخم السنوي إلى 31.7% و32.5% و32.9% في شهور فبراير ومارس وأبريل الماضية. وهو معدل قياسي لم يتحقق منذ أكثر من ثلاثين عامًا.
أما زيادة أسعار الغذاء والمشروبات، فقد تجاوزت على مدار عام حاجز الأربعين بالمائة. في نفس السياق، توقع تقرير لمؤسسة "يولر هيرميس" الائتمانية أن تشهد مصر في عام 2017 أسوأ معدل نمو اقتصادي منذ عام 1967، أي منذ خمسين عامًا كاملة، وفي سنة تلقت فيها الدولة هزيمة عسكرية ثقيلة.
رابعًا: برغم تلك الأزمات المستعرة، لا تزال السياسة في سباتها العميق، فيما يواصل سيف الأمن بتر أيادي الدستور والقانون، وانتهاك الحريات والحقوق بلا رادع. وتُظهر أزمات السلطة المستمرة مع السلطة القضائية والأزهر وأطراف في الإعلام؛ انصباب اهتمامها على السيطرة التامة، فيما سقطت معايير رأب الصدع المجتمعي ووأد الأزمات في مهدها، من سلم أولويات المجموعة الحاكمة. وما التطور الأخير بحجب عشرات المواقع الخبرية على شبكة الإنترنت إلا حلقة في سلسلة طويلة، تشي بضيق صدر السلطة بأقل قدر من الاستقلال واختلاف الرأي.
يستمر انسداد الأفق السياسي هذا، فيما تبدأ الإجراءات الممهدة لانتخابات الرئاسة 2018 خلال أقل من عام، في بيئة سياسية جدباء، وغياب لكل أنواع الحريات، وعزوف كل المرشحين المحتملين عن حتى البوح بنواياهم، مخافة البطش وتلويث السمعة. يتزامن ذلك مع اختزال السياسة المصرية بكل تعقيداتها ومستوياتها في شخص واحد ومؤسسة واحدة. ذلك أمر جسيم في بلد كمصر، إمكانياته البشرية هائلة لكنها محجوبة ومحاصرة، يتآكلها صدأ النسيان.
ثم جاءت موافقة مجلس النواب على اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين القاهرة والرياض - والتي تتضمن نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير للسعودية – ثم مسارعة الرئيس السيسي إلى التصديق على الاتفاقية (برغم استمرار النزاع القانوني حول سلامتها القانونية والدستورية)، لتصيب شرعية النظام في مقتل، وتُفقد قطاعات واسعة من الشعب المصري ثقتهم في النظام السياسي بأكمله.
يرى هؤلاء أن النظام القائم بشخوصه ومؤسساته ما عاد مؤتمنًا، ليس فقط على رفاهة الشعب وتحقيق تطلعاته في الاقتصاد والأمن، بل حتى على الحفاظ على وحدة الوطن وسيادته على كامل أراضيه. يفاقم هذا التطور من عمق أزمة الحُكم، ويهدد بحدوث تداعيات سياسية ودستورية واجتماعية، لا يبدو أن بمقدور السلطة الحالية التعامل معها بكفاءة.
تغذي هذه الأزمات بعضها البعض، ليزيد استحكام الأزمة وليتعمق مأزق الشرعية. لكن الدولة تجابه هذه الحزمة من التهديدات بجعبة خاوية من الرؤى بعيدة الأمد أو الحلول السياسية الناجعة، مواصلة تربصها بكل أشكال الاحتجاج، واتكائها على ما بقي من شعبية للرئيس وخطاباته العاطفية التي توقظ مشاعر الأمل والحماس لبرهة، لكنها لا تغني ولا تسمن من جوع وفقر وإرهاب واستبداد.
ولهذا احتجبت الشمس طويلًا دون بادرة حل لأي من معضلات السياسة والاقتصاد والمجتمع الرئيسة في مصر. ومن نافلة القول أن تجاهُل الأزمات يفاقمها. وأن العواصف الناشئة، قد تتحول سريعًا لأنواء هوجاء تنذر بالوبال وسوء العاقبة. وعليه فعلى من بيدهم مقاليد الأمر، أن يعوا وينتبهوا، ويبادروا سريعًا إلى إصلاح الخلل من جذوره، قبل أن يعصف ريح الفشل بكل شيء.