بينما يرجح خبراء أن تكون الأعطال الفنية في حقل ظهر هي السبب الرئيسي وراء نقص إنتاج مصر من الغاز، الأمر الذي فاقم من أزمة انقطاع الكهرباء الصيف الجاري، فإن مشكلة الطاقة في مصر لا تبدو مسألة عطل عابر بالنظر إلى ما أسهمت فيه أزمة الدولار من تراكم المديونيات على هيئة البترول، الأمر الذي قد يُعيد البلاد لحالة الأزمة الدائمة التي عاشتها خلال 2013.
وكانت مؤسسة جولدمان ساكس نشرت تقريرًا عن مصر يونيو/حزيران الماضي، قالت فيه إن البلاد في حاجة إلى ما يتراوح بين 15 و18 مليار دولار لتخفيف ضغوط الالتزامات الدولارية القائمة عليها، وأبرز هذه الالتزامات مشكلة متأخرات شركات النفط العالمية التي بدأت منذ فبراير/شباط 2022.
وقالت جولدمان ساكس إنه بناءً على تسعير الغاز المحلي بـ 4 إلى 5 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، فإن مستحقات الشركات العالمية على مصر منذ فبراير من العام الماضي تتراوح بين 7 إلى 8 مليارات دولار، لكن ليس واضحًا بالنسبة للمؤسسة الأمريكية ما هو حجم المتأخر من هذه المبالغ.
بينما قال عضو في لجنة الطاقة بمجلس الشيوخ للمنصة، رفض الكشف عن هويته لأسباب وظيفية، إن المستحقات المتأخرة لشركات النفط الأجنبية تتراوح بين 3 إلى 3.5 مليار دولار.
ويتفق هذا التقدير مع تحليل نشرته مجلة MEES، للأبحاث المتخصصة في رصد أخبار النفط والغاز بالشرق الأوسط، في أبريل/نيسان الماضي، أكد أن مستحقات شركات النفط العالمية نحو 3 مليارات دولار، مقارنة بـ 850 مليون دولار في منتصف 2020.
وكانت مصر واجهت أزمة تفاقم متأخرات شركات النفط العالمية بعد الاضطرابات التي تلت ثورة يناير 2011، ما وصل بقيمة المتأخرات إلى 6 مليارات دولار في نهاية 2013، وساهمت المساعدات الخليجية السخية في أعقاب أحداث 30 يونيو 2013، التي أطاحت بحكم جماعة الإخوان، في تيسير قدرة البلاد على سداد جانب كبير من هذه المستحقات.
ومع تدهور احتياطات النقد الأجنبي منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، بنحو 10 مليارات دولار، عانت العديد من القطاعات من نقص السيولة الدولارية، وتحدثت صحيفة الشروق في مايو/أيار الماضي، عن وجود أزمة في قدرة البنوك على توفير العملة الأجنبية لشركات البترول والغاز التي تراكمت مستحقاتها.
هذا في الوقت الذي تراجع فيه إنتاج حقل ظُهر إلى 2.1 مليار قدم مكعب من الغاز يوميًا بعدما كان 3.2 مليار قدم مكعب يوميًا بسبب مشاكل فنية تعرضت لها شركة إيني الإيطالية المشغلة للحقل. كما انخفض إنتاج الشركة من الغاز في مصر خلال الربع الأول من العام الحالي 2023 إلى 1378 مليون قدم مكعب، مقارنة بـ1466 مليون قدم مكعب خلال نفس الفترة من العام الماضي 2022.
أزمة بعيدة المدى
يُقلل وزير البترول المهندس طارق الملا، من تأثير تأخير مستحقات الشركات الأجنبية، بزعم عدم وصولها لـ"رقم كبير" مضيفًا أنه لا يوجد رقم محدد لمتأخرات مستحقات الشركات الأجنبية العاملة في مصر، لأن بيانات هذه المستحقات تتغير بشكل مستمر.
لكن الخبراء الذين تواصلت معهم المنصة رجحوا أن يكون للمتأخرات دور كبير في دفع الشركات العالمية للتباطوء في تنفيذ مشروعات التنقيب والاستكشاف في البلاد، وهو ما سيطيل من أمد الأزمة.
وقال عضو مجلس النواب عن حزب الشعب الجمهوري خالد أبو نحول للمنصة، إنه "بسبب أزمة نقص العملة الأجنبية لم يتم تنمية أو استكشاف حقول وآبار غاز جديدة".
بينما رجح عضو لجنة الطاقة بمجلس الشيوخ عدم وجود تأثير للمتأخرات على الأزمة الحالية، إذ تستغرق الشركات وقتًا حتى تعدل من ستراتيجيات إنتاجها، لكن سيكون له تأثير على المدى الطويل،"تأخير مستحقات شركات النفط والغاز يؤدي إلى تراجع إنتاج الشركات، فهي لن تلجأ لخيار الاستدانة من الخارج لتمويل عملياتها في مصر بسبب زيادة تكلفة الاقتراض عالميًا"، كما يقول المصدر.
تستورد مصر الغاز من إسرائيل عبر خطيّ أنابيب شرق المتوسط بقدرة سنوية 7 مليارات متر مكعب، وخط الغاز العربي والذي لم تُحدد الكميات التي يستوعبها
ويؤكد نائب رئيس الهيئة العامة للبترول السابق صلاح حافظ للمنصة، أن الشركات الأجنبية لا تتحمس للتوسع في الاستثمار مع تراكم المتأخرات المستحقة لها، "الشركات الأجنبية تنفق أموالاً ضخمة على عمليات الاستكشاف والتنقيب لا تُساهم فيها الدولة بأي شيء، وفي حال الكشف عن حقل تجاري سواء بترول أو غاز، تتحصل الشركة على ما يُسمى استرداد التكاليف من إنتاج الحقل، والباقي تتقاسمه الشركة والحكومة".
في السياق نفسه، يرى رمضان أبو العلا أستاذ هندسة البترول بجامعة قناة السويس، وفق تصريحه للمنصة، أن الانطباع السيئ لعدم سداد مستحقات الشركات الأجنبية سيُضعف من قدرة مصر على جذب أي استثمارات جديدة بقطاع البترول، ويُقلل من فرص استكشاف آبار وحقول جديدة.
وبحسب تحليل شركة MEES، فإن 75% من مديونيات الهيئة العامة للبترول تعود لصالح ثلاث شركات كبرى هي إيني الإيطالية المُسيطرة والمشغلة لحقل غاز "ظهر"، والذي يقدر إنتاجه بنسبة 40% تقريبًا من جملة إنتاج الغاز بمصر، وأباتشي الأمريكية وهي أكبر شركة تمتلك مناطق امتيازات بترولية بمصر، وأخيرًا شركة بريتش بتروليوم البريطانية؛ فيما كانت أعلنت شركة كابريكورن إنرجي أن مستحقاتها المتأخرة لدى هيئة البترول نحو 145 مليون دولار.
وتعكس بيانات إنتاج مصر من الغاز الطبيعي، الصادرة عن شركة بريتش بتروليم، أن البلاد استطاعت أن تحسن من إنتاجها خلال الفترة التي سددت فيها متأخرات الشركات، بحيث ارتفع الإنتاج من 54 مليار متر مكعب في 2013 إلى 67.8 مليارًا في 2021. لكن البيانات لا تعرض حجم الإنتاج خلال العام التالي الذي بدأت فيه أزمة المتأخرات.
أسباب أخرى للأزمة الحالية
هناك بعد آخر للأزمة يتعلق بتجارة مصر من الغاز، فحتى نهاية العام الماضي كانت مصر مُصدرًا صافيًا للغاز، ما يوحي بأن البلاد تتمتع بوفرة من هذا المنتج.
لكن النائب أبو نحول أوضح للمنصة أن الغاز المتاح للاستهلاك المحلي لا يكفي لتلبية الطلب في أوقات زيادة الاستهلاك، مثل الموسم الصيفي، وهو ما كان يدفعنا للاعتماد على الغاز المستورد من إسرائيل في تلك الأوقات، لكن حدوث أعطال فنية في خطوط أنابيب شحن الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى مصر، تسبب في تعطّل جزء من شحنات الغاز، والتي تتراوح بين 4.5 إلى 7 مليار متر مكعب.
وبحسب تصريحات لوزير البترول المصري فإن البلاد لم تصدّر أي كميات من الغاز المسال في شهر يونيو بسبب الحاجة لتلبية الطلب المحلي.
تستورد مصر الغاز من إسرائيل عبر خطيِ أنابيب شرق المتوسط بقدرة سنوية 7 مليارات متر مكعب، وخط الغاز العربي والذي لم تُحدد الكميات التي يستوعبها، ذلك لأنه تم تجديده خلال الأشهر الأولى من عام 2022.
ويُضيف أبو نحول لأسباب أزمة الكهرباء الحالية بعدًا ثالثًا، وهو التوسع في الاستهلاك المحلي المرتبط بمشروعات الدولة الجديدة، "تشغيل محطة كهرباء العاصمة الإدارية ومحطة كهرباء العلمين بكامل طاقتهما حال دون قدرة الهيئة العامة للبترول على توفير احتياجات البلاد من الغاز الطبيعي".
لا قروض جديدة لهيئة البترول
على جانب آخر، يبدو أن خيار اقتراض الهيئة العامة للبترول محليًا أو خارجيًا لسداد المستحقات المتأخرة، بات أمرًا صعبًا، ما قد يطيل من أمد الأزمة. "إذا لم تُحل المشكلة في أقرب وقت ستتراكم المستحقات المتأخرة وتتكرر أزمة 2013، لكن بشكل أكبر" كما يقول أبو العلا، أستاذ هندسة البترول بجامعة قناة السويس.
وسجل الحساب المدِين للهيئة العامة للبترول 478.1 مليار جنيه في نهاية يونيو 2021، بارتفاع قدره 4.1 مليار جنيه عن العام المالي 2019/ 2020، وفقًا لبيانات الحساب الختامي للهيئة. فيما بلغت قيمة القروض طويلة الأجل التي حصلت عليها الهيئة العامة للبترول في نهاية العام المالي 2021، نحو 348 مليار جنيه، مقارنة بـ1.8 مليار جنيه العام 2014/ 2015، كانت حصلت عليها الهيئة كتسهيلات إئتمانية.