منشور
السبت 21 أكتوبر 2023
- آخر تحديث
الأحد 22 أكتوبر 2023
تخون الذاكرة البشرية، ولا سبيل لوقف خيانتها. فمن الذي يستطيع أن يحتفظ بكلام سمعه كما نطق به صاحبه؟ ومن بإمكانه، مهما كانت له ذاكرة لاقطة وحافظة، استعادة الكلام كما هو بعد مرور زمن عليه، دون زيادة أو نقصان؟ الإجابة بالطبع: لا أحد، إلا على سبيل المجاز أو الافتراض، وبعضه تحمله الأساطير.
ولأن أغلب المتداول بين الناس يأتي شفاهة، ضاع الكثير منه في زحام كل جديد، وذاب مع الأيام التي تتوالى بلا هوادة، لا سيما أن كثير الكلام يُنسي بعضه بعضًا.
في سالف الأيام لم يحفل الساسة والمثقفون والوجهاء وقادة الرأي بالحكمة التي تقول "إن كنت كذوبًا فكن ذَكورًا"، فجميعهم كانوا يعولون على أن لأغلب الناس ذاكرة السمك أو الذباب، وحتى أصحاب الذاكرة الأقوى يمكن التشكيك سريعًا في ما يواجهون به صاحب الكلم، كأن يتوجه هذا إليهم قائلًا في ثقة أو تبجح "لم أقل هذا حرفيًا، أو: أنتم تأتون بكلام من عندكم، أو: أنتم تتقولون عليَّ، أو: أنتم تحرفون الكلِم عن مواضعه، أو أنتم تتخرصون ولا بد من عقابكم".
حجية المكتوب وصعوبة استعادته
صار وحده الكلام المكتوب هو ما يحمل حجية في مواجهة من تكملوا، وحتى هذا بقي محل تشكيك، فالصحف إن نقلت تصريحًا لأحدهم يمكن أن يُقال إن المحرر صاغ الكلام بطريقته. في الوقت نفسه، لم تكن العودة إلى التصريحات هذه متاحة للجميع، فقلة هي التي تعود إلى أرشيف الصحف، وفي بعض الأحيان لا يكون الأرشيف متاحًا لمن أراد، وليس هناك ما يضمن ألا يضيع بعضه في زحام الأحداث والأخبار.
لم يعد هناك دليل دامغ أو حجة قاطعة على قائل الكلام إلا في المقالات المنشورة في الصحف، والدراسات والأبحاث والكتب، وهذه أيضًا لا تطالعها سوى القلة. وهناك أيضًا الأحاديث الإذاعية والمتلفزة المحفوظة في أرشيف المؤسسات الإعلامية، وليست كلها متاحة للجمهور، وكثير منها قد يعطب أو يبلى مع الزمن.
وحين اختُرع الكاسيت، ثم الفيديو، لم ينشغل الناس بتسجيل أحاديث الساسة وقادة الرأي والعلماء قدر اهتمامهم بتسجيل الأغاني والمسلسلات والأفلام والمناسبات الخاصة. وكثير من هذه الشرائط عرضة أيضًا للضياع أو التلف بمرور الأيام، وإن بقيت لا تُستعاد إلا في مناسبات محددة.
ظلت الفرصة سانحة، خصوصًا للساسة، أن يتنصلوا من أقوال الأمس، إن وجدوها تمثل عبئًا على حاضرهم، فيبدلون أقوالهم وفق تبديل مواقفهم، وهم في مأمن من الملاحقة والمطاردة والمواجهة، ولديهم قدرة على التلاعب بالأذهان والعواطف كيفما شاءوا. فلكلِّ موقف كلام، ولكل حادث حديث، وعلى الناس ألا يتعاملوا سوى مع ما سمعوه الآن، فإن أرادوا استعادة من سمعوه في الماضي، فالطريق إليه ليست مفتوحة ولا يسيره.
لكن الذاكرة الإلكترونية أتت لتجب الكثير من النسيان الذي كان في الماضي، لا سيما أنها تتمتع بخصائص لم تتوفر لغيرها، من قدرة على تخزين الكثير من الصور والفيديوهات والكلمات والتصريحات، واستعادتها كما هي، دون زيادة ولا نقصان، إلى سهولة الاستعادة والاستعارة.
كما أنها تمنح إمكانية التداول السريع والسلس، فهي ذاكرة متاحة للناس أجمعين وبوسع أي شخص أن يُخزن على هاتفه أو حاسوبه منها ما يشاء، وعندما يستدعيها، يستعديها شاملة، حيث تحضر الصورة والحركة مع الكلام في دقة، وكما جرت في الواقع الذي ذهب به الزمن.
وأخيرًا، فهي توفّر القدرة على اقتطاع أجزاء معينة من القول، وتكرارها، وتركيب الكثير مقتطعًا من مواقف عدة متوالية، لإثبات التكرار، أو التناقض، عبر المضاهاة، ثم عرضها أمام الملايين.
عزز الذكاء الاصطناعي القدرة على الاختلاق والافتراء، لكنه في المقابل وفَّر فرصة أفضل للتحقق
وهناك ذاكرة إلكترونية يمكن التحكم فيها بسهولة من قِبَل مؤسسات خاصة أو سلطات مستبدة، مثل أن يحذف رؤساء تحرير مقالات بثوها على مواقع صحفهم قبل الثورة، لأنهم دافعوا فيها عن النظام الذي ثار عليه المصريون. ثم امتد الأمر فيما بعد إلى قيام مؤسسات بمحو أرشيف الصحف في سنوات السيولة السياسية التي بلغت فيها حرية التعبير ذروتها، ونُشرت أخبار وتحقيقات ومقالات عن كل ما كان مسكوتًا عنه أيام حكم حسني مبارك، ولا يجرؤ أحد على الإتيان على ذكره، باعتباره خطًا أحمر.
لامركزية السوشيال ميديا
لكن في المقابل، هناك ذاكرة يصعب على رؤساء تحرير صحف أو أي شخصيات تنتمي لسلطات مستبدة الوصول إليها، وإن لم يكن هذا مستحيلًا؛ الذاكرة التي صنعتها السوشيال ميديا، وتبقى مفتوحة أمام كل من يريد أن يغرف منها، ويكون بوسعه أن يخزن الكثير مما غرفه على هاتفه الذكي، أو حاسوبه المحمول على قدر السعة، ويمكنه أن يدخر ما يريد على مختلف وسائل الحفظ الإلكترونية، والتي بوسعها أن تحوي آلاف الأفلام وملايين الصور.
إن مثل هذه الذاكرة لم تعد مركزية في يد مؤسسات وسلطات، يمكنها حجبها عمن تريد، أو تفرج منها عما يحقق مصلحتها، أو يضر بمصالح خصومها، بل صارت في يد الأفراد العاديين، في الريف والحضر، وفي الشوارع الخلفية والأحياء المسورة المرفهة، على اختلاف الطبقات والأعمار ومستوى التعليم والثقافة.
صارت الذاكرة الإلكترونية واحدة من الوسائل القوية في يد المجتمع في مواجهة السلطة، وفي يد العوام في مقابل النخبة، ومنح انسياب هذه الذاكرة وتنوع محتواها وتعدد القوالب التي تتهادى فيها، الناس قدرة على توظيفها في الرد والصد، وفي النقد والتفنيد، وفي المراجعة والمحاججة.
أعطت الذاكرة الإلكترونية للجمهور وسيلة يواجهون بها محترفي الكذب من الساسة والمثقفين، وأعطتهم ساحة السوشيال ميديا المفتوحة على العالم فرصة وقدرة للرد الآني على هؤلاء، من خلال التعليق أو الإعجاب أو المشاركة، وفي الوقت نفسه وفرت على خصومهم الممكنين أو المشهورين مادة يستخدمونها في الرد والتعقيب والتعقب وربما العقاب.
هذا لا يعني أن الذاكرة الإلكترونية بريئة طوال الوقت من التزييف، سواء بشكل بسيط عبر اقتطاع عبارة من سياقها، أو بأسلوب أكثر تعقيدًا، من خلال إعادة ترتيب الكلام على نحو يفسد المعنى ويبني حجة باطلة، وقد يسهم في الإساءة إلى كثير من الشخصيات العامة. وجاء الذكاء الاصطناعي ليوسع من القدرة على الاختلاق والافتراء على نحو لا حد له، لكنه في المقابل وفَّر فرصة للتحقق من المادة المبثوثة لمعرفة الحقيقي فيها من المزيف.
هذا التزييف على رفضه بالطبع، أخلاقيًا، وتجريمه قانونيًا، فإنه، من الناحية الموضوعية المجردة، يعطي المجتمع فرصة للكيد لسلطة مستبدة أو الانتقام منها، لا سيما إن كانت هذه السلطة تكذب على خصومها أو منافسيها، بإطلاق الشائعات ضدهم، أو تلعب على ضعف الذاكرة الطبيعية للناس، فتقول لهم اليوم ما تنفيه غدًا، ثم تستمرئ الكذب عليهم.