في الوقت الذي تبدو واشنطن منشغلة بقضايا أكثر أهمية لها، اندلع القتال بين قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع منتصف الشهر الجاري، بعد أن كان الطرفان قاب قوسين أو أدنى من توقيع اتفاق لتسليم السلطة للمدنيين دعمته الولايات المتحدة.
ومع سعي الإدارة الأمريكية وحلفائها الإقليميين للوساطة بين الطرفين المتقاتلين في السوان، وإقناعهم بالالتزام باتفاقات وقف إطلاق النار، ومحاولة إيجاد حل سياسي للأزمة، تثور تساؤلات حول طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه واشنطن لاحتواء الصراع، ومدى إمكانية نجاحها في ذلك.
آخر هذه المساعي كانت إعلان التوصل ليل أمس الخميس، إلى اتفاق بوساطة سعودية أمريكية، بهدنة تبدأ اليوم الجمعة. وهذه هي المحاولة الثالثة إذ أُعلنت هدنة لمدة 72 ساعة بالتزامن مع إجازة عيد الفطر، قبل أن يعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الاثنين الماضي، عن موافقة الجيش وقوات الدعم السريع على تمديد الهدنة، بعد 48 ساعة من المفاوضات.
ومع عدم التزام الطرفين باتفاقات وقف إطلاق النار السابقة، تسعى الإدارة الأمريكية إلى إقناعهما بـ "الالتزام بإنهاء القتال وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، وفق تغريدة كتبها بلينكن بعد إعلان الهدنة يوم أمس.
فيمَ تفكر واشنطن؟
تضع الإدارة الأمريكية أولوية لوقف العنف "فورًا" والعودة إلى المسار السياسي، حسبما قال المتحدث الإقليمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية، صامويل وربيرج، في تصريحات إلى المنصة.
وأشار وربيرج إلى أن "الخطوة التي نقوم بها حاليًا والتي سنواصل اتباعها وموقفنا الشامل منذ اليوم الأول تتمثل في دعوة الجانبين إلى إيقاف النزاع، ولن نقف عن المطالبة حتى يتم تحقيقها".
وأضاف "يجب التوصل إلى وقف إطلاق النار الدائم والحقيقي ووقف العنف فورًا، ثم العودة إلى المفاوضات التي ستقود إلى إعادة السودان إلى المسار الديمقراطي تحت قيادة الأطراف المدنية.. سنظل على اتصال مع الأطراف المعنية وشركائنا في المجتمع الدولي لنقل هذه الرسالة بصوت موحد وواضح لجميع الأطراف السودانية".
ولا يرى المسؤول الأمريكي أن الطرفين التزاما جديًا بالهدنة؛ "نسمع الأقوال ولكن لا نرى تنفيذها على أرض الواقع. قد توجد بعض المناطق في الخرطوم تشهد مواجهات أقل من غيرها نسبيًا، لكننا لا نزال نرى معارك مستمرة ونسمع أصداء الرصاص في التقارير الصحفية".
لكنَّ مصدرين متخصصين في الشأن الأمريكي قالا للمنصة، إن الولايات المتحدة لم يعد لديها التأثير الكافي لإجبار الطرفين على وقف القتال، وشككا في قدرتها على تصحيح المسار السياسي والمساعدة في انتقال الحكم للمدنيين.
وبحسب إحصائية وزارة الصحة السودانية، خلفت المعارك 512 قتيلًا و4193 جريحًا حتى أمس الخميس، فيما أُجبر عشرات الآلاف على الفرار من السودان. وفي خضم تلك الهدنة، سارعت الدول إلى إجلاء الدبلوماسيين والمدنيين مع احتدام القتال في الأجزاء الوسطى المكتظة بالسكان في العاصمة.
وقال الكاتب المتخصص في شؤون العلاقات المصرية- الأمريكية، محمد المنشاوي، إن واشنطن فوجئت باندلاع القتال بين الطرفين، ولم تأخذ السفارة الأمريكية بالخرطوم أي إجراءات احترازية أو احتياطات تشير إلى توقعها اندلاع القتال.
ووسط الاشتباكات الدائرة بين قوات الجيش والدعم السريع، قُتل مواطنان أمريكيان، كما تعرضت قافلة دبلوماسية أمريكية لإطلاق نار عشوائي. ما دفع واشنطن إلى المسارعة في إجلاء بعثتها الدبلوماسية ورعاياها من السودان.
"صدَّقت واشنطن أو أرادت أن تصدق تعهدات البرهان وحميدتي بالعمل معًا على تسليم الحكم للمدنيين خلال الفترة الانتقالية، وبكل سذاجة توقعت واشنطن أن يجتمع العسكريون والمسلحون السودانيون في بوتقة واحدة تحت راية الإصلاح الأمني"، يقول المنشاوي.
وفي 5 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وقّعت القوى المدنية، اتفاقًا إطاريًا مع العسكريين، يقضي بخروجهم من السلطة، وتكوين حكومة مدنية انتقالية ذات صلاحيات كاملة، وذلك بعد أكثر من عام منذ إطاحة الجيش بالحكومة المدنية السابقة برئاسة عبد الله حمدوك، في أكتوبر/تشرين الأول 2021.
لكن ما عرقل التوقيع على الاتفاق النهائي في مطلع أبريل الجاري، الخلاف الذي دب بين البرهان وحميدتي، حول عملية دمج الدعم السريع داخل الجيش، قبل أن يتطور سريعًا إلى حرب بين الجيش بقيادة البرهان، والدعم السريع بقيادة حميدتي.
هل تراجع النفوذ الأمريكي؟
بدورها، قالت الصحفية السودانية شمائل النور، "من الواضح أن الولايات المتحدة فقدت الكثير من تأثيرها والدليل على ذلك أنها بذلت جهد مضاعف في الاتفاق الإطاري الذي لم يحظَ بقبول واسع".
وأضافت النور للمنصة، "لم تتمكن الولايات المتحدة من الضغط الكافي للأطراف للوصول إلى اتفاق نهائي رغم أنها أظهرت حرصًا بائنًا على إنجاز هذا الاتفاق السياسي". وأرجعت ذلك إلى "انعدام تأثير الطبقة السياسية والعسكرية (الأمريكية) الموجودة حاليًا على الساحة السودانية".
ورصد الباحث والأكاديمي أليكس دي وال في مقال على مركز كوينسي الأمريكي لفن الحكم المسؤول، مراحل تراجع النفوذ الأمريكي في السودان. إذ فوّضت إدارة ترامب سياستها للقرن الإفريقي إلى حلفائها الرئيسيين في الشرق الأوسط؛ مصر وإسرائيل والسعودية والإمارات، وعملت بعد الإطاحة بالبشير في أبريل 2019، مع السعوديين والإماراتيين على المساعدة في تأمين صفقة بين قوى الحرية والتغيير وجنرالات الجيش تشكيل حكومة مدنية (بقيادة حمدوك). أما "إدارة بايدن، فلم يكن السودان أبدًا أولوية كافية لدفع حلفائه في الشرق الأوسط لدعم الديمقراطية هناك".
"لا شك بأن الولايات المتحدة فقدت الكثير من نفوذها على مدى العقد الماضي في السودان، لكن ما هو مأساوي أنه يبدو أنها قننت دبلوماسيتها أيضًا، وتركت إفريقيا على غير هدى"، يختتم وال تحليله.
مزيد من الانخراط لمواجهة فاجنر
ورغم ذلك، لا يعتقد المدير السابق لمكتب المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان والخبير بالمركز الأطلسي للدراسات كاميرون هدسون، أن واشنطن فقدت قدرتها على إنهاء الصراع في السودان، إذ ينصب تركيزها الآن على حماية الرعايا الأمريكيين والمساعدة في إخلائهم.
بعد ذلك، "سترى المزيد من التركيز على محاولة بناء ضغط سياسي أكثر تشددا على الطرفين المتحاربين، ربما من خلال العقوبات"، يتوقع هدسون حسبما قال للمنصة.
في الوقت نفسه، قد يؤّجج إعلان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن أحقية أي من طرفي القتال في الاستعانة بمجموعة فاجنر الروسية، الصراع في السودان، ويدفع دولًا أخرى لمزيد من الانخراط في الصراع مثل مصر.
يقول هدسون إن قوات فاجنر منخرطة بالفعل في الصراع لصالح قوات الدعم السريع؛ يقدمون المشورة لهم ويعملون على إمدادهم بالسلاح، ولن تتردد قوات حميدتي في الحصول على أي "مساعدة من أجل الفوز بالمعركة". في الوقت نفسه، لن تتمكن واشنطن من إبقاء فاجنر بعيدًا، على الأقل على المدى القصير.
أما "مصر فهي لا تلعب دورًا مفيدًا للغاية في الصراع هذه اللحظة، على الرغم من نشاطها العسكري في هذا الصراع لمساعدة القوات المسلحة السودانية على استهداف الدعم السريع"، بحسب هدسون.
بدورها قالت شمائل النور "بلا أدنى شك إذا ألقت روسيا بثقلها في الصراع الدائر الآن، فإن الولايات المتحدة عبر مصر ستحاولان لعب دور موازٍ؛ كل مع حلفائه وسيتحول السودان إلى ساحة صراع أمريكي - روسي وهذا ملامحه ظاهرة في إفريقيا الوسطى المجاورة للسودان من الغرب".
وبسؤاله حول تصريحات لافروف، أكد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية وريبرج، "لا نرى أن أي تدخل خارجي سيكون في صالح السودان حاليًا سواء من فاجنر أم أطراف أخرى. الحل يجب أن يكون بين الجهات السودانية. ما نشهده اليوم هو قتال بين أطراف سودانية بالتالي الحل لا بد أن يكون سوداني-سوداني".
ما الخطوة المقبلة؟
يقول وريبرج "الهدف الأسمى والأهم هو العودة إلى العملية السياسية التي سبقت اندلاع القتال، لكن الأولوية الحالية هي وقف القتال والالتزام بوقف إطلاق النار".
وكان الجيش السوداني أعلن الأربعاء موافقته على مبادرة من منظمة إيجاد وهي تكتل لدول شرق إفريقيا، تتضمن لقاء ممثلين عن الجيش والدعم السريع للتفاوض، لكن الدعم السريع لم يعلق على المبادرة. وقال الجيش إن رؤساء جنوب السودان وكينيا وجيبوتي عملوا على اقتراح يتضمن تمديد الهدنة وإجراء محادثات بين الطرفين.
لكن المبكر أن يحدث التزام حقيقي لوقف إطلاق النار، تقول الصحفية السودانية شمائل النور "العمليات العسكرية تنشط بكثافة خلال الهدنة، وهذا يفسر بلا شك أن الطرفين لم يصلا مرحلة متقدمة في المكاسب العسكرية ويخشى كل طرف أن يستفيد الطرف الآخر من الهدنة".
فيما يقول المدير السابق لمكتب المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان، كاميرون هدسون، "أعتقد أنه يجب أن يكون هناك فائز وخاسر (...) لا يمكنني تصور سيناريو حيث يجلس هذان الجنرالان على الطاولة، ويتحدثان عن إصلاح قطاع الأمن مرة أخرى".
ففي الوقت نفسه، يرغب المجتمع الدولي سرًا في انتصار الجيش الذي يتوقف على قدر ما يساعده المصريون في تحقيق ذلك، قد يؤدي ذلك إلى تورط العديد من الدول الأخرى في هذا الصراع بما يفاقمه ويطيل أمده ويقضي على أمل تحقيق السلام هناك، يتوقع هدسون.