"نموت.. نموت ويحيا الوطن". شعار كنت أسمعه وأردده بحماس في زمن الطفولة والشباب، عندما كان للشعارات القومية العربية بعض الصدى والرنين. ولكن مع الوقت، أدركت أنه لا أوطان دون شعوب، وأن الشعب لو مات فداءً للوطن، فلن يبقى وطن من الأساس، وهو ما ينطبق على الشقيقة سوريا منذ سنوات، وغيرها من الدول العربية التي تعاني من غياب آليات تداول السلطة ومحاسبة الحكام.
تذكرت هذه القناعة مجددًا وأنا أطالع بألم صور الأستاذ حمدين صباحي بصحبة بشار الأسد، رئيس النظام السوري المتهم بارتكاب جرائم حرب بحق شعبه.
لا يتعلق الأمر هنا بخلاف سياسي، بل بما وصفه أكرم إسماعيل، القيادي بحزب العيش والحرية (تحت التأسيس)، من شعور "الخذلان والإحباط"، بعد تخلي الأستاذ حمدين بوضوح عن مبادئ عامة، تتعلق بأولوية احترام حقوق الإنسان في موقفنا، كمعارضين شاركنا في ثورة يناير 2011، والتناقض الصارخ بين مطالبتنا بالديمقراطية والتعددية وتداول السلطة في مصر، مقابل الاستعداد للتعامل مع نظام ملاحق قانونيًا أمام المحاكم الدولية بسبب ما ارتكبه من انتهاكات بشعة.
حاول الأستاذ حمدين، الذي أحمل له الكثير من المحبة والتقدير، التعامل برحابة صدر فائقة مع انتقادات المعارضين من داخل الحركة المدنية الديمقراطية التي يتصدرها، مؤكدًا أنه لم يكن يمثل أطرافها المتنوعة في ذلك اللقاء المؤسف. وقال في تصريحات أدلى بها بعد الزيارة إن "الذين يقيسون الموقف من سوريا بناء على ملف حقوق الإنسان وحده محقون، ولا أختلف معهم. ولكن هذا الملف جزء من الحقيقة، وليس كل الحقيقة".
أين هي الحقيقة؟
الحقيقة من وجهة نظر الأستاذ حمدين، وآخرين في التيار القومي العربي الناصري، وكذلك لدى الأنظمة العربية السلطوية التي دفعت وسعت لعودة النظام السوري لجامعة الدول العربية في مايو/أيار الماضي، هي أن الواقع تغير على الأرض بعد 12 عشر عامًا من اندلاع الثورة السورية، وأصبح تطبيع العلاقات مع نظام الأسد ضروريًا رغم كل جرائمه، من أجل الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومنع "تفتيت الدولة".
كما أعرب القيادي الناصري والمرشح الرئاسي السابق عن تقديره لما وصفه بـ"وقوف سوريا الصلب ضد العدوان الأمريكي الصهيوني وضد الجماعات الإرهابية، كما أقدر احتضان سوريا للمقاومة والوقوف ضد الاتجاه الداعي للتطبيع، وكلها عوامل أقتنع شخصيًا تمامًا بأن سوريا لعبت دورًا هامًا فيها يستحق التقدير والإشادة".
ليست هذه الحقيقة يا أستاذ حمدين، إلا إذا أردنا دفن رؤوسنا في الرمال. بل الحقيقة المُرَّة أن سوريا تفتتت بالفعل بسبب سياسات الأسد على مدى السنوات الماضية، والقوات العسكرية التابعة لنظامه لا تستطيع بمفردها، ومن دون الدعم الروسي والإيراني، الاستمرار في السيطرة على المناطق الخاضعة لنفوذها الآن التي تقدر بنحو ثلثي مساحة سوريا.
ورغم هذا الدعم، فإن نحو 25% من الأراضي السورية، بموازاة الحدود التركية، تخضع لنفوذ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية، التي تتمتع بحماية القوات الأمريكية، إضافة إلى 10% أخرى تقع تحت سيطرة جماعات معارضة مختلفة، كثير منها يتلقى دعمًا من تركيا.
وبعد 12 عامًا من قمع الثورة الشعبية، هناك في سوريا الآن، وفقًا لمراكز بحثية، 830 موقعًا عسكريًا تابعًا لدول أجنبية، تتصدرها إيران بـ570 موقعًا، تليها تركيا بـ125 موقعًا، ثم روسيا بـ105 مواقع، وأخيرًا التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بـ30 موقعًا.
يا له من استقلال وطني جامع موحِّد الأراضي السورية، عززه تقبّل بشار الأسد توقيفه برحابة صدر، داخل قاعدة عسكرية روسية بالقرب من مسقط رأسه في اللاذقية عام 2017، بيد أحد مساعدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ليتمكن الأخير من تفقد قوات الشرف بمفرده بدلًا من أن يسير الرئيسان جنبًا إلى جنب.
يعرف الأستاذ حمدين، ومن يروجون لإعادة استيعاب نظام بشار رغم كل جرائمه، أن لأسرة الأسد تراث طويل في قمع شعبها حفاظًا على حكم الأسرة والأقلية العلوية الشيعية التي تنتمي إليها، وأن ما يصفه المرشح الرئاسي السابق بـ"احتضان سوريا للمقاومة ووقوفها ضد التطبيع" هو جزء من التحالف الطائفي الذي تتزعمه وتموله إيران، ويمتد ليشمل لبنان والعراق وسوريا، ولا علاقة له بدعم المقاومة في فلسطين، التي لم يعد يدعمها سوى تضحيات الشعب الفلسطيني نفسه وبطولاته، كما نرى في غزة والضفة والقدس المحتلة.
هذا البعد الطائفي لحكم آل الأسد كثيرًا ما قُدَّم على البعد العروبي القومي، وهو ما تجلى في التباعد والعداء التاريخي مع البعثي العروبي الآخر، والجار اللدود، صدام حسين. وبينما دعمت غالبية الدول العربية الأخير في حربه ضد إيران، اختار الراحل حافظ الأسد وحده دعم إيران، التي لم تنسَ له هذا الموقف وسارعت بإرسال قواتها لحماية ابنه من السقوط.
للقمع مستويات متفاوتة
استخدم أنصار التطبيع مع بشار كل الحجج لتبرير اللقاء، مثل القول بأن السياسي يلتقي الجميع، وإن شخصيات معارضة مصرية بارزة سبق أن التقت مسؤولين أمريكيين وأوروبيين رغم ما لهذه الدول من تاريخ طويل في دعم إسرائيل، ولاحقًا غزو العراق. كما حاولوا المقارنة بين اللقاء مع بشار، والحوار الوطني الذي أطلقه النظام مع المعارضة في مصر، قائلين إن وفد المؤتمر القومي العربي الذي التقى بشار طالبه بالإفراج عن السجناء والسياسين والاستماع للأصوات المعارضة.
ومع التسليم بأن الأنظمة العربية جميعها تمارس القمع، يظل سجل بشار هو الأسوأ على الإطلاق. فلا يمكن مقارنة حبس المعارضين احتياطيًا بقصف المدن بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، وإلا كان الأمر هزلًا وتقليلًا من حجم الجرائم الصارخة التي ارتكبت، والتي لا تسقط بالتقادم.
السبب الرئيسي وراء شعور قطاع من المعارضين المصريين بالخذلان من لقاء حمدين مع بشار هو أنه عاد بنا للمربع صفر، حيث الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ليست بالضرورة أولويات كل أطياف المعارضة المصرية، وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام دعاوى التسامح مع جرائم النظم في حق شعوبها وقمعها لهم، بحجج يعرف الجميع أنها كاذبة، وأن الأولوية الحقيقية تظل الحفاظ على الكراسي، لا مصالح الشعوب التي تصنع الأوطان، وعلى رأسها الحق في الحياة والتمتع بالحرية والكرامة في وطنهم.
الحقيقة التي كنت أتمنى أن يدركها الأستاذ حمدين أنه لا سبيل للحفاظ على سوريا واستعادة وحدة أراضيها والبدء في إصلاح ما تم تدميره، طالما استمر بشار، لأنه وأسرته وأجهزته الأمنية أصل المشكلة.
وإذا كانت للحكومات حساباتها وصفقاتها في ظل إعادة ترتيب واسعة للأوضاع الإقليمية بعد المصالحة الحذرة بين إيران والسعودية، فإن هذه الحسابات لا تتعلق بالحركات المعارضة المتمسكة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، التي عليها دعم الشعب السوري أولًا، وحقه في عقد انتخابات نزيهة لا يمكن أن تتم في ظل وجود الأسد الذي عُدِّل الدستور خصيصًا من أجله قبل 23 عامًا، لكي يتمكن من وراثة عرش أبيه، نظرًا لصغر سنه في ذلك الوقت.