مهما اختلفت او اتفقت مع أيٍّ من القطبين أو كليهما، يبقى القاسم المشترك أننا نتحدث عن شخصيتين مصريتين فذتين تجاوز تأثيرهما الفكري والسياسي مصر إلى العالم العربي، بل والإسلامي. لكن هل هناك ما جمعهما معًا سوى الموت وقناة "الجزيرة"؟!
شهد الأسبوع الماضي (23 سبتمبر) ذكرى الميلاد التاسعة والتسعين "للأستاذ" محمد حسنين هيكل (1923-2016) الذي توفي عن 92 سنة، كما شهد الأسبوع نفسه (26 سبتمبر) رحيل "الشيخ" يوسف القرضاوي (1926-2022) عن 96 عامًا.
كلاهما وُلد ونشأ وتعلم في مصر الملكية، قبل 1952، لكن مع فارق طبقي وبالتالي تعليمي؛ يوسف ابن الريف اليتيم الفقير الدارس في جامعة الأزهر، ومحمد ابن التاجر الميسور الحال بما سمح له بمدارس اللغات والجامعة الأمريكية.
رغم أنَّ الرجلين جرّبا السجون المصرية، لكنَّ القرضاوي خبرها وهو في شبابه، قبل سن الثلاثين، ثلاث مرات لانتمائه ونشاطه بجماعة الإخوان المسلمين؛ مرةً بعهد الملكية (1949)، ومرتين في عهد الجمهورية الناصرية (1954 و1961)، وهذه الأخيرة امتدت لعشرين شهرًا.
أما هيكل فجاء سجنه لأقل من ثلاثة أشهر بعدما تجاوز سنه الستين! فقد سجنه السادات دفعة واحدة مع أكثر من 1500 شخصية سياسية مصرية اختلفت معه (3 سبتمبر 1981)، وأفرج عنهم مبارك (25 نوفمبر 1981) بدعوتهم للقصر الرئاسي، في الشهر التالي من اغتيال السادات.
صحيح أنَّ السجن سجن ولو في قفص ذهبي، لكن شتّان بين الظروف القاسية للإسلامي القرضاوي في السجون الناصرية، وظروف سجن منظّر الناصرية هيكل في سجن السادات السياسي، الذي كان إعلامه يتندر على دخول السيجار ومياه بيرييه المستوردة "للأستاذ" في محبسه!
كان العهد الناصري هو الذهبي لهيكل، مُنظّره وواضع "فلسفة الثورة" لناصر، لذا انقلب الحال مع السادات لتصبح أغلب كتاباته وإسهاماته بعد ترك "الأهرام" (1974) يكتبها ويقدمها لوسائل إعلامية ودور نشر خارج مصر، وإن ظل يعيش فيها حتى مماته.
أما القرضاوي، فترك مصر منذ عام 1961 مكلفًا في البداية كواعظ من الأزهر إلى قطر، ليعيش فيها باقي حياته حتى مماته مقربًا من آل ثاني، خصوصًا الأب خليفة يليه الأب حمد، وحتى الابن الأمير الحالي تميم. وقدّم من بلده الثاني قطر جل كتبه ودعوته. وحين سُئل أي البلدين أقرب إليك؛ مصر أم قطر؟ أجاب "كلاهما.. بل كل بلاد الإسلام بلادي".
كلاهما لم يشأ تولي منصب سياسي رفيع في بلاط السلطان، إلا استثناء، مفضلًا أن يكون مُنظّر الحاكم وصانع القوة الناعمة للدولة التي احتضنته سواء كانت لهيكل مصر الناصرية المصدّرة لثورة "التحرر" الاشتراكي والقومية العربية، أو للقرضاوي قطر الأميرية المصدّرة "للصحوة" أو الإسلام السياسي.
لكن جمعتهما، بعد تجاوز كل منهما السبعين من العمر، منصة إعلامية واحدة: قناة "الجزيرة" القطرية! مع فارق أن هيكل وصل للعالم كله مبكرًا جدًا عبر مؤسسته الصحفية الأهرام.
كانت "الجزيرة" أداة الشيخ القرضاوي الرئيسية للتأثير في العالم العربي، وعلى مدى نحو ربع قرن، منذ أسبوعها الأول في نوفمبر 1996 من خلال استضافته أسبوعيًا ببرنامج "الشريعة والحياة" الذي تعاقب على تقديمه كمضيفين "للشيخ" عدة مذيعين من أحمد منصور وبعده ماهر عبد الله (رحمه الله) إلى خديجة بن قنة ثم غيرهم.
بينما وثّق تلامذة هيكل كلمات الأستاذ عن حسرته لتأييد ودعم "مرشح الضرورة"، لم يوثق لنا أحد بعد ما الذي ربما قاله الشيخ القرضاوي أو همس به وهو يشهد استقبال السيسي في قطر
جاء انطلاق "الجزيرة"، المبنية عام 1996 على أشلاء تليفزيون "بي بي سي" عربي القديم، المدعوم سعوديًا والموءود سياسيًا في المهد، لتمثل بتوجهاتها التحريرية، وموضوعاتها الخلافية، وضيوفها المغضوب على بعضهم، تمردًا خليجيًا وعلامة استقلالية قطر عن الهيمنة السعودية ليس فقط سياسيًا، بعد أن حمت نفسها بقواعد عسكرية أمريكية، بل وحتى عقائديًا.
فلم يكن المذهب السني الوهابي مذهب عاصمة أخرى إلى جانب الرياض إلا الدوحة. لكنَّ الشيخ القرضاوي انطلق بفتاواه الأولى المعتدلة ليقدم مذهبًا سنيًا وسطيًا يكسر الجمود السلفي الوهابي، ويجتذب الشباب الإسلامي المتعلم في الغرب، ولا يعادي الشيعة.
كما كان "الشيخ" بفتاواه، وتعليقاته الجريئة على الأوضاع السياسية في عالمنا العربي المهزوم، يتحدى بذلك ليس فقط ريادة الكهنوت السعودي بل على الجانب الآخر منها عبر البحر الأحمر، ريادة ومرجعية الأزهر التقليدية التي تماشت مع تفسير الدين كما يريده الحاكم!
وجد هيكل ضالته في "الجزيرة" المتمردة على الهيمنة السعودية والسكون المصري مع شيخوخة نظام مبارك، وبفضل علاقته وصداقته مع اثنين من مريدي ناصر والقومية العربية، غير المعروفين، وكانا على رأس السلطة في قطر: الأمير حمد بن خليفة وزوجته الشيخة موزا بنت ناصر المسند.
وبعد عام واحد من إعلانه اعتزال الكتابة في عيد ميلاده الثمانين بمقاله "استئذان في الانصراف" انضم هيكل إلى "الجزيرة" عام 2004 مفضلًا عدم وجود مذيع معه، ربما حتى لا يتعاقبوا عليه كما حدث مع الشيخ، ويتحدث مباشرةً مع المشاهدين لساعة كاملة "مع هيكل".
وتواصلت برامجه على القناة لسبع سنوات حتى عام 2011 حين توقفت مساهمات هيكل وظهوره على "الجزيرة".
كانت ثورة 2011 محطة الافتراق بين الشيخ والأستاذ عن "الجزيرة"، التي بقي القرضاوي بها وببلده الثاني قطر. وحدث مزيد من التباعد السياسي أيضًا بينهما، حتى في منتديات الائتلاف في بيروت من خلال المؤتمرات القومية الإسلامية؛ سنة وشيعة، ضد إسرائيل والتبعية للغرب.
فكلا الرجلين أو الزعيمين المنظّرين وجدا في الربيع العربي فرصةً للعودة إلى الجمهور وقواعده والتشدد مع مطالبه، حين بدأ الاحتكام إلى الشعب وليس السلطان، هنا أو هناك.
عاد الشيخ إلى جماعته وجمهوره، وذهب ليخطب في ميدان التحرير حيث علت هتافات الإسلاميين في مليونية الجمعة بعد أسبوع من تنحي مبارك في فبراير 2011. بدأ الشيخ خطبته بقوله "يا أيها المسلمون وأيها الأقباط"!(*)
لكن الأستاذ لم يجد في هذا الاستهلال ما يستحق الالتفات، بل قال حين دعي أخيرًا في التليفزيون الحكومي المصري معلقًا على ظهور وخطبة القرضاوي في تلك المليونية "أستطيع القول إن آخرين كانوا يريدون بهذا الموقف تصويره وكأن الخميني عائد إلى مصر".
لم يذهب "الأستاذ" إلى التحرير وترك هذه الجولة للإسلاميين، لكنه عاد بعد عامين فقط وبمجرد الإطاحة بحكم الإخوان وعودة "القرضاوي" لقطر، ليقدم استشاراته لمجلس عسكري جديد، أسوة بمجلس قيادة "ثورة" 52، مقدمًا فتواه هذه المرة لمريديه من الناصريين والليبراليين المدنيين بقبول أن يحكم مصر مرة أخرى عسكري، لأنه "مرشح الضرورة" كما كان يصف وزير الدفاع آنذاك الفريق أول عبد الفتاح السيسي.
لم تمر ثلاث سنوات على هذه الفتوى، حتى قال "الأستاذ" متحسرًا على ممارسات الرئيس السيسي، في آخر لقاء لهيكل معهم قبل رحيله عام 2016، "لا تستطيع أن تستعيد سلطة وشعبية جمال عبدالناصر بسياسات إسماعيل صدقى".
وهو يقصد بذلك صدقي باشا، رئيس وزراء مصر في عهد الملكية، الذي عصف بدستور 1923 وقمع المعارضة.
من جانبه، اتسمت فتاوى الشيخ في السنوات العشرة الأخيرة بالتشدد، وتبرير التفجيرات الانتحارية أو الاستشهادية التي تتم ضد النظام السوري باعتباره طاغية. وفي حين قاطعته الدول الغربية وأغلقت أبوابها في وجهه، أصبح القرضاوي أكثر تماهيًا مع السياسات القطرية المتفقة مع السعودية في معاداة أنصار إيران في سوريا ولبنان.
ومثلما انقلب الموقف القطري من حزب الله، تغير وصف الشيخ له من "أشرف مقاومة على الأرض" إلى "حزب الطاغوت" لدعمه دمشق.
وبينما وثّق تلامذة هيكل كلمات الأستاذ عن حسرته لتأييد ودعم "مرشح الضرورة"، باعتباره ناصر مصر الجديد، لم يوثق لنا أحد بعد ما الذي ربما قاله الشيخ القرضاوي أو همس به في الدوحة بحسرة لمريديه قبل أيام من وفاته وهو يشهد زيارة واستقبال الأمير تميم لضيفه الرئيس السيسي في قطر، المتصالحة بالمثل مع السعودية وأغلب مساندي الحلف الإبراهيمي!
(*)تم تعديل الفقرة بواسطة الكاتب