استوقفني صديقي الذي يعمل في سوبر ماركت أسفل المنزل، ليسأل عن موقف المسيحيين المصريين من العدوان الإسرائيلي على غزة، وهل تغيَّر دعمهم القضيةَ الفلسطينيةَ برحيل البابا شنودة، ثم استطرد موضحًا أنَّ سبب سؤاله هو ما رصده من عدم اهتمام أغلب زبائنه المسيحيين بمقاطعة بضائع الدول الداعمة لإسرائيل.
فور وقوع عملية طوفان الأقصى، ومع بدايات الرد الإسرائيلي العنيف، أصدرت الكنيسة الأرثوذكسية بيانًا كُتب باستعجال، وقبل إعلان مصر موقفها الرسمي بوضوح، أكدت فيه رفضها واستنكارها الأحداث الجارية بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، وأنَّ العنف لا يُثمر سوى عنف مماثل.
من الطبيعي أن تدعو المؤسسات الدينية للسلام ووقف العنف، خصوصًا أنَّ عملية طوفان الأقصى شهدت قتل مدنيين واحتجاز رهائن من بينهم، وهما أمران مرفوضان، لكنَّ البيان في مجمله جاء ضعيفًا، ليس بمستوى ما حدث يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وما كان متوقعًا بعده من عمليات انتقام وعقاب جماعي وجرائم قتل واستهداف للمستشفيات والمدارس ودور العبادة، بخلاف تجاهل سياق تصاعد الأحداث في فلسطين ونتائج ممارسات الحكومة اليمينية في إسرائيل.
في مرحلة لاحقة، أصدرت الكنيسة بيانًا ثانيًا أقوى من حيث مضمونه أدانت فيه العنف الإسرائيلي غير المبرر الذي بلغ ذروته باستهداف المستشفيات، وأعلنت تقديم مساعدات إنسانية للأهل في غزة.
أخبرت صاحبي أن المسيحيين ليسوا خليطًا متجانسًا، سواء على المستوى السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي. فهناك تيار ينحاز للتوجهات اليسارية والقومية، وهناك تيار له حضوره الليبرالي القوي، أما التيار السائد فليست لديه أي انتماءات سياسية، وموقفه متقلب، وحسب اعتبارات كثيرة.
وبالتالي يدعم معظمهم، كمعظم المصريين، القضية الفلسطينية بشكل عام، ويرفضون الجرائم الإسرائيلية الحالية، لكنَّ ما يتفاوت هو الموقف من المقاومة، ودرجة الاهتمام بما يحدث. فهناك من يؤيدون حركات المقاومة بغض النظر عن انتماءاتها الأيديولوجية، ويرفضون أيَّ توجهات استعمارية مهما كان شكلها، يقابلهم قطاع محمَّل بمخاوف حقيقية من حركات المقاومة الإسلامية، ومنهم من يحدِّد موقعه وفقًا للنظام الحاكم ودرجة تصعيد خطابه أو تهدئته.
مخاوف مسيحية
يبدو تساؤل صاحبي منطقيًا من الناحية النظرية، خصوصًا في ظل المقارنة مع مواقف البابا شنودة الثالث؛ عروبيّ الهوى شعبويّ التوجه ذي الكاريزما الطاغية. لكن عمليًا، فالسياق الحالي أكثر تعقيدًا، ومساحات حرية الاختيار محدودة وتتأثر بعدة عوامل تحدد بوصلة توجهات التيار السائد من المسيحيين الأقباط.
أول هذه العوامل هو الخطاب الرسمي للكنيسة ودرجة حدته، وهذا يرتبط بدرجة استقلالية المؤسسة وكفاءة إدارتها، وقدرتها على حسم مواقفها وفعل ذلك في الأوقات المناسبة، إذ يختلف وضع الكنيسة في الوقت الحالي كليًا عما كان عليه قبل 2013. ولو أنَّ البابا شنودة، الذي طالما رفض كل محاولات الزج بالمسيحيين الأقباط في مسار التطبيع مع إسرائيل لدرجة تحدّي السادات، كان موجودًا في وقتنا الحالي، فلا أعتقد أنه سيكون قادرًا على اتخاذ مواقفه نفسها.
فقدت الكنيسة كثيرًا من استقلالية قرارها خلال السنوات الأخيرة لأسباب كثيرة، لا مجال الآن للحديث عنها، وأصبح موقفها في كثير من القضايا الإنسانية، قبل السياسية والاقتصادية، تابعًا لموقف النظام الحاكم تحت لافتة "دعم الوطن"، سواء بضغوط مباشرة منه، أو بإشارات خفية. وهو ما يؤطر كما أشرنا لعلاقة التبعية وقلة الحيلة، لا سيما مع ضعف إدارة المؤسسة الكنسية، وعدم تمتعها بالحس السياسي أو استعانتها بخبراء ومستشارين من أهل الاختصاص.
ينظر البعض إلى حماس جماعةً دينيةً ويتجاهلون وجهها الآخر الذي لا يمكن لعين منصف أن تخطئه
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل الموقف الرسمي والشعبي للمصريين من حيث مستوى دعم القضية الفلسطينية قبيل العدوان الأخير، الذي تأثر بما يمكن أن أسمِيه "شيطنة الفلسطينيين" وتحميلهم مسؤولية ما حدث ويحدث لهم، واعتبارهم مصدرًا للتوتر والتهديد الدائم على الحدود المصرية.
نأتي إلى ثاني العوامل المؤثرة. فقد دأبت أطراف عديدة على تديين القضية الفلسطينية وتحويلها إلى صراع بين مسلمين وبين يهود، بدلًا من كونها قضية احتلال واستعمار ، وقضية تحرر وطني.
لجأ المشروع الصهيوني إلى ميراث توراتي ليضفي حقًا دينيًّا وتاريخيًّا لليهود في أرض فلسطين، وعلى الجانب الآخر تعاملت حركات فلسطينية مع قضيتهم العادلة كصراع ديني في قلبه الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى، حتى إنَّ العملية المزلزلة الأخيرة أُطلق عليها "طوفان الأقصى"، وأعلنت حماس عدة أسباب للقيام بها، كان من بينها الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى.
لا يمكن أن نتناسى في هذا السياق تجربة حكم الإخوان المسلمين المريرة في مصر رغم قصرها، التي ألقت بظلالها على الوجدان المسيحي فحمَّلته بالخوف من تيارات الإسلام السياسي بشكل عام، أو حتى التيارات المدنية المستقلة، ودفعته للميل إلى حالة الاستقرار بدعم قوة الوضع الحالي.
وبالنظر إلى أنَّ حركة حماس هي جناح جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، عقائديًا على الأقل، ولديها أيديولوجيتها الدينية المعلنة وخطابها الذي يعمل على تديين الصراع بشكل كلي، وفيما لا تزال حقيقة اقتحامها الحدود خلال ثورة 25 يناير تؤلم الذاكرة، ينظر البعض إلى حماس كجماعة دينية استولت على السلطة في غزة بعد انتخابات تلتها موجة عنف ضد السلطة الفلسطينية، ويتجاهلون وجهها الآخر، الذي لا يمكن لعينِ منصفٍ أن تخطئه، حركة مقاومة لديها مطلب عادل بطرد المحتل من أراضيها.
في مواجهة المسيحية الصهيونية
ينتهك بعضُ ما قامت به حركة حماس القانون الدولي وحقوق الإنسان، ويُعرِّضها للمحاسبة الدولية. لكن لا يمكن لذلك بأيِّ حال أن يُستخدم لتبرير جرائم الإبادة ضد الفلسطينيين، ولا علاقة له بوجوب مساندة القضية الفلسطينية، وهو اختيار لا يجب أن يكون مشروطًا، ولا مرتبطًا بموقفنا من حماس أو غيرها من حركات المقاومة الفلسطينية.
ومع تديين هذا الصراع، تنشط المسيحية الصهيونية، وهي حركات مسيحية أصولية تؤمن بأنَّ قيام دولة إسرائيل من علامات الآخرة، ولذلك ترى دعمها واجبًا دينيًّا، ومن ثَمَّ تؤيد الادعاءات الإسرائيلية بأنَّ اليهود شعب الله المختار، وأنَّ فلسطين أرض الميعاد التي عادوا إليها بعد شتاتهم في بقاع العالم، بوعد الله لهم في التوارة.
في هذا السياق، يمكن اعتبار أنَّ سياسات الرئيس الأمريكي جو بايدن التي عبَّر عنها بقوله "لا أعتقد أنه يتعين عليك أن تكون يهوديًّا لكي تكون صهيونيًّا، أنا صهيوني"، تصب في صالح هذه المجموعات.
انتبهت كنائس الشرق الأوسط مبكرًا لهذا المخطط، ولعبت دورًا بارزًا في التصدي اللاهوتي، نظريًّا وعمليًّا، لهذه القضية. البابا شنودة أكد مرارًا أن "فكرة شعب الله المختار انتهت، فقد اختار الله شعبه أثناء الوثنية وعبادة الأصنام في الوقت الذي لم يكن بينهم من يعبد الله، أما الآن فهل من المعقول أن الله يترك آلاف الملايين الذين يعبدونه، ويتخصص في عدة ملايين احتلوا أرض فلسطين".
كذلك أسس القس نعيم عتيق، مدير مركز السبيل للاهوت التحرير بالقدس، في كتابه "الصراع من أجل العدالة" للاهوت التحرير الفلسطيني، مشيرًا إلى أن حركات التحرر التي وجدت سواء في أمريكا اللاتينية أو إفريقيا كانت تهدف إلى إعادة قراءة الكتاب المقدس على نحو يجعله أكثر صلة بواقع المجتمعات ومشاكلها، وأن كلَّ لاهوت تحرر يجب أن يخاطب بالضرورة قضية العدالة، وهي القضية الأساسية بالنسبة للفلسطينيين؛ مسيحيين ومسلمين.
ويشير عتيق إلى أنَّ الحركات الصهيونية والأصولية المسيحية تستعمل التوراة لتبرير الظلم الواقع على الفلسطينيين، لذلك من الضروري وضع النصوص التوراتية في سياقها التاريخي، وهي تعكس مفهومًا بشريًّا لله كان سائدًا في فترة زمنية تاريخية معينة.
أما القس الدكتور متري الراهب، رئيس كلية دار الكلمة في بيت لحم، فيصف ادِّعاءات المسيحية الصهيونية بأنها هلوسات دينية لا تمت إلى المسيحية بصلة، محذرًا في الوقت نفسه من ظهور ما يسمى الإسلام الصهيوني، وهو محاولة بعض الحكام الضغط على بعض الشيوخ المسلمين، كي يسوقوا إسرائيل للعالم المسلم كونهم يظنون أن إسرائيل هي حليفهم ضد إيران الشيعية.
بطبيعة الحال، أثرَّت هذه العوامل في درجة الاهتمام عند بعض المصريين بما يحدث في غزة، لكن في اعتقادي أن الأغلبية لم تتأثر بها، واتضح ذلك من خلال المشاركة الواسعة والمتنوعة في المظاهرات والوقفات الاحتجاجية الرافضة للعدوان الإسرائيلي، التي تحفظت غالبيتها على الهتافات الدينية مثل "خيبر خبير يا يهود" كُلَّما انطلقت، والتركيز على دعم الحق الفلسطيني في المقاومة والوقوف في وجه الظلم، ومطالبة حكامنا باتخاذ قرارات ناجعة ومؤثرة لوقف آلة البطش الدائرة.
ولحسن الحظ، لا يزال الضمير الإنساني العالمي حيًّا، وشاهدنا مئات التظاهرات التي نظمت في العواصم الأوروبية والأمريكية، بحضور منتمين إلى كلِّ الأديان، اتفقت على إدانة ما يحدث في غزة، والمطالبة بوقف الحرب على الأبرياء.