منذ أيام، أمر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت بفرض حصار كامل على غزة، قائلًا إنه لن تكون هناك كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، فنحن نقاتل "حيوانات بشرية" ونتصرف وفقًا لذلك.
يؤمن المستوطنون الصهاينة أنَّ الفلسطينيين فئة دون البشر، هذا الإيمان شرط لوجود إسرائيل نفسها، فلو كان الفلسطينيون بشرًا كاملي الأهلية، لما وُجِد أساس أخلاقي لاستعمارهم، وكونهم بشرًا كاملي الأهلية فهذا يعني استحقاقهم للمساواة المواطنية في إطار الدولة الواحدة.
الاستعمار ليس مجرد فتح وبلطجة بقوة السلاح، بل يجب أن يستند إلى مشروعية تبرر وجوده. وجزء رئيسي من هذه المشروعية يتحدد على رؤية المستعمِر للطرف الخاضع لحكمه وسلطته. الاستعلاء الصهيوني لا يمكن رده فقط إلى رؤيته لذاته كشعب مختار من الله، بل يجب أن يكتمل بالإيمان بعدم أهلية السكان الفلسطينيين للمساواة.
كان الإنجليز مثلًا يروننا شعبًا وأمة، لذا لم يأخذ احتلالهم لنا أي صيغة رسمية، إلا خلال سنوات أربع أعلنوا فيها الحماية على مصر (1914- 1918)، لكنهم رأوا في شبه القارة الهندية مجموعة من الجماعات والشعوب التي لا ترتقي إلى مصاف "الأمة"، لذا أخضعوهم للتاج البريطاني، في حين أخرجوا السكان الأصليين لأستراليا من نطاق الأهلية البشرية من الأساس، فإما أبادوهم أو أعلنوهم كينونات غير مرئية خارج نطاق القانون.
في الحالة الفلسطينية، احتاج الأمر عقودًا طويلة ليعترف المستوطنون الصهاينة بوجود شعب فلسطيني من الأساس. كانت جولدا مائير تسفسط قائلة إنها ظلت فلسطينية حتى عام 1948، لأن فلسطين هذه كانت المسمى الجغرافي للأرض التي تأسست عليها دولة إسرائيل، ولكن لم يكن هناك شيء اسمه شعب فلسطيني، بل "سكان عرب" و"شعب يهودي".
أثناء المفاوضات التي سبقت تفاهمات كامب ديفيد عام 1978، رفض الإسرائيليون وضع اسم فلسطين أو اسم منظمة التحرير الفلسطينية على الطاولة، وكذلك العلم الفلسطيني، وكان سقف تنازلهم هو أن يجلسوا على مائدة المفاوضات بلا علم وتحت اسم "العرب الفلسطينيين"، ينسى البعض أن رفع العلم الفلسطيني ظل حتى آخر الثمانينيات جريمة تستوجب المحاكمة في المناطق الخاضعة لإسرائيل، بما فيها غزة.
لستم رجلًا أبيض ولسنا هنودًا حمر
فيا ترى ما الذي أغضب وزير الدفاع الإسرائيلي لدرجة وصفه صراحة مليوني إنسان في غزة بـ"الحيوانات البشرية"؟ هل هو قيام الفصائل الفلسطينية بقتل مئات الإسرائيليين؟ أم امتلاكهم القدرة والكفاءة التي مكنتهم من قتل مئات الإسرائيليين وأسر العشرات منهم؟
من تقاليد أنماط الاستعمار الاستيطاني، اعتذار المستعمر عمَّا ارتكبه من إبادات بحق السكان الأصليين، ولكن شرط إتمام هذه العملية بنجاح شديد ومرور زمن طويل على فعل الإحلال السكاني. بعدها يمكن تكريم من تبقى من أحفاد ممزقين لهذه الجماعات التي أُبيدت، فيحصلون على بعض الحقوق وبعض التعويضات وكثير من الدموع وفيض من مشاعر الذنب الممتعة.
الصهاينة ليسوا المستوطن الإنجليزي في القرن الثامن عشر، والفلسطينيون ليسوا هنودًا حُمر فى المقابل
كان السكان الأصليون في أمريكا الشمالية يُسمُّون "هنودًا حمر" وتصورهم أغلب أفلام السينما التجارية الأمريكية أشرارًا بدائيين، يركبون الخيول ويصيحون صيحات حيوانية. أشباه بشر يستحقون القتل بالرصاص طالما يحاربون بالقوس والسهم وتيجان الريش. تغير الأمر قليلًا من منتصف السبعينيات، وبالتدريج أصبح السكان الأصليون في أمريكا محل احتفاء وبدأ الحديث عن معاناتهم، وأقيمت لهم المتاحف والمباكي.
في المسألة الفلسطينية، الصهاينة ليسوا المستوطن الإنجليزي في القرن الثامن عشر، والفلسطينيون ليسوا هنودًا حُمر في المقابل. المعادلة مستحيلة من الأصل وأصبحت أكثر استحالة في هذا الزمن، حاول الفرنسيون معاملة الجزائريين بهذه القاعدة وفشلوا فشلًا مُهينًا، وانتصر الجزائريون بالدم والنار، وذلك رغم أن الجزائريين ظلّوا لقرن من الزمان شعبًا مقموعًا متقطع الأوصال. شيء ما يمنع شعوب هذه المنطقة من التحول إلى هنود حمر حتى وهم في أوضاع شديدة التخلف والبدائية.
السردية الصهيونية هي الأخرى متناقضة ومضطربة، فهي تقدم نفسها حركة عودة قومية، تحمل مظلومية عابرة للجغرافيا. هي ليست مجرد استعمار استيطاني فخور بجبروته واستعلائه على البدائيين الهمج، بل أيضًا سردية مظلومية في مواجهة الأوروبيين الذين طالما عاملوا اليهود بشرًا أدنى أو دون البشر، فنحن في منطقتنا العربية لا نفهم ولا نستوعب جريمة الهولوكوست لأننا ببساطة لم نشارك فيها، بل أصبحنا ضحايا لعُقد الذنب الأوروبية المتولدة عنها.
لستم مأساة ولسنا أرقامًا
للصحفي الألماني كيرت توهولسكي مقولة نُسبت خطأ إلى الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، تقول إن موت فرد واحد مأساة وموت مليون إحصائية.
عادة ما تبدأ القصص الصحفية الأمريكية من مطبخ بيت أو مشاعر إنسان أو ممارسة يومية عادية لفرد ما، ليكون ذلك مدخل الاشتباك مع موضوع أكثر عمومية. دائمًا ما يؤكد الأمريكيون أن كل شيء يبدأ من الفرد، حتى أن الأفلام الهوليودية التي تبشر بنهاية البشرية تعطي البطل الأمريكي، منقذ البشرية، أولوية لإنقاذ أسرته أولًا، بل ربما يخاطر بدمار العالم كله، في سبيل هذا الهدف الأسمى.
يقرر الأمريكيون ومن خلفهم الإسرائيليون مَن هم الأفراد ومن هم الإحصائيات، ينزعج مقدمو البرامج الأمريكية هذه الأيام من تذكيرهم بأن مئات وآلاف الفلسطينيين ماتوا ويموتون تحت أنقاض القصف الجوي الأعمى، لأنَّ عليك أيها المشاهد أو المعلق ألا تخلط بين الفرد والإحصائية.
الفرد ستعرف قصته، هواياته، ناديه المفضل، الموسيقى التي يحبها، عليك أن تشاركه مشاعره وتتوحد مع همومه وأزماته الشخصية. أما الإحصائية فعليها الشكر لأن هناك من يحصيها من الأصل، فالسوريون الذين أبادهم بشار الأسد مُختلف على أعدادهم، أما اليمنيون الذين أبادهم العرش السعودي فلا رغبة لأحد في إحصائهم من الأساس.
في إحدى الحروب السابقة التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين في التسعينيات، كان الناس يتداولون قصة عن طيار إسرائيلي سُئل عن مشاعره وهو يقصف تجمعات سكنية مدنية فلسطينية، فردَّ بأنه لم يشعر بشيء لأن تلك المنازل تبدو صغيرة جدًا من السماء.
لذا فربما انفلت لسان وزير الدفاع الإسرائيلي لأنه أدرك أن نجاح العملية العسكرية الفلسطينية جعل منهم إحصائية، مثلما كان يهود أوروبا إحصائية على يد الإجرام النازي. لذا عظَّم الناجون من المحرقة قيمة الفرد، بحيث يمكن أن يبادل الاستيطان الصهيوني أكثر من ألف أسير فلسطيني مقابل جندي واحد أسير اسمه جلعاد شاليط منذ 12 سنة.
نعيش في مرحلة تحاول وضع خطوط فاصلة بين البشر وأشباه البشر وما دون البشر، بشكل عابر للهويات والحدود السياسية
لكن ما الحيلة الآن وهناك 900 قتيل وعشرات الأسرى؟ لا حل سوى الإبادة، خاصة بعد أن عينوا ومنذ زمن قطاع غزة كحديقة حيوانات بشرية مفتوحة، تحيطها أسوار ومجسات، فإذ بحديقة الحيوان تُقْدم على ما أقدمت عليه.
تطلق إسرائيل لفظ المخربين (مخابيلم) على كل فلسطيني قاومهم، بداية من ياسر عرفات وجورج حبش وحتى أصغر شاب ملثم هذه الأيام، ووصفهم بالمخربين يأتي معطوفًا على كونهم مجرمين خارجين عن القانون. فإسرائيل ترفض الندية في علاقة العنف المتبادل، هي شرطة تتعامل مع مجرمين، والأصل هو تركيعهم وتربيتهم على هذه القاعدة.
منذ عامين كنت أتابع أخبار هروب ستة أسرى فلسطينين من سجن جلبوع بصحبة صديق فلسطيني، نبهني وقتها أن عملية الهروب البطولية والدقيقة والمحكمة تلك ربما تكون أثقل على الإسرائيليين من عدة تفجيرات انتحارية تستهدفهم، فهم أنفقوا واستثمروا بلا توقف في محاولة إقناع الفلسطينيين أنهم مجموعة من الحمير التي لا تستطيع التفكير والتصرف بذكاء وتَدبُّر.
لايمكن إغفال أنَّ أحد مصادر الغضب الإسرائيلي المنفلت حاليًا، هو قدرة الفلسطينيين على القيام بعملية عسكرية منظمة ومتطورة تخللتها مذابح منظمة ومرتبة ومدروسة في همجيتها، كتلك التي اعتاد الاستيطان الصهيوني احتكارها لنفسه. أتابع الإعلام الإسرائيلي جيدًا وأستطيع أن ألمح طيف إعجاب ينبض من بين صراخ الوعيد بالإبادة.
منذ ثلاث سنوات زار جاريد كوشنر المنطقة مروجًا لمشروع أسماه "صفقة القرن"، كتبت وقتها مقالًا يحاول استبصار دلالات جرأته ووقاحته، فنحن وبالتدريج وربما دون أن ندري، نعيش في مرحلة تحاول وضع خطوط فاصلة بين البشر وأشباه البشر وما دون البشر؛ اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وعسكريًا، بشكل عابر للهويات والحدود السياسية ويعيد تشكيل وتعيين الحدود داخل الدول القومية على نحو مختلف، وهذا سيكون موضوع المقال القادم.