أين المرشح الرئاسي الذي لا يشار إليه كي ينزل السباق فيسارع ممتثلًا لدور مرسوم له، لا يحيد عنه ولو خطوة؟ وأين المرشح الذي لا يُنصب له فخ، فيتوهم أنه يمضي في طريقه غير منتصر إلا لما يؤمن به، ويحقق مصلحة الملتفين حوله، دون أن يكون تعبيره وتدبيره مجرد جزء من خطة خصمه السياسي؟
لا نتحدث هنا في النوايا، أو عنها، ولا نزايد على أي من الداخلين إلى السباق، على سبيل المجاز، إنما هي حسابات تُراعي ما يجري، وتأخذ في الحسبان تجربة تاريخية لم تكمل عقدين فقط من الزمن، بدأت بانتخابات شكلية في 2005، قطعتها ثورة يناير 2011 أو وضعت جملة اعتراضية أو مغايرة اسمها انتخابات الرئاسة 2012، لكن لم تلبث أن غابت.
وصلت السلطة ما انقطع، لكي نعود إلى شبه سباق رئاسي في 2014، كان أشبه باستفتاء على المشير عبد الفتاح السيسي الذي كانت شعبيته واسعة أيامها، ثم في 2018 في واقعة صارت أمثولة تستعاد في التندر والسخرية السياسية عن الكومبارس الصامت.
"العشرية الرشيدة"
لنعد على مهل إلى بعض المعلومات التي رشحت من قلب العتمة الدامسة، وتقول، أن المشير السيسي كان يفكر قبل اعتزامه الترشح للرئاسة في 2014 فيما يسميها "عشرية من الحكم الرشيد"، أي يتولى الحكم مباشرة دون انتخابات، قد يصعب تأمينها في ظل الاضطراب السياسي الذي كان لا يزال ساريًا، ثم يظل في الحكم عشر سنوات متصلة، يحقق فيها ما يُطلق عليه "تثبيت أركان الدولة" التي يرى أنها إما تآكلت، أو اضطربت بشدة مع ثورة يناير، التي حُمّلت أوزارًا لم ترتكبها.
لا أعرف إن كانت "العشرية الرشيدة" فكرة خالصة للسيسي أم أن أحد المقربين منه آنذاك، أو الساعين إلى التقرب، وما أكثرهم وقتها، قد اقترحها عليه. لكن أيًا كان منبعها، حال صحتها ودقتها، فإن السياق العالمي لم يسمح بتمرير هذا التصور. لا سيما في ظل المواقف الدولية التي كانت وقتها موزعة على الرفض والتحفظ والتردد حيال الإجراءات التي أعقبت إسقاط حكم الإخوان، بعد أن ثار عليهم كثير من المصريين، ونزلوا إلى الشوارع غاضبين في 30 يونيو، فاتحين الطريق لخلعهم في 3 يوليو/تموز 2013.
وجود مرشح يأخذه الناس على محمل الجد صار ضرورة سياسية حتى لو كان خطابه يحوي ما لم يستعد النظام الحالي لسماعه
ودخل الأستاذ حمدين صباحي السباق، وكان الحصان الأسود لانتخابات 2012، فأصبح بالإمكان أن يقال إن المرشح الذي كاد يدخل جولة الإعادة، مع مرسي أو شفيق، في انتخابات اتسمت بأعلى درجة حرية ونزاهة وشفافية عرفتها الحياة السياسية المصرية هو من يخوض المعركة ضد السيسي.
لكن النتيجة التي انتهت إليها انتخابات 2014، إذ تقدمت الأصوات الباطلة على ما حصل عليه حمدين، وشاع على نطاق واسع أن ذلك كان مدبرًا، جعلت كثيرون يترددون قبل التفكير في أن يخوضوا انتخابات 2018.
وقيل وقتها إن الرئيس السيسي، حين اعتذر كل من عُرض عليه الدخول إلى السباق، تحدث في دائرة ضيقة عن أن الدستور يغطي هذا، بنصه على صحة نجاح الرئيس، وتجدد شرعيته عبر ممر الانتخابات، إن حصل على 2.5% من عدد أصوات الذين لهم حق التصويت، أي العودة إلى زمن الاستفتاءات لكن بطريقة أخرى.
كان من الصعب أن يدخل السيسي السباق وحيدًا، خاصة أن إدارة ترامب، الذي كان الرئيس المصري مقربًا إليه، كانت تتعرض لضغوط من الديمقراطيين بسبب انحيازها للسلطة في مصر، وطالب بعضهم بوقف المعونات أو المساعدات، وبذلك صار على السيسي ألا يمعن في إحراج الجمهوريين داخل الكونجرس، بل وإحراج ترامب نفسه، أكثر من ذلك.
وهنا كان الحل هو "موسى مصطفى موسى"، الذي تم تسويقه خارجيًا باعتباره مرشحًا راغبًا في الفوز، أما في الداخل فكلنا نعرف كيف كان الرجل لا يترك فرصة إلا ويعلن فيها تأييده للرئيس.
مرشح جاد
لم يعد نموذج موسى هذا قابلًا للتكرار، لا سيما مع تأزم الأوضاع الاقتصادية، وتراجع شعبية الرئيس عما كانت عليه في 2018، وبعد تعديلات دستورية تمت في فبراير 2019 تجعل قطاعًا من الناس يرى أن هناك خروجًا على قواعد اللعبة التي وضعها دستور 2014، وكانت تحدد فترتين رئاسيتين كحد أقصى كل منها أربع سنوات، بما يبين أو يوحي أن الرئيس يريد الاستمرار في منصبه، ولذا فإن مسألة الشعبية والشرعية تعنيانه الآن أكثر من أي وقت مضى.
وما يغذي الهاجس حول الشعبية والشرعية أنه يوجد حاليًا تخوف من فتور أصاب الشارع المصري حيال الانتخابات الرئاسية، التي يرى كثيرون أنها محسومة النتيجة، ما يعني ضعف الإقبال على اللجان الانتخابية، وهذه مسألة لن تكون خافية عن عين العالم وسمعه. ترتيبًا على هذا فإن وجود مرشح يأخذه الناس على محمل الجد صار ضرورة سياسية مؤقتة أو عابرة، حتى لو كان خطابه يحوي ما لم يستعد النظام الحاكم الحالي لسماعه، ولم يتعود عليه، ولا يريده، وقد يغبنه بعض الشيء أو كله.
انتقلت الانتخابات المصرية خلال العقد الأخير من لعبة "تزوير النتائج" إلى لعبة "تغيير المقدمات"
هنا يمكن أن يكون المتسابقون في انتخابات الرئاسة المقبلة صنفين: الأول "يُملى عليه"، أي يعمل بطريقة مباشرة، ومتفق عليها تمامًا، لصالح السلطة، ويمضي على الخط المرسوم له، دون أدنى خطوة يمنة أو يسرة. والثاني "يُملى له" بمعنى أن يدخل السباق دون اتفاق، ولا تأتيه أي أوامر، ويكون صادقًا كل الصدق مع الرأي العام فيما يقوله ويفعله، لكن تُهيأ له الظروف التي تجعله يتوهم أنه منافس حقيقي أو تحد سافر للسلطة، بينما يكون وجوده وخطابه في الحقيقة، ودون أن يدري، مجرد جزء في خطة منافسة.
وفي الحالة الثانية، يتحول هذا المرشح المتحدي والمتصدي إلى بعض نقاط تصب في صالح من يتحداه، أو تكون أحد الأسهم التي تحقق له النصر، بل تعطيه دفعة تجعله يستمر في الحكم أكثر مما هو مقدر ومقرر.
وإذا كان تشخيص واكتشاف من "يُملى عليه" سهلًا، لأنه ظاهر عيانًا بيانًا، وتم تجريبه، والوقوف على مساراته ومآلاته، فإن صنف من "يُملى له" لم يُجرب بعد. وربما يرى البعض أنه قد جُرب بالفعل مع صباحي في 2014، لكن الظرف السياسي وقتها جعل هذا الإملاء الخفي مختلفًا، وقُدم صباحي باعتباره رجل تضحية، يؤدي دورًا لـ "إنقاذ الدولة" التي كانت في مأزق، حتى لو كان هناك من يحصر الدولة في السلطة الحاكمة، وينسى بقية العناصر.
في العموم، لا يجب أن نسبق الأحداث، فربما تنتهي قريبًا مراوحة النظام عند الخيارات التي ينظر فيها، وينحاز إلى خيار من "يُملى عليه"، وقد يُبقي المسارين قائمين، ماسكًا بخيوط اللعبة حتى النهاية، لا سيما بعد تعديلات دستورية وحزمة من القوانين والأحكام القضائية بوسعها تحديد من يدخل السباق ومن لا يمكنه فعل ذلك حتى لو كان صاحب عزم أكيد، وطموح قوي، وشعبية جارفة، واستقلال قرار.
جرى العرف على أن نسمي كل راغب في دخول السباق الآن "المرشح المحتمل لانتخابات الرئاسة"، ويظل الانتقال من خانة "الاحتمال" إلى "الممكن" ومن "الافتراضي" إلى "الواقعي" مارًا عبر النوافذ التي تقف السلطة حارسة عليها، مسلحة بالقواعد التي وضعتها للعملية برمتها، بعد أن انتقلت الانتخابات المصرية خلال العقد الأخير من لعبة "تزوير النتائج" إلى لعبة "تغيير المقدمات"، وهذا التغيير يقود الأمور إلى نتيجة معينة، بغض النظر عن نوايا المتنافسين أو الراغبين في التنافس، اللهم إلا إذا حدث في الشهور المقبلة ما يعيد ترتيب قواعد اللعبة على أسس جديدة، أو كان بعض الراغبين في دخول السباق لهم خطط بعيدة المدى.
في كل الأحوال فإن وجود مرشح رئاسي لا "يُملى عليه" ولا "يُملى له" يتوقف ليس فقط على وجود ضمانات مؤقتة للنزاهة والحرية والشفافية وتكافؤ الفرص، إنما ضمانات دائمة، وهذه لن تتحقق إلا بتغيير القوانين الموجودة، أي ترك مقدمات الانتخابات طبيعية بلا تدخل يجعلها خادمًا مطيعًا لنتائج معروفة سلفًا.