لا يخلو مجتمع من نميمة، فهذه واحدة من خصال أغلب الناس إن اجتمعوا، وأحاط بهم الفراغ أو ملأ نفوسهم، وبحثوا عن تسلية وتسرية مؤثمة، تحمل من الشر جزءًا من جاذبيته التي خلقه الله عليها ليُغري ويُغوي، ويصطاد الذين يحومون حول الخطأ والخطيئة.
والنميمة بالنسبة للبعض أشبه بالفلفل الحريف الذي يصاحب وجبة طعام ما، ولكنَّ هذا الفلفل يمكن أن يزيد ليصبح كل الوجبة، وهنا تكبر المشكلة، وتُلقي بظلالها السيئة على المجتمع برمته، حيث ينخرط في ثرثرة فارغة يستعملها في التشويه والتجريح والتشكيك في الكل، بما يهدم أي "مُثل" أو "نماذج" إنسانية، تحمل قيمًا إيجابية يحتاج الناس إليها.
لكنَّ الثرثرة التي يخوض فيها الناس لا تقتصر على النميمة، إنما تمتد أيضًا إلى أحاديث عفوية حول كلِّ شيءٍ تقريبًا، تأتي على ألسنة الجميع في كل مكان؛ غرف الاستقبال بالريف والمدينة، نواصي الشوارع في القرى والأحياء الشعبية. على المقاهي والمصاطب بالنسبة للرجال، وأمام عتبات الدور الريفية بالنسبة للنساء.
هذا موقف بات معروفًا في الريف، يُلخصه مثل شعبي يقول "الإبرة والخيط، مع الرجالة في الغيط"
تحت ظلال الأشجار في حقول الفلاحين، وعلى أطراف الأسواق وحول مكاتب الموظفين الذين يعانون من بطالة مقنعة، أو حتى في عنابر السجون، وأوقات راحة جنود يؤدون الخدمة العسكرية، أو طلاب يقطنون المدن الجامعية.. إلخ.
ولا يختلف الأمر باختلاف الثقافة، فقد شاهدنا كيف يجتمع مثقفون في مقاهيهم يتحدثون عن أبناء مسارهم، بالحَسن أو السيئ، فيستعرضون الناجحين لمعرفة كيفية الاستفادة من تجاربهم، أو للحط من شأنهم، لإراحة نفوس المتكاسلين والمعوقين وغير المتحققين.
وشاهدنا كيف يحرص الفلاحون أثناء كدحهم تحت الشمس الحارقة على جذب حكاية أو موقف أو أمثولة أو تجربة أو شخصية ما، يتحدثون عنها، ويزيدون في هذا، بحثًا عن تسلية تساعدهم على مواصلة الكد الصعب. وهذا موقف بات معروفًا في الريف المصري، يُلخصه مثل شعبي تردده النساء دومًا، يقول "الإبرة والخيط، مع الرجالة في الغيط".
إن الخائضين في مثل هذه الأحاديث يشكلون أحيانًا مجموعة متجانسة من الأصدقاء أو الرفاق أو من يميلون إلى بعضهم بعضًا ارتياحًا، ويجدون أنفسهم ينتقلون من موضوع إلى آخر، فقد يبدؤون بمشكلة أحدهم، أو شخص آخر يعرفونه، ليأخذهم هذا إلى كلام في الاقتصاد عن غلاء المعيشة، ثم السياسة وتصاريفها، ليدخلوا إلى حديث عن كرة القدم، ثم الجنس، ويعودون إلى أحوال المجتمع، فالاقتصاد فالسياسة فالرياضة، وهكذا يكون الحديث دائريًا، لا يهدف في الغالب الأعم إلى تقدم يساعد في حل مشكلة، أو إسداء نصيحة، أو إبداء رأي ذي اعتبار. ويتكرر هذا كل يوم، أو كل أسبوع، حسب اللقاء المتفق عليه، دون أن يخرج بعيدًا عن تلك الدائرة.
إنها الحالة التي يطلق عليها الكاتب والناقد علاء الدين سعد جاويش اسم "المخبصة"، ويرى في كتابه عن حكاوي المخبصة.. قراءة ساخرة لأوضاع مصر الحاضرة، أنه لا توجد قرية ولا حي شعبي، ولا مكان فيه تجمع بشري، إلا ويشهد مثل هذه "المخبصة"، التي ربما ينجو منها الأطفال الرضع، والمجانين، والمحبوسون انفراديًا، والمصابون باضطراب التوحد أو الذين سقطوا في اكتئاب مفرط، أو في ساعات الاستغراق في العمل لأهل المهن التي تتطلب يقظة تامة وتركيزًا شديدًا.
الشروط الستة للمخابص المفيدة
لا تخلو المخابص من فائدة، فهي تجعل من أصحابها جماعة ثانوية، بينها تفاهم، وتمنحهم فرصة للتسلية والتسرية عن النفس، وفيها يجد بعض الناس إجابات عن أسئلتهم، وحلًا لمشكلاتهم، حتى لو لاكتها الألسنة المتعطشة للنميمة.
هذه الظاهرة حفظت لكثير من الشخصيات التي تلعب أدوارًا مهمة في المجتمعات المحلية وجودها
لكن الفائدة من تجمعات الثرثرة، أو ضررها، تحددها ست أمور في رأيي، يمكن ذكرها على النحو التالي:
1ـ الوقت الذي تستغرقه، فبعض جلسات الخوض في سير الناس وأحوالهم قد تمتد ساعات طويلة، يقضيها أصحابها في عمل غير منتج، وبعضهم قد يستهويه هذا فيعطيه من وقته الكثير، ويخصمه، بإرادة منه أو دون ذلك، من وقت الكد، الذي هو المعيار الحقيقي لخلق القيمة في المجتمع.
2ـ القضية التي يتم التطرق إليها، فبعض الجلسات لا يتم تحديد موضوع للمناقشات والجدل الذي يدور فيها، فتبدأ وتنتهي دون تركيز، وبلا خيط ينتظم فيه الكلام، متقدمًا إلى الأمام نحو شيء مفيد. أما إن كانت هناك قضية، حتى لو تم الخروج عنها أحيانًا، فإن هذا يجعل للكلام جدوى، فيقوم المثرثرون في نهاية الجلسة، وهم يحملون بعض المعاني والقيم التي تساعدهم على فهم مجتمعهم، وقد يحرصون على أن ينعكس هذا الفهم في سلوكهم أو تصرفاتهم، فيكثر العائد.
3ـ ثقافة الأشخاص المنخرطين في النقاش والجدل وتنوع توجهاتهم، فهذا من شأنه أن يثري الحديث، حيث تنعكس الخلفيات الذهنية والمعرفية عليه، فيصبح أعمق مجرى، وأكثر جدوى، ولا يسقط في فخ الثرثرات الفارغة، التي تغلب عليها التخاريف والمعلومات المشوهة التي تطمر الحقائق، وتجعل الحديث ينزلق من النقاش المحدد إلى الجدل العقيم.
4ـ الأهداف التي يصبو إليها المتحدثون، فهم إن حددوا لكل جلسة هدفًا، أو قرروا قصدًا عامًا لجلساتهم، يبتغون من ورائه أن يخرجوا بقرار أو حكمة أو معنى، يحمله كل منهم في رأسه وقت انصرافه، فإن هذه الجلسات تخرج من دائرة الثرثرة الهائمة، وتستقر في اتجاه فائدة، يعرفها كل منهم ويقدرها على نحو جيد.
5ـ الظرف أو الحال الذي تعقد فيه النقاشات. فبعضها يأتي وقت أزمة طارئة، أو مشكلة تفرض نفسها على ساكني شارع أو حارة في مدينة أو أهل قرية أو أعضاء جماعة من المثقفين أو الموظفين. ومن هنا يمكن أن يكون الحديث بين المجتمعين مفيدًا في مواجهة الأزمة، أو حل المشكلة، أو على الأقل اتخاذ موقف جماعي متقارب أو متجانس منها.
6ـ مدى إدراك المتناقشين لحدود الصواب والخطأ، والحلال والحرام، فيما عليهم أن يخوضوا فيه. فإن لم يكن بين هؤلاء من يحمل هذا الإدراك، صارت النقاشات والثرثرات نوعًا من النميمة الزاعقة، التي لا ترمي إلا لتلويث السمعة، وإثارة الحسد والحقد والضغائن.
أما إن كان كل الخائضين في سير الناس وأحوالهم يحكمون حديثهم فلا ينزلق إلى ما يضر، فهذا يؤدي إلى نتائج أفضل، ولو كان المتناقشون متنوعين أو متدرجين في حالهم هذا، رد الأتقياء فيهم المنفلتين، وأعادوا الحديث إلى جادة الصواب.
حيوية التاريخ الشفاهي
وعلى أي حال، فإن تجمعات الثرثرة تحمل جانبًا مهمًا من التاريخ الشفاهي لأي جماعة إنسانية، وهو تاريخ أعرض وأغزر من التاريخ المكتوب، أو الدراسات الاجتماعية، التي تميل إلى استعمال مناهج محددة بمقاربات علمية مقننة، تفتقد معها سحر الحكايات.
إن هذه الظاهرة حفظت لكثير من الشخصيات التي تلعب أدوارًا مهمة في المجتمعات المحلية وجودها، وهي التي تمضي حياتها بعيدًا عن أعين المؤرخين الرسميين، وإن عرفوا عنها، يهملونها تحت وهم أنها ليست ذات اعتبار. فكم من فلاح مجتهد أو فصيح، وكم من عامل مناضل، أو موظف أمين مخلص، ظلت سيرهم قائمة في الأماكن التي حلوا بها بفضل المتخابصين.
وتحفظ هذه الظاهرة تاريخ العائلات وأنسابها، التي يورثها الطاعنون في السن للشباب، فإن كبر هؤلاء قصوها على مسامع القادمين إلى الحياة، فيستطيع الحاضرون أن يعرفوا جيدًا طرفًا عفيًا من تاريخ الذين رحلوا، وهي مسألة مهمة في الريف المصري.
كما أن تجمعات الثرثرة، إن درسناها جيدًا، يمكن أن نعرف منها طريقة التفكير السائدة بين عموم الناس، والتي هي ضرورة لكل من يضع تصورًا للنهوض بالمجتمع المحلي.