خلال الأيام الأخيرة توالت توقعات من بنوك عالمية بانخفاض جديد للجنيه، مثل بنوك ستاندرد شارترد وكريدي سويس وسوسيتيه جنرال، فما هي الأسباب وراء هذه التوقعات السلبية بالرغم من تقريب الفجوة بين سعري السوق الموازية والرسمية في 11 يناير/ كانون الثاني الماضي، ليصل سعر صرف الدولار إلى نحو 30.5 جنيه؟
خلال الأشهر الأخيرة من 2022، كان الأجانب يحجمون عن الشراء في سوق الديون الحكومية (طروحات وزارة المالية من السندات وأذون الخزانة) بسبب اتساع الفارق بين سعر الدولار في السوق الرسمية والموازية، ما اعتبره المستثمرون مؤشرًا على تعويم مرتقب.
وبحسب تقرير لبنك كريدي سويس، صدر في فبراير/شباط، الماضي فإن نزيف خروج الأجانب من مصر، الذي تصاعد منذ الحرب الروسية الأوكرانية في مارس/آذار الماضي، توقف خلال العام الجاري، لكن في المقابل ظلت استثماراتهم محدودة في البلاد.
وأمام هذه الاستثمارات المحدودة في الديون المصرية، أصبحت فرص البلاد في تدبير تدفقات أجنبية متواضعة أمام احتياجاتها المتنامية، ما زاد من مخاطر تعويم جديد للعملة، فيما يبدو وكأنه دائرة مفرغة لا تنتهي.
الدائرة المفرغة لسوق الديون
"أحد أسباب عزوف المستثمرين الأجانب عن الاستثمار في أدوات الدين يرجع إلى المخاوف من مزيد من تراجع سعر صرف الجنيه أمام الدولار، تجنبًا لتكبدهم خسائر" كما يقول المدير التنفيذي لأسواق النقد والدخل الثابت في إحدى شركات الاستثمارات المالية محمود نجله، للمنصة.
ويتعرض المستثمر الأجنبي للخسارة عند شرائه ديونًا مقومة بالعملة المصرية، إذا ما انخفض الجنيه أمام الدولار خلال الفترة التي يحمل فيها هذا الدين، إذ أنه يضطر لتحويل الأموال المستحقة له مجددًا من الجنيه إلى الدولار عند انتهاء أجل الدين والخروج من السوق المصرية.
وبحسب تقرير لبنك ستاندرد شارترد، صدر في يناير الماضي، فإن بعض المستثمرين الأجانب الذين اشتروا ديونًا مصرية خلال 2022 حققوا عوائد سلبية.
بالإشارة لمسألة العائد، فهناك عامل آخر يؤثر فيها وهو تآكل القيمة الحقيقية للأموال في مواجهة التضخم
ويقول المحلل بستاندرد شارترد، سمير جاديو، في رد على سؤال للمنصة عبر الإيميل" العوائد السلبية على أذون الخزانة في 2022 على أساس الدولار ترجع بشكل أساسي لتعويم الجنيه".
ويضيف أن "خسائر سعر الصرف منذ تعويم 11 يناير 2023 كانت معتدلة، لذا فإن العوائد المرتفعة على أذون الخزانة من المفترض أن تحقق عائد إيجابي للمستثمر الأجنبي على أساس الدولار في حالة تجنب تعويمات جديدة".
الفائدة والتضخم
بالإشارة لمسألة العائد، فهناك عامل آخر يؤثر فيها وهو تآكل القيمة الحقيقية للأموال في مواجهة التضخم.
ويقول نائب رئيس بنك بلوم مصر سابقًا طارق متولي للمنصة "العائد القائم حاليًا سلبي مع استمرار اتساع الفجوة بين معدل التضخم والفائدة بنحو 7%".
على سبيل المثال، إذا حقق مستثمر عائد 20% على إذن خزانة خلال يناير 2023، فإن القيمة الحقيقية لمكاسبه تتآكل أمام معدلات التضخم الأساسي في هذا الشهر والتي بلغت 31.2%.
ويقول بنك كريدي سويس في هذا الشأن إن "ارتفاع التضخم استمر في التأثير على العوائد الحقيقية، والتي انخفضت تحت الصفر منذ فبراير 2022، لأول مرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2018، واستمرت في الانخفاض منذ هذا الوقت".
وما زاد من انخفاض قيمة العائد في نظر المستثمرين هو اتجاه البنك المركزي في فبراير لتثبيت سعر الفائدة، بدلًا من رفعها، والذي اعتبره مراقبون "أمرًا محبطًا" للمستثمرين.
لكن وزارة المالية لم تتقيد بتوجهات البنك المركزي، إذ رفعت العائد على الأذون التي تبيعها خلال الفترة بين يناير وفبراير الماضيين، على سبيل المثال ارتفع العائد على أذون 91 يومًا من 18.3% في بداية يناير إلى 20.2% في نهاية فبراير.
لكن وفقًا لنجله، فإن العديد من المستثمرين الأجانب يترقبون المزيد من الزيادة في الفائدة من البنك المركزي في الوقت الراهن، لذلك يؤجلون قراراتهم بالشراء في سوق الديون الحكومية في الوقت الراهن.
ماذا عن الاقتصاد الحقيقي؟
وبعيدًا عن أسواق الديون، فإن مصدر الأموال الأفضل للاقتصاد هو الاستثمار المباشر، لذا تتعلق الأنظار في الوقت الراهن على برنامج خصخصة حصص من الأصول العامة، والذي أعلنته البلاد في 2022، ومن المفترض أن تجني من ورائه ملياري دولار حتى يونيو/حزيران القادم.
لكن عمليًا لم تنجز البلاد العديد من الصفقات التي كانت تطمح إليها من وراء هذا البرنامج حتى الوقت الراهن، ويتشكك مراقبون في إمكانية القدرة على تنفيذ البرنامج، وهو ما يزيد من النظرة السلبية لهشاشة الوضع المالي للبلاد، ويؤثر بدوره على تقييم الجنيه.
تقول شركة موديز، في تقرير أصدرته في فبراير الماضي عن أسباب تخفيضها للتصنيف الائتماني لمصر، إن الخصخصة "ستستغرق وقتًا"، كما تشير إلى إمكانية تعارض مصالح أفراد داخل الدولة، مع التخلي عن الحصص الحكومية، وهو ما قد يعطل من تطبيق الخصخصة.
ويقول بنك أوف أمريكا، في تقرير أصدره عن مصر في فبراير، إن قدرة البلاد على بيع الأصول تتوقف على عدة عوامل منها ما يتعلق بقدرتها على طرح الأصول بسعر جاذب للمستثمرين.
ومسألة التقييم ازدادت تعقيدًا مع الشكوك في تقييم الجنيه، بدا ذلك واضحًا في صفقة بيع المصرف المتحد لمستثمرين خليجيين، والتي تعرضت للتجميد بسبب الخلاف حول تقييم الصفقة بالدلاور، ما يدفع بالاستثمار المباشر إلى المصاعب التي تواجهها أسواق الدين بسبب مخاطر التعويم.