كشفت الزيارة التي قام بها رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلى العاصمة الكينية نيروبي، 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، عن تغير واضح في الدبلوماسية التي انتهجها قائد الجيش تجاه الرئيس الكيني وليام روتو، منذ انطلاق حربه ضد قوات الدعم السريع، إذ عمد إلى توجيه انتقادات لحكومة نيروبي واتهمها بدعم غريمه الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وقالت الرئاسة الكينية، في بيان، إن الزعيمين أجريا محادثات ثنائية حول الوضع الأمني في السودان والمنطقة، كما استعرضا حالة مبادرات السلام الجارية، بما في ذلك مباحثات السلام في جدة وإيجاد.
وأشار البيان إلى أن روتو والبرهان اعترفا بالتقدم البطيء لمفاوضات جدة، وأكدا الحاجة لتسريع خطوات وقف الأعمال العدائية وتقديم المساعدات الإنسانية، والعمل على عقد قمة عاجلة لـ"إيجاد"، بهدف وضع إطار عمل لحوار سوداني شامل.
ولم يفصل سياسيون تحدثوا لـ المنصة، بين الموقف الحالي للبرهان وبين الهزائم العسكرية التي تعرض لها الجيش السوداني في مناطق متفرقة من البلاد، أبرزها إقليم دارفور (غربًا)، مع خسارة السيطرة على ثلاث ولايات من أصل خمس هناك، وسعيه للبحث عن رئة جديدة من الممكن أن توفر له منفذًا سياسيًا يحقق له أهدافًا أبعد حال استئناف التفاوض مرة أخرى، أو لإضاعة مزيد من الوقت لتحسين وضعيته على الأرض.
وخلال الأيام الماضية تبادل الجيش السوداني وقوات الدعم السريع الاتهامات حول المسؤول عن تدمير جسر شمبات الرابط بين مدينتي الخرطوم بحري وأم درمان، لكن العديد من المحللين العسكريين القريبين من الجيش اعتبروا أن تدميره يعني عزل قوات الدعم التي تسيطر على مدنية أم درمان ومساحات كبيرة من مدينة بحري، وهما ولايتان تابعتان للعاصمة الخرطوم، استخدمتهما قوات الدعم السريع لإمداد قواتها في مدن العاصمة الثلاث.
وقال المحلل السياسي السوداني سليمان سري، لـ المنصة، إن كلا الطرفين المتنازعين يحاول تحقيق مكاسب عسكرية على الأرض، إلى جانب إحداث تنوع سياسي في تحركاتهما لضمان ترجيح كفة الميزان إلى كلٍ منهما، وهو ما يفسر حالة النشاط الدبلوماسي والتطور العسكري السريع على الأرض، ما يؤشر على وجود ضغوط خارجية تدفعهما نحو الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، والذهاب باتجاه تفكيك تعقيدات المشهد الحالي.
وأضاف سري أن زيارة البرهان إلى كينيا تأتي بعد أيام من مشاركته في القمة العربية الإفريقية في الرياض، ولم يكن مرتَّبًا لها في وقت سابق، متوقعًا أن تكون اللقاءات التي أجراها قائد الجيش السوداني مع قادة عرب وأفارقة في السعودية "حثته لتحقيق خطوات إيجابية نحو الحل السياسي، بدلًا من حالة التشنج تجاه قوى إقليمية تسعى لإيجاد حل".
وفي يونيو/حزيران الماضي قالت وزارة الخارجية إن السودان غير معني بالمخرجات التي توصلت إليها لجنة "إيجاد" لحل الأزمة السودانية، مشيرة إلى أنها لا تزال تنتظر ردًا من رئاسة المنظمة بشأن اعتراضها على رئاسة كينيا للآلية.
وفي ذلك الحين، أكد وزير الخارجية السوداني المكلف، علي الصادق، أن "كينيا غير محايدة حيال الأزمة السودانية، لذلك لن تتعاون مع مبادرة إيجاد ما لم يتم استبعادها من رئاسة اللجنة الرباعية".
توجه البرهان إلى كينيا يمثل تحولات كبيرة، من الخصومة إلى التشاور والتنسيق
في يوليو/تموز الماضي أكد البرهان رفض بلاده مقترحًا تقدمت به اللجنة الرباعية بمنظمة إيجاد، لإدخال قوات شرق إفريقيا "إيساف" إلى السودان، دون موافقة الحكومة السودانية.
وتضمنت المبادرة أيضًا تنظيم لقاء "وجهًا لوجه" بين قائدي الجيش، البرهان، والدعم السريع، حميدتي، طرفي النزاع، لإيجاد حل دائم للأزمة، على أن تبدأ الهيئة في إدارة حوار وطني بين قوى مدنية سودانية أيضًا لبحث أزمة البلاد.
يعتبر سري أن توجه البرهان إلى كينيا يمثل "تحولات كبيرة"، من الخصومة وتبادل الاتهامات إلى التشاور والتنسيق بشأن الوصول إلى سلام، وهو تغيير "إيجابي"، إذا كان لدى الجيش النية الحقيقية في إنهاء النزاع لأن استمرار الأزمة الدبلوماسية مع كينيا يشي بوجود حلقة مفقودة قد تعوق إنهاء الحرب أو سبل تنفيذ ما يتم التوصل إليه من اتفاقات في منبر جدة، وسط توقعات بتولي "إيجاد" مسؤولية التنسيق مع الأطراف المختلفة لتنفيذ المخرجات حال نجحت مباحثات جدة.
و"إيجاد" منظمة حكومية إفريقية شبه إقليمية، تأسست في 1996، وتتخذ من جيبوتي مقرًا لها، وتضم كلًا من إثيوبيا، وكينيا، وأوغندا، والصومال، وجيبوتي، إلى جانب إريتريا، والسودان، وجنوب السودان، وشكلت مع الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة آلية ثلاثية قادت للتوقيع على الاتفاق الإطاري الذي سبق اندلاع الحرب، وتُعد شريكًا مهمًا في جهود السلام الحالية.
تخلّي الحكومة السودانية عن اللهجة العدائية تجاه الخارج يخدم الجيش السوداني ذاته، لأنه يعاني خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، وليس من المعلوم كيف سيواجه المرحلة المقبلة من المباحثات بعد أن سيطر الدعم السريع على ولايات بأكملها، ولم يكتف فقط بالسيطرة على معسكر أو مدينة، وبالتالي فإن موقفه التفاوضي سيكون أفضل، حسب سري.
و"يبدو أن الجيش السوداني ليست لديه رؤية واضحة لإيقاف الحرب"، حسب ما أشار القيادي بقوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، المعز حضرة، لـ المنصة، وبرهن على ذلك بـ"حالة الارتباك الواضحة بشأن قبول المبادرات الإقليمية والدولية وتعاطيه معها".
وقال "البرهان يجد نفسه بين مطرقة فلول نظام الرئيس السابق المحسوبين على التيار الإسلامي، ويريدون للحرب الاستمرار، وسندان قيادات عسكرية تدرك خطورة الوضع وتسعى للذهاب إلى التفاوض والحل السياسي".
نيروبي استضافت الكثير من منظمات المجتمع المدني السودانية قبل سقوط نظام البشير
ويتوقع حضرة أن يتخذ البرهان مواقف أكثر مهادنة مع دول الجوار، مع إدراكه ضرورة حلحلة الجمود السياسي، تزامنًا مع شن عمليات عسكرية خاطفة ومحاولة تحقيق انتصارات تدعمه في مفاوضات منبر جدة.
وقال بيان مجلس السيادة السوداني بشأن زيارة البرهان إلى نيروبي، إن الجانبين "اتفقا على عقد قمة طارئة لرؤساء إيجاد في إطار مساعي وقف إطلاق النار ووضع أسس لحوار سوداني لا يستثني أحدًا".
تنبع أهمية كينيا من وجهة نظر المعز حضرة، من أنها إحدى الدول التي كانت لديها حدود مباشرة مع السودان قبل انفصال الجنوب، وهناك علاقات تجارية مهمة بين البلدين، إلى جانب تأثيرها المهم في الاتحاد الإفريقي.
وأشار حضرة إلى أن نيروبي استضافت الكثير من منظمات المجتمع المدني السودانية النشطة في شرق إفريقيا قبل سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، و"فتحت أذرعها لجميع المضطهدين من بطش النظام البائد، والآن تقوم بالدور ذاته بعد أن استضافت الفارين من الحرب وعددًا من السياسيين، ولديها علاقات مهمة مع قوات الدعم السريع وقيادات قوى الحرية والتغيير".
وقبل أيام من زيارة البرهان إلى نيروبي، كشف حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، عن لقاء جمعه برئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك بالعاصمة الكينية للمرة الأولى بعد فترة طويلة، وقال إنهما "ناقشا الخروج من الأزمة الراهنة عبر مشروع وطني جامع لا يستثني أحدًا".
والتقى مناوي أيضًا، الذي كان ضمن الوفد الذي اصطحبه معه البرهان إلى نيروبي، الاثنين الماضي، بالرئيس الكيني وليام روتو في القصر الرئاسي بالعاصمة الكينية، وتطرق اللقاء إلى توحيد الجهود الدولية والإقليمية ومساعي دول الجوار والتنسيق بينها، ودعم منبر جدة في الوصول إلى وقف لإطلاق النار والعدائيات للأغراض الإنسانية.
لكن القيادي بقوى الحرية والتغيير المعز حضرة يؤكد أن مخرجات الزيارة لم تحمل جديدًا، ولا يمكن التعويل على دول الجوار بمفردها لإحداث تقدم على مستوى الحل السياسي، إلا إذا كان ذلك في إطار منبر جدة، وهو الوحيد الذي يشكل ثقلًا دوليًا من الممكن أن يقنع الطرفين بوقف إطلاق النار، وقد يأتي دور دول الجوار أو "إيجاد" في مرحلة لاحقة من خلال احتواء القوى السياسية وممثلي الشعب السوداني لبدء مرحلة انتقالية جديدة وصولاً لإجراء الانتخابات.
وهو ما أكده أيضًا المحلل السياسي سليمان سري، الذي أشار إلى صعوبة التعويل على زيارات من هذا النوع باتجاه إسكات أصوات البنادق، وقال إن تلك الزيارات في الأغلب تظل محاولة لكسب مزيد من الوقت.