سبق قرار إعلان خالد البلشي ترشحه على منصب نقيب الصحفيين مشاورات ومناقشات ساخنة، وتحذيرات من أنصاره أنفسهم أنه سيخسر بلا شك. أولًا، لأن الأجهزة الأمنية لن تسمح بنجاحه. وثانيًا، لأن حالة من اللا مبالاة والإحباط تسود بين الصحفيين بعد سيطرة الدولة بشكل شبه كامل على الإعلام. كل ما يهم غالبيتهم الآن هو لقمة العيش وزيادة البدل الشهري الذي يتلقونه من النقابة.
ولكنْ مِن مقر في شقة ضيقة لا تتجاوز خمسين مترًا في شارع سعد زغلول المتفرع من قصر العيني، لا يوجد بها سوى عدد من المقاعد الخشبية ومكتبين أو ثلاثة، تجاوز البلشي الكثير من المصاعب والشكوك.
قاد البلشي حملة دؤوبة منظمة بصحبة فريق من المتطوعات والمتطوعين المخلصين، غالبيتهم من الشباب على مشارف الثلاثين، كانوا في مطلع العشرينيات أو أقل عندما اندلعت ثورة 25 يناير قبل 12 عامًا، ليحققوا ما بدا أنه معجزة.
ربما كانت نقطة البداية التي فتحت شهية الكثيرين للتفكير في الترشح لمنصب نقيب الصحفيين، أو على الأقل الشعور بأن هناك معركة ممكنة، هو اختيار أجهزة الدولة لمرشحها في تلك المعركة. فالزميل خالد ميري، رئيس تحرير الأخبار، لديه بالفعل خبرة طويلة في شؤون النقابة بحكم عضويته على مدى سنوات في المجلس، ولكنه لم يحظَ يومًا بالشعبية التي تمكّنه من المنافسة على منصب النقيب.
كما رأى البعض في إعلان مَن يقدم نفسه "مرشح الدولة" زيادة البدل الشهري بمقدار 600 جنيه، في بداية حملته، رشوةً غير مقبولة، دفعت الكثير من الصحفيين إلى اتخاذ قرار بمقاطعة الانتخابات على أقل تقدير.
تحدي الدولة
وكان هناك انقسام آخر بين المنتمين للتيار الأوسع المسمى بتيار الاستقلال، الذي دائمًا ما يسعى للدفع بمرشح على منصب النقيب يواجه المرشح المدعوم من الدولة، يتمثل في خشية البعض من أن يمثل دعم ترشح البلشي تحديًا قويًا للدولة، بحكم ما هو معروف عنه كصحفي معارض لا يكاد يطلق موقعًا إخباريًا حتى تحجبه الأجهزة الأمنية، وآخرهم موقع درب، الذي يصدره حزب شرعي هو التحالف الشعبي الاشتراكي.
كما لعب البلشي دورًا بارزًا في أزمة اقتحام النقابة في مايو/أيار 2016، وأحيل للمحاكمة بصحبة النقيب السابق الذي يحظى بتقدير كبير، يحيى قلاش، وجمال عبد الرحيم، الذي نجح في استعادة مقعده في مجلس النقابة في انتخابات الجمعة 17 مارس/آذار الجاري، بتهمة "إيواء مطلوبين داخل النقابة" في سياق التظاهرات التي اندلعت احتجاجًا على تسليم جزيرتي تيران وصنافير المصريتين للسعودية. وصدر ضد الثلاثة حكم بالسجن لمدة عام مع وقف التنفيذ.
وسعى المحافظون داخل "تيار الاستقلال" إلى اقناع صحفيين بارزين آخرين بالترشح، على أساس أنهم قد يحظون بقبول أكبر لدى أجهزة الدولة، وبالتالي تزداد فرصهم في النجاح، أو على الأقل المنافسة القوية.
وبعد أن رفض كل هؤلاء، بلغ الإحباط بالبعض درجة الترويج لما وصف بـ"الاقتراح صفر"، أي ألا يترشح أحد في مواجهة المرشح الرسمي، واعتبار ذلك رسالة احتجاج من قطاع واسع من الصحفيين على سيطرة الدولة بشكل كامل على الإعلام.
ترقب البلشي ذلك المشهد المعقد ولديه خيبة أمل أن بعض رفاق تيار الاستقلال كانوا يفكرون في كل البدائل عدا دعمه، رغم خبرته الطويلة في العمل الصحفي والنقابي والدفاع عن الحريات، إلى أن قرر في النهاية خوض المعركة رغم كل المصاعب. لم يكن مقبولًا بالنسبة له ألا يكون للصحفيين الراغبين في استعادة دور النقابة والدفاع عن المهنة ممثل في تلك الانتخابات.
خاض البلشي المعركة بروح المقاتل التي تميز بها منذ أن عرفته في نهاية التسعينيات، عندما عملنا معًا متطوعين في مجلة اليسار، التي كان يصدرها حزب التجمع ويرأس تحريرها المناضل اليساري الراحل حسين عبد الرازق.
لن تعود حرية الصحافة والصحفيين فور تولي البلشي لمنصبه. ولكن ما تحقق في نقابة الصحفيين يوم 17 مارس هو بالتأكيد بارقة أمل
فالبلشي صحفي مخلص لمبادئه يحركه دفاعه الأوسع عن حقوق المصريين السياسية الاقتصادية والاجتماعية. والصحافة بالنسبة له ليست مجرد مهنة، بل وسيلة للتعبير عن هموم ومظالم المواطنين. معرفته الواسعة بتلك الهموم بناء على خبرة طويلة في العمل الصحفي وسط الناس، أفادته كثيرًا في حملته الانتخابية، التي كان يبدأها في الصباح الباكر كل يوم، ويمضي ما يزيد عن 12 ساعة في جولات ولقاءات لا تنتهي في كل مقرات الصحف الكبيرة والصغيرة، القومية والخاصة، وحتى تلك التي تمتلكها الشركة المتحدة للإعلام.
ضد التيار
لم يكن البلشي يتحرك وسط موكب وزفة يصاحبه رؤساء تحرير الصحف ومصورون ومؤيدون، بل كان في أحيان كثيرة يحرجنا جميعًا عندما يصل مبكرًا لمقر الجريدة أو الموقع الإخباري قبل الجميع، ونجده واقفًا بمفرده في انتظارنا رغم أنه المرشح على منصب النقيب. وداخل مقرات الصحف، كان يدخل كل غرفة ويسلم بحرارة على كل من يلتقيه مع قدرة فائقة على فتح حوارات ودية، يرد فيها على كل الأسئلة بصدر رحب.
وحتى في بعض الصحف المملوكة للدولة، أو للشركة المتحدة التي تحفظت على قيام البلشي بزيارتها واستقباله بشكل رسمي، صمم على دخولها ولقاء صحفياتها وصحفييها في صالات التحرير بكل تواضع، ودون انتظار الاستضافة في المكاتب الفاخرة لرؤساء مجالس الإدارة ورؤساء التحرير.
لم تسمح إمكانيات البلشي وحملته بإهدار مئات الألوف لطباعة لافتات ضخمة تحمل صوره في المؤسسات الصحفية ومقر النقابة والشوارع المحيطة بها، فاكتفى بتوزيع عدة صفحات تحمل برنامجه الانتخابي ومقترحاته التفصيلية.
ومثل الدبة التي قتلت صاحبها، ساهمت التغطية الإعلامية المكثفة في القنوات التي تهيمن عليها الدولة للمرشح الرسمي مقابل التجاهل الكامل لوجود أي مرشح منافس، في استفزاز قطاع واسع من جموع الصحفيين. وساهمت في دفعهم للمشاركة في الانتخابات والتخلي عن خيار المقاطعة.
ورغم الضغوط التي واجهها الكثير من الصحفيين في المؤسسات القومية وتلك المملوكة للشركة المتحدة لدعم المرشح الرسمي، ومطالبتهم بعدم إعلان دعم البلشي، التزم الكثير منهم بتلك التوجيهات علنًا ولكنهم صوتوا برغبتهم الحقيقية خلف الستار. وعكَس انتشار صورة التصويت للبلشي بقلم ميري موقف قطاع معتبر من الصحفيين الذين شاركوا في انتخابات الجمعة.
أبطال حقيقيون
ولكن يبقى الأبطال الحقيقيون في حملة خالد البلشي المتطوعات والمتطوعون الذين أداروا حملته بكل دأب وإخلاص ودون انتظار أي مقابل. لم يكن في قدرة حملة خالد البلشي أن توفر وجبات من مطاعم المشويات للتوزيع على الحضور. ذهبنا لمقر النقابة ومعنا كراتين بها مئات سندويتشات الفول وأكياس المخلل. وكان المندوبون الذين راقبوا التصويت والفرز أكثر حظًا، حيث نجحنا بصعوبة في توفير سندوتشات الكفتة والدجاج البانيه لهم، قامت بإعدادها زميلة صحفية متطوعة.
هذا الدفاع المخلص دون مقابل عن قضية عكسته الزميلة الشابة شيماء حمدي، التي كانت مكلفة بمراقبة فرز الأصوات في إحدى اللجان الـ22 التي جرت فيها الانتخابات. بعد أن تبين أن المرشح الرسمي خسر في تلك اللجنة، افتعل مندوبه مشكلة وبدأ في الصياح والانفعال، ليهدد القاضي بإلغاء نتيجة الصندوق بأكمله.
كنت أقف بجوار شيماء عندما انهمرت دموعها بلا توقف وهي تتوسل للقاضي "لا أرجوك يا سيادة المستشار ما تلغيش الصندوق. والنبي يا سيادة المستشار". ارتبك الجميع، بما في ذلك القاضي. بالنسبة لشيماء كل صوت في الصندوق هو نتاج جهد وعمل شاق، وستدافع عنه كما تدافع عن أبنائها. من أجل شيماء وجيلها، وبجهودهم، فاز البلشي في انتخابات نقابة الصحفيين رغم محاولات التعطيل التي استمرت حتى اللحظات الأخيرة.
وبعد أن نشرت عدة مواقع رسمية نبأ فوز البلشي، حذفت الخبر، وراج حديث مريب عن أن البلشي ينقصه صوت واحد فقط لكي يتم إعلانه فائزًا من الجولة الأولى بأغلبية 50+1. توترت الأجواء لساعتين، وكادت الأمور تخرج عن السيطرة مع توالي المكالمات الهاتفية بين أطراف عدة، بعيدًا عن القاعة الضخمة حيث جرت عملية الفرز.
وفي النهاية لم يكن بإمكان القاضي المسؤول سوى إعلان فوز البلشي وبفارق يزيد بسبعة أصوات عن النسبة المطلوبة: 2450 مقابل 2211.
لا مجال للمبالغة في تقدير حجم الانتصار، ولن تعود حرية الصحافة والصحفيين فور تولي البلشي لمنصبه. ولكن ما تحقق في نقابة الصحفيين يوم 17 مارس هو بالتأكيد بارقة أمل ورسالة واضحة أن غالبية معتبرة من الصحفيات والصحفيين غير راضين عن تحولهم جميعًا إلى موظفين لدى الجهاز الدعائي للدولة. وأنهم يرغبون في أن تكون لديهم نقابة مستقلة تدافع عن المهنة وحقوق الصحفيين في ظل ظروف اقتصادية شديدة الصعوبة.