المكان قاعة المحكمة رقم 9، بالدور الثاني بمحكمة شمال الجيزة. التاريخ هو السابع من مارس/آذار، والحدث هو نظر اتهام المحامي الحقوقي خالد علي بالقيام بفعل خادش للحياء العام عقب حصوله على حكم من القضاء الإداري ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية، وهي القضية المعروفة إعلاميًا بقضية "تيران وصنافير". والحدث المعنية به هذه الشهادة هو حضوري لأول مرة لجلسة مُحاكمة تهم قطاعًا واسعًا من الرأي العام، ضمن مجموعة من الصحفيين المُكلَّفين بمتابعة الجلسة وتغطيتها.
الوصول إلى عنوان المحكمة، خاصة إن لم تكن محررًا قضائيًا، ليس أمرًا هينًا. تطبيق خرائط جوجل يفقد طريقه في شوارع القاهرة ويفشل في تحديد اتجاهات واضحة للوصول لقاعة المحكمة المنتظر مثول خالد علي فيها. أما توفُّر وإتاحة معلومة مثل أماكن ومواقع انعقاد الجلسات القضائية عبر قاعدة بيانات معلنة وحديثة على الإنترنت؛ فهو حلم لم يخطر حتى لأحد نظرًا لما نعرفه عن حال إتاحة المعلومات في مصر. بعد بحث طويل قبل موعد الجلسة بيوم، وُفِّقت في إيجاد قاعدة بيانات قديمة غير رسمية، تقول إن محكمة جنح مستأنف الجيزة تقع ضمن مجمّع محاكم شمال الجيزة في شارع تاج الدول، بإمبابة. لكن من حسن حظي أن مضت عيناي إلى نهاية صفحة البحث، لأجد ستاتس فيسبوك يقول إن المحكمة التي أبحث عنها انتقلت عام 2015 إلى مقر جديد بشارع السودان بالمهندسين، ما أنقذني من مشوار فاشل كنت سأتورط فيه صباح يوم المحكمة.
اضطررت إلى بذل محاولات عديدة لدخول الجلسة العلنية التي، وبحسب الدستور، يحق لأي مواطن حضورها. تخللها انتظار لساعات أمام باب القاعة، لا لشيء إلا لغياب أية وسيلة للاستعلام عن الموعد المحدد لبدء نظر القضيّة ودورها في طابور (رول) القضايا المنظورة خلال اليوم؛ إلا بعد الوصول لقاعة المحكمة نفسها، حيث تفصيل رول القضايا على ورقة منسوخة مُعلقة بجوار الباب. ولا يمكن معرفة أي القضايا تحديدًا يتم نظرها في التو سوى بالسؤال المتواصل لكل من يخرج من القاعة.
أقوم بعملي في تسجيل الملاحظات وإرسال الجديد للموقع، مراعية قيم التحرير الإخباري القاضية بنقل الوقائع كما تحدث دون تعليق، ودون أن أسمح لدهشتي، من الأسئلة الموجهة للشهود ومن الموقف بأكمله، بالتسرب إلى الأخبار القصيرة التي أرسلها لتنشرها "المنصة".
مثار دهشتي تجاه وقائع جلسة الأمس يبدأ من طبيعة الجلسة نفسها، التي كانت مخصصة للاستماع إلى آراء لجنة فنية استدعتها المحكمة من اتحاد الإذاعة ولتلفزيون لإبداء الرأي الفني في الفيديوهات التي تستند إليها النيابة لعامة في اتهام المحامي الحقوقي بإتيان فعل خادش للحياء.
الشاهد الأول، فنّي صوت، بحسب تعريفه لوظيفته. أقر أمام المحكمة أنه لم يتلقّ تعليمًا أو دورات تدريبية في برامج المونتاج وتحرير الفيديو، لكنه رغم ذلك أكد بثقة أن الفيديو لم يتم التلاعب به. وعرض أن يأتي بجهاز كمبيوتر حالاً ليعرض على المحكمة والحاضرين الفيديو، ليؤكد لهم أنه لم يتعرض للـ"قص".
إجابة السؤال تثير الاستغراب، خاصة وأن أي شخص على دراية سطحية بعملية المونتاج وإعداد الفيديو، يعرف أن المقاطع المصورة لا يتم التعديل عليها بـ"القص" فقط. هذه معلومة معروفة بين مستخدمي التكنولوجيا ومتابعي مواقع التواصل الاجتماعي، وأغلبهم من فئتي العمرية.
يتوفّر بين أيدي أفراد الجيل الشاب (14-25) مساحة للتعامل مع لقطات الفيديو والصوت أكبر من الأجيال التي سبقتهم، ما يجعل أمورًا كبرامج تحرير الفيديو والإمكانيات التي تمنحها، هي من المعروف بالضرورة لجيل يربط تعديل الفيديوهات ببرامج المونتاج غير الخطّي non linier، التي تبدأ من برامج بالغة البساطة كبرنامج Movie maker، وتتصاعد حتى Final cut و Adobe Premiere، بالإضافة لبرامج تحرير الفيديو على الهواتف المحمولة التي تنجز مهمتها في دقائق، ويمكن التعديل على الفيديوهات المُنتَجة عليها والتراجع عن تعديلات تم إدخالها مرّات ومرّات بسهولة. بينما تنتمي الفئة العمرية للشهود لمرحلة كان تعديل الصوت والصورة فيها يتم عن طريق ما يسمّى بالمونتاج الخطي linier، والذي يعتمد على تمرير شريط الفيديو (النيجاتيف) على قاطع لقصّه، ثم لصق الأجزاء المراد تجميعها.
لكن قبل 20 عامًا، عندما بدأ الشاهد الأول عمله - بحسب شهادته- تطورت تلك التقنية نفسها حتى وصلت لمرحلة يستطيع فيها المونتير قصّ الشريط بشكل أتوماتيكي، وإعادة تسجيل القطع المجمّعة على شريط فيديو آخر يسمى بالـ master piece. هذه الطريقة ظلّت تُدار بها معامل المونتاج في التليفزيون المصري الذي ينتمي إليه الشهود، حتى وقت قريب امتد حتى دخول عصر الفضائيات والمونتاج غير الخطي non linier، المعتمد على تقنيات التصوير والمونتاج الرقمي.
فريق الدّفاع أصر على حضور هذه اللجنة لمناقشتها، وجّه أسئلة للشاهد الأول، كما القاضي، كلها لها علاقة بإذا كان هناك فرق بين المونتاج والمونتير، وعن إمكانية التلاعب بالفيديوهات، والمدى الذي قد يصل إليه هذا التلاعب، وما هي البرامج التي يمكننا من خلالها تحرير فيديو، وعلى أي أجهزة تستخدم. أسئلة جميعها قد تبدو للجيل الأكثر استخدامًا للتكنولوجيا، أشبه بالمعرفة الشائعة التي لا تحتاج إثباتًا أو سؤال. فالأجيال الأصغر يعرف المنتمون إليها إلى أي مدى يمكن اختلاق فيديوهات كاملة، كذلك الذي استطاع باحثون من جامعة واشنطن إخراجه للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، ويظهر فيه متحدثًا بعبارات لم يقلها أصلاً.
إجابات الشهود كانت متقادمة وعتيقة، كأجهزة المونتاج الخطي التي اتخذت موضعها في متاحف السينما والتلفزيون، فبعد أيام من فوز فيلم الخيال العلمي Blade Runner 2049 بجائزة أفضل تصوير سينمائي، وهو الفيلم الذي استحضر من خلال التقنيات الرقمية شخصية من الجزء الأول الذي صدر عام 1982 بنفس هيئتها وسنّها وملامحها التي ظهرت عليها قبل 35 عامًا؛ وقف الشاهد الذي تذكره سجلات المحكمة كخبير ليؤكد بثقة صعوبة التلاعب في الفيديوهات عمومًا.
قال الشاهد إنه استخدم برنامج Final cut على جهاز كمبيوتر ماركة Wavelab، على الرغم من أن الأول برنامج يعمل بشكل حصري على أجهزة Apple والثاني برنامج صوتيات وليس ماركة كمبيوتر.
مستخدمو فيسبوك يعرفون أن ما يقوله الشاهد غير دقيق، فالتعديلات والإضافات على مقاطع الفيديو ليست قاصرة على ميدان السينما. فقد شاهد كثير من هؤلاء المستخدمين مقاطع الفيديو التي نشرتها ووتش موجو WatchMojo.com، وهي مقاطع مفبركة بالكامل تم تحريرها لتبدو حقيقية، ويمكن كشف زيفها بتتبّع كادرات اللقطات محل الخلاف. وهناك فيديوهات قام صنّاعها باختلاق شخصيات وأحداث بالكامل، خلال فيديوهات تبدو شخصية ومنزلية التصوير.
الثورة في تعديل وتركيب وصناعة الفيديوهات، ليست بعيدة عن متناول اليد العربية، أقرب مثال هو حملة بيبسي وشيبسي الشهيرة التي استحضرت الفنان الراحل فؤاد المهندس في لقطة من لقطات الإعلان الرئيسي للحملة، باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي.
سهولة تعديل وتركيب مقاطع الفيديوهات لفتت أنظار صحف كبرى كجارديان البريطانية ولوس أنجيليس تايمز الأمريكية، اللتان نشرتا تقارير عن ارتفاع معدّلات انتشار الفيديوهات المفبركة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي تتوفر فيه البرامج والتقنيات التي تُمكِّن كثيرين من ذلك، ومع رخص أسعارها نسبيًا.
في الوقت الذي تستمر هذه الثورات التكنولوجية في الانتشار وتصير يومًا بعد آخر أكثر إتاحة وانتشارًا في أيدي الهواة كما المحترفين؛ وقف الشاهد الثاني، الذي يعمل كفنّي لاسلكي، بحسب تعريفه لنفسه أمام هيئة المحكمة، ليسرد الآلية التي قامت من خلالها اللجنة بالتحقق من صحّة الفيديو "طبعنا اللقطة فريم فريم ودققنا هل فيها قطع أو فريم ناقص ولا لأ". جاءت إجابته وسط تجمّع المحامين أمام منصّة القاضي للاستماع للشاهد وسؤاله، في قاعة يتناوب على حراستها خمسة أمناء شرطة، لضمان عدم دخول غير المعنيين بالقضايا المنظورة، وعدم قدرة الحاضرين على الوصول لهواتفهم لتصوير وقائع الجلسة، وهما مهمتان كانت لتتكفل بهما كاميرات المراقبة المنتشرة داخل القاعة وعلى بابها.
في مصر، وبحسب مؤشر استخدام التكنولوجيا العالمي الذي يصدره البنك الدولي، فإن انتشار التكنولوجيا لايتجاوز 55% بين الأفراد والمؤسسات الحكومية والشركات، ولا يتجاوز عدد الخدمات الحكومية التي يمكن أن تتم عن طريق التكنولوجيا 59% منها.
هذه الأرقام تبدو منطقية عند النظر إلى آلية اللجنة في التعامل مع الفيديو، التي تعد أقل تطورا من آليات يستخدمها متعقبين وخبراء عالميين، كهاني فريد خبير الكمبيرتر المتخصص في تتبع وتدقيق الفيديو بجامعة نيوهامبشاير، والذي نشرت مجلّة nature حوارًا معه تحدّث فيه عن آليات وبرامج يمكنها التأكد من عدم وجود تغيّر في لون بشرة شخص في فيديو ما، بالقياس على تغيُّر معدلات نبضه في المقطع الذي يظهر فيه، للتأكد من كون الشخص الظاهر في المقطع حقيقيًا أو مزيّفًا.
بدا الشاهدان بعيدان عن كل هذه التطورات، مع الوضع في الاعتبار أنهما خبيران في الصوت واللاسلكي، وهما حقلان لا يؤهلانهما للحكم على أصالة فيديو، وإن كانت قد أُدخلت عليه تعديلات أم لا، كإضافة إصبع للقطة خالد علي، بنفس درجة لون بشرته، ويتحرك بشكل طبيعي يتوافق مع حركته الكلية في المشهد، وغيرها من الأمور كان مطلوبًا أن يتم الفصل فيها، بينما كانت أقوالهما ترتبك وتتضارب في الإدلاء بمعلومات أولية بسيطة كعدد الفيديوهات الموجودة على الاسطوانة المرسلة إلى اللجنة، أو عدد الأصابع التي رفعها خالد علي. فبينما رأي الشاهد الأول أن المرشح الرئاسي المنسحب رفع إصبع يده اليسرى، رأى الشاهد الثاني أنه رفع الإصبعين الوسطيين لكلتا يديه.
هذا الانطباع يتوافق وحديث أنس السيّد، المحامي الحقوقي بالمفوضية المصرية للحقوق والحريات، الذي عمل على رصد إجراءات التقاضي لأكثر من عام، باحثا وراء الطريقة التي تختار بها النيابة العامّة خبراءها.
ينفي السيد وجود أية طريقة أو إجراء واضح في القانون، يُلزم النيابة العامة بالتأكد من حِرَفِيّة الخبراء الذين يفصلون في القضايا التي تحتاج للفصل في أمور فنية كالصوت والصورة، حتى مع اعتماد بعض القضايا أحيانًا على ضرورة الفصل في أمور متطورة تكنولوجيًا، كقضية خالد علي. وبالتالي فإن انتداب لجنة فنية من الجهاز الإعلامي الأول في الدولة دون التأكد حتى من مناسبة وظائف أعضاء هؤلاء المنتدبين للموضوع المطلوب الفصل فيه، هو أمر وارد الحدوث.
يشرح السيّد عبر اتصال هاتفي مع المنصة أن الدفاع في هذه الحالة تقع عليه مسؤولية إثبات عدم حرفية الخبير الذي قدّم التقرير، وتقديم تقرير آخر من لجنة استشارية بها صفات تزيد من صدقيتها، تتشكل من أشخاص معروفين في مهنتهم، ويطلب إليها تقديم تقرير آخر يثبت عدم دقة التقرير الرسمي للجنة المُنتَدبَة.
"بس عادة القاضي بيميل للتقرير اللي بتقدمه الجهة اللي تنتمي للدولة، اللي هي هنا في الحالة ديه النيابة". يحدث هذا في عملية سمّاها السيد بالبيروقراطية، في الوقت الذي يكفي بحث صغير عبر جوجل، لدقائق، لتقييم مسيرة شخص ما وتاريخه المهني وانطباعات الناس عنه. خاصة إذا كان هذا الشخص مسؤولاً عن الفصل في قضيّة قد تنتهي بحبس شخصية عامة وإلصاق تهمة مخلّة بالشرف به.