يواكب احتفال قناة العربية بمرور عشرين سنة على انطلاقها هذا الشهر، ذكرى اندلاع الحرب الأمريكية على العراق في العشرين من مارس/آذار 2003، أي بعد سبعة عشر يومًا فقط من انطلاق القناة الإخبارية السعودية، وكأنها من استعدادات بدء العمليات العسكرية.
المفارقة التاريخية الأخرى، أن شبكة تليفزيون الشرق الأوسط MBC السعودية وصاحبة قناة العربية، بدأت بثها ونشراتها الإخبارية في الثامن عشر من سبتمبر أيلول 1991 أي بعد ثمانية أشهر فقط من الحرب الأمريكية الأولى على العراق لتحرير الكويت، وبالتحالف مع السعودية، وهي حرب غطتها قناة CNN الإخبارية الأمريكية بشكل يكاد يكون منفردًا ومبهرًا للنخب العربية والخليجية التي حفزتها التغطية الأمريكية لتحذو حذوها، بقنوات تبدو خاصة لكنها تابعة للبلاط الملكي.
ربما لم يلتفت القارئ المصري كثيرًا لمناسبة عشرينية قناة العربية لاعتبارات ضعف مشاهدتها حاليًا في مصر، بقدر ما التفت كثيرون، كما لاحظت من السوشيال ميديا، لمقال يتبع الإعلام الإلكتروني السعودي لصحفي مصري نشأ وترعرع بتلك المنظومة، وهو عماد الدين أديب.
المقال الأخير عن الأنظمة المستبدة التي تظن بقبضتها الأمنية وبطشها أن الوضع مستتب تحت السيطرة، بينما تثبت الأحداث هشاشة النظام وسهولة زواله، هو امتداد لمقال سابق للكاتب نفسه يعدد فيه أسباب سقوط الأنظمة، وكان إشارة أولى على توتر العلاقات السعودية المصرية، ويمثل أسلوبًا سعوديًا أكثر ترفعًا أو تعاليًا من أسلوب الشتائم الذي لجأ إليه رئيس تحرير جريدة قومية مصرية.
تجربة العربية والإعلام السعودي في حرية الرأي والصحافة لم تتجاوز السماح لكتابها أو برامجها بالكتابة بصراحة عن الدول الأخرى، سواء الشقيقة أو الصديقة ناهيك عن المعادية، باعتبار أن أقصى ما يمكن لتلك الدول أن تفعل هو الاحتجاج ولو همسًا لدى الرياض أو الرد عليها بإعلامها، إن لم تكن بحاجة للعطاء السعودي.
أما أن يتحدث الإعلام السعودي بشكل نقدي عن أي وضع في السعودية أو أن يسمح لضيف بانتقاد السياسة السعودية فتلك عتبة لم يقدر الإعلام السعودي على تجاوزها أو تخطيها.
قد لا يبدو أن هناك فارقًا الآن بين السياسة التحريرية المتعلقة بعدم انتقاد الدولة الراعية للقناة بين العربية -السعودية- والجزيرة -القطرية-، لكن السنوات السبع التي سبقت بها الجزيرة قناة العربية كانت مختلفة تحريريًا، بشكل لفت أنظار العالم العربي لتلك القناة المتمردة آنذاك.
وهذه تجربتي مع القناتين.
من واشنطن (2002)
أنُشئت قناة الجزيرة عام 1996 على أنقاض تجربة تليفزيون BBC عربي الأولى بلندن، التي كانت بشراكة مع قناة أوربت (المدار) السعودية، وتوقفت بانسحاب الممول السعودي لعدم قدرة الرياض على تحمل السياسة التحريرية لهيئة الإذاعة البريطانية من حيث استضافة معارض بحريني أو سعودي مقيم بالخارج.
وقبِلَ أمير قطر الجديد وقتها (حمد بن خليفة) التحدي وسمح للقناة بأن تقول ما تشاء في سنواتها الأولى، فلم تكن لقطر مصالح وعلاقات دولية تخشى عليها وقتها، ولم تكن إدارة القناة قد تحولت في سنواتها الأولى لتنحاز إلى تيار الإسلام السياسي، حتى أجبرت واشنطن السعودية على التخلي عنه بعد فترة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
اختبرتُ في 2002 قدرة الجزيرة على قبول الرأي الآخر والمنتقد للسياسة القطرية، فاستضفت ببرنامجي آنذاك بواشنطن معارضًا قطريًا وكاتبًا لبنانيًا قوميًا انتقد قبول قطر استضافة قواعد عسكرية أمريكية، وأُذيعت الحلقة على الهواء وأُعيدت مسجلة، وظللت مع القناة لخمس سنوات بعد ذلك حتى استقلت منها لتحول إدارتها التحريرية الجديدة لتوجه إسلاموي.
استوديو القاهرة (2011)
استطاعت العربية في سنوات قليلة من نشأتها أن تكسب قطاعًا من الجمهور العربي الذي بدأ يتحول عن الجزيرة التي تبنت مع السياسة القطرية تيارات الإسلام السياسي. وربما لتركي الجزيرة بسبب ذلك التحول الأيديولوجي والشعبوي، عرضت عليَّ قناة العربية أن أقدم برنامجًا أسبوعيًا من مصر، التي كنت قد عدت إليها من واشنطن.
بدأ برنامجي "استوديو القاهرة" في مايو/أيار 2010 بموضوعات قوية كتمديد حالة الطوارئ والاعتصامات أمام مجلس الشعب، واستمرت الحلقات الأسبوعية التي كانت تثير ضيق الحكومة مثل استضافة الدكتور محمد البرادعي بعد منع الحكومة إبراهيم عيسى من استضافته بقناة مصرية آنذاك.
بعد تقديم حلقة من تونس عن نجاح الثورة التونسية برحيل زين العابدين بن علي، عدت إلى القاهرة مع اندلاع الثورة المصرية ليصبح البرنامج يوميًا ومتابعًا لأحداثها. وبينما كان البرنامج مساحة لثوار ومتحدثي التحرير، القريب من الاستوديو، كانت تقارير مكتب العربية أقرب للنظام. وكأن القناة تراهن على كل طرف بأحد صحفييها.
في اليوم التالي لإعلان تنحي الرئيس مبارك عن الحكم، استضفت بالبرنامج الإعلامي المخضرم حمدي قنديل رحمه الله ليعلق على سقوط النظام الذي منع صوته في السنوات الأخيرة. ورغم اعتراض القناة قبل مجيئه على استضافته لأنه ممنوع بالمثل من الإعلام السعودي، اضطروا لتمرير الحلقة بعد إصراري على استضافته أو عدم تقديمها.
لقاء حمدي قنديل على قناة العربية
أدركت بالتالي، أنه رغم تحرر مصر التي لم يعد فيها مستبد يمنع حمدي قنديل من الحديث فإن هناك خارجها من يريد أن يحدد من يتحدث في مصر من أبنائها دون غيره. فقررت مع نهاية الحلقة، وضع العربية، ومعها الإعلام السعودي، أمام تحدي المصداقية الذي فشلت فيه ولم تتجاوزه حتى الآن:
"إن لم نستطع أن نقول رأينا فلنتوقف. في الحلقة القادمة سنجرب ذلك؛ سنتحدث عن تأثير الوضع هنا على السعودية، فإن تم ذلك فالعربية قناة مستقلة، وإن لم يتم فأستودعكم الله".
للأسف، قررت القناة أن تكون تلك هي الحلقة الأخيرة من البرنامج ولم تستبدل به أي برنامج آخر لها من القاهرة حتى الآن، وقبلت أن ترسب في امتحانها المهني، دون معاودته حتى بعد وصولها سن العشرين.