"إننا لا نستطيع إيقاف الضجة التي في الخارج، لكننا قادرون حتمًا على إيقاف تلك التي في داخلنا". المعلم البوذي ترونجبا
نشعرُ أحيانًا وكأننا في حالة تواصل مع العالم ومع الآخرين طوال ساعات يقظتنا، نكلّمهم ونسمعهم، نتلقّى أخبارهم ونبلغهم بكل ما يُستَجد في حياتنا، سواءً كانت تلك المُستجدات أحداثًا جليلة ذات شأن مثل حالات الوفاة والولادة والخطوبة والزواج وحوادث الطرق، أو كانت أمورًا بسيطة وعارضة من قبيل خاطر مفاجئ أو موقف صغير أو عبارة سمعناها أو حتّى وجبة نتناولها. من جانبه يُغدق علينا العالم بمعلوماته وأخباره من كل جانب ومن كل وسيطٍ ممكن، حتّى صار من المستحيل تقريبًا أن يجهل أحدهم ما يدور في أبعد بقعةٍ عنه. ربما يكون كل هذا تطوّر بديع وخلّاق وجدير بالاحتفاء والتقدير، لكن أهو حقًا مجاني؟ أليس له ثمن ما؟ ألا يأخذ من كل إنسان شيئًا في المقابل؟ والسؤال الآخر: هل هذا تواصل حقيقي وعميق إلى الحد الذي يُلبّي احتياجات روح الإنسان ويروي عطشه؟
بصورةٍ أو أخرى، تحوّلت بعض تلك المواقع، فيس بوك مثلًا، إلى نسخٍ افتراضية من مشاهد حياتنا اليومية بنفس زحامها وضجيجها، انتقلت إلى الشاشات الأسواقُ وساحات المعارك والجدل وضروب الإغواء والتسويق والدعوة للعقائد والاحتفاء بالنجم المفضّل وصيد شريك الحياة، إلى آخر الأنشطة الإنسانية المعهودة. وسط ذلك الصخب يعيشُ أغلبنا برد الفعل، كأنه يجد نفسه مضطرًا للتجاوب مع أحدث القضايا المطروحة، سواء كان هذا الطرح جادًا أم هزليًا أم مزيجًا منهما معًا. صحيح أننا من خلال هذا الاحتكاك الصحي نصقل آراءنا ورؤانا، لكننا أيضًا ربما لا نجد أي فرصة لمراجعة وتأمل تلك الآراء والرؤى، مدفوعين بضرورة الإدلاء بدلائنا، وبأهمية المشاركة، قد نظل طويلًا نكرّر أفكارنا نفسها وندافع عنها، مُصطفّين إلى جانب جماعةٍ واضحة ومعادين جماعاتٍ أخرى، وهكذا ننسى أن نرى وأن نُنصت وأن نلتمس زاويةً جديدة للنظر. باختصار ننسى مذاق العُزلة والتأمل في صمت بعيدًا عن الزحام والصخب.
في مقابل الضجيج الخارجي، في الواقع المادي أو الافتراضي، ثمّة ضجيج آخر أشد وطأة وخطورة، وهو ذلك الصخب الأخرس داخل كلٍ منا، جلبة الأصوات المتنافرة وجوقة الأدوار الاجتماعية المتباينة التي نلعبها خلال حياتنا. نتوقُ لعزفٍ منفرد، نتوق لنغمة واحدة نُسْلمها أنفسنا، وهُنا أيضًا تكون العزلة كلمة السر، والتأمّل في صمت هو الخطوة الأولى نحو غربلة ضجيج الأصوات الداخلية، نحو الإنصات لها ومعانقتها وتفهمها بصبرٍ وأناة وتبيُّن منابعها وتخيّل تبعاتها وفرز الطيّب من الخبيث، الأصيل من الفالصو.
قد نعتقد أحيانًا أننا نمارس هذا التدبّر تلقائيًا بينما نسعى في شؤوننا اليومية، لكنّ هذا ليس تأمّلًا، بل تفكيرًا اضطراريًا في مسائل لا بدّ من حسمها سريعًا للمضي قدمّا. نتخذ ألف قرار ونحن موصولون بالإنترنت ونتحدث ونستمع ونشرب ونأكل ونسهمُ بآرائنا ونجادل وننتصر وننهزم، كأن ثمة جوعى يعيشون في أحشائنا، جوعى لمعمعمة المعارك، هؤلاء حقيقيون، لكنهم لو نالوا فرصةً للراحة والصمت لاعترفوا بشوقٍ آخر، أعمق وأهدأ، بشوقهم لهَدهدة الهُدنة الهانئة.
لطالما كان الصمت مُقدّسًا، ولطالما عُرفَ الصوم عن الكلام كوسيلة تقرّب إلى الله، أو أداة للتواصل مع الجليل والسامي في معظم الأديان. "فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا". هُنا، السيدة مريم لن تكلّم الناس، لكنَّ بوسعها أن تتواصل مع غير الناس، مع مستوى أسمى من الوجود. وقد نجد في خواطر عقولنا وسَبْحات نفوسنا دُنيا أخرى موازية، حافلة بكل مدهش وغريب ونادر، المفارقة أن شرط الوصول إلى كل تلك الكنوز الدفينة هو تهدئة العقل، أو بمعنى ما تهدئة الأصوات الببغائية التي لا تتوقف عن ترديد إسطواناتها المشروخة في رؤوسنا من لحظة اليقظة إلى لحظة المنام، بل إنّ بعضها يتسرّب من نومنا فارضًا نفسه على أحلى أحلامنا.
الرهان إذن هو القدرة على إخراس تلك الأصوات، وهو رهان ليس سهلًا، وله تقنيات بسيطة وأخرى معقدة في عالم التأمّل الباطني سواء كرياضة روحية لا تتصل بأي دين أو كرياضة مجاهدة للنفس نابعة من أحد الأديان. الرهان إذن هو الاستماع للصمت، مهما بدا ذلك مفارقة مخبولة، الصمت الذي وصفه جلال الدين الرومي بأنه لغة الآلهة، وكل ما سواه مجرد ترجمات رديئة. ولعلّ الترجمة هي عمل البَشر الأوّل والأهم، ترجمة الصمت، في الدين والفن والفلسفة والعلم الطبيعي، نحاول أن نكسر قشرة صمت السماء، نحاول أن نستنطق الكون ونفضح أسرار الوجود، وهكذا ننتجُ ضجّة برج بابل، وكم من مفقودات ثمينة تضيعُ مع كل ترجمة.
وتنشأ مشكلةٌ أخرى عندما يتمسّك كلٌ منا بترجمته الخاصة، ويعلنها الترجمة الوحيدة الصحيحة لصمت الآلهة وكل ما سواها باطل. يحاول أن يفرض لغته على الأرض والسماء والوجود، وأن يفسّر لنا اللغز كله وفقًا لقاموس الجيب الذي يحتفظ به قريبًا من قلبه على الدوام. ومن وراءه، ومن وراء لغته ولغوه، يبقى الصمتُ متعاليًا، بوجهٍ باسم، يبقى محيطًا بكل شيء، يبقى أغزر وأوسع من أن يحيط به فكرُ أو خيال أو لغة أو عقيدة. وهكذا، في الصمت الحي يموت كل نداءٍ باطل.
لن تتفتح وردة الصمت إلّا في ظلال العزلة والابتعاد عن زحمة السوق، ومتع الخلوة ليست وقفًا على الأنبياء والقديسين وحدهم، بل هي نبع فيّاض متاح لكل إنسان، يجري تحت أقدامنا جميعًا، ما علينا إلّا أن ننحني عليه لنرتوي. هذه العُزلة ليست انطواءً أو انسحابًا، ليست فرارًا من حَرب الحياة، من معارك الشرف ولقمة العيش ورعاية الآخرين، بقدر ما هي استجمامًا وتغذية، هدنة واستراحة، وأيضًا مواجهة لكل شياطين الداخل والأصوات العابثة والزائفة. هذا الصمت ليس خرسًا عاجزًا أو بطالة جديرة بالكسالي وفقراء الروح، بل هو تأني وإرهاف سَمع واستعداد متواضع لتلقّي نِعم الكون والإنصات للنغم الساري في أوصال الحياة.
فقط لساعةٍ أو بعض ساعة، لبعض الوقت، لبرهةٍ مسروقة من خِزانة الزمن، ثم يحين موعدُ الرجوع والخروج إلى دُنيا الناس. نعود ممتلئينَ بطاقةٍ جديدة، وقدرة مُتجددة على الدهشة والتمييز والتورّط في العالم دون الغَرق فيه، واحتضان كل ترجمة للصمت وللغز على أنها احتمال آخر ظريف، وإمكانية موجودة في لغةٍ بعينها، قد تُكملُ الصورة إذا ما تعاونتْ مع ترجماتٍ أخرى ولغاتٍ أخرى، وعلى هذا الطريق نستمتع باستكمال تجميع وتنسيق قطع اللغز المبعثرة شيئًا فشيئًا، دون ضجر، ولا شكوى من أن الصُور – يا للحسرة – تتبدّل أبعادها كل لحظة.