انشغلت الولايات المتحدة خلال الأسبوع الماضي ببعض الوثائق السرية التي لم يسلمها الرئيس الحالي جو بايدن عندما كان نائبًا للرئيس باراك أوباما، عند تركهما البيت الأبيض معًا بنهاية فترتيهما في يناير/ كانون الثاني 2017.
لم يفرق وزير العدل الأمريكي، الذي عينه بايدن، بين الرئيسين السابق دونالد ترامب والحالي في احتفاظهما بوثائق سرية، بل حوّل التحقيقات مع كل منهما لمحقق مستقل من خارج الوزارة، وذلك رغم أن وثائق بايدن كـ "نائب للرئيس"، التي سلّمها متأسفًا دون جدل، يُفترض ألا تكون بأهمية وثائق "الرئيس" ترامب، الذي رفض لأكثر من سنة تسليم مئات الوثائق التي نقلها لمنتجعه بولاية فلوريدا، حتى انتزعتها منه المباحث الفيدرالية بغارة على منزله.
فالقانون الأمريكي واضح، خصوصًا في قانون السجل الرئاسي لعام 1978، ويشمل الرئيس ونائبه، حيث يلزمهما بعد فرز أوراقهما وتسجيلاتهما الشخصية بتسليم كل الوثائق والرسائل والمكالمات المسجلة، سواء في البيت الأبيض أو أي منزل أو مكتب مارسوا العمل الرئاسي منه، إلى مؤسسة الأرشيف القومي.
وحتى لا يتحجج الرئيس المنصرف ونائبه بحاجتهما لإبقاء بعض الوثائق من أجل كتابة مذكراتهما أثناء فترة ولايتهما، أعطاهما القانون بتعديلاته اللاحقة، استثناءً عن المواطن العادي ليصبح من حقهما الإطلاع عليها في أي وقت بعد مغادرة المنصب، ولكن بشرط أن يتم ذلك في مقر الأرشيف القومي وفروعه بالولايات، أو بتكليف موظف بمصاحبة الوثيقة لإطلاعه عليها.
أما المواطن العادي فيحق له الإطلاع على الوثائق والتسجيلات بعد مرور خمس سنوات. وينص القانون كذلك على حق الرئيس السابق في أن يطلب حجب بعض الوثائق، لا تزيد عن ست، عن الإطلاع العام لمدة لا تتجاوز اثني عشر عامًا. أما الوثائق ذات السرية للأمن القومي فلا يحددها الرئيس، بل يقوم بتحديد مدة سنوات حجبها القائمون على الأرشيف القومي بالتنسيق مع الوزارات المعنية بكل وثيقة.
رؤساؤنا ووثائقنا
بعد ساعات من فض الجيش اعتصامي رابعة والنهضة يوم 14 أغسطس/ آب 2013 تجمع بعض أنصار الإخوان المسلمين متظاهرين أمام البيت الريفي للصحفي المخضرم محمد حسنين هيكل، الذي كان تركه ليلتها.
لكن بعد انصرافهم جاءت "مجموعة بلطجية" فنهبت محتويات البيت وأضرمت فيه النيران. احترقت، بجانب آلاف الكتب، ما بين عشرين إلى أربعين ألف وثيقة من وثائق الدولة المصرية، كان يحتفظ بها هيكل بالمنزل، من عهد فاروق إلى السادات، وخصوصًا فترة عبد الناصر بكل مستنداتها الخطيرة.
أكد صحفيون مقربون من هيكل أنه لم يشأ تسليم تلك الوثائق، التي أصدر مستندًا إليها الكثير من كتبه، إلى دار الوثائق القومية المصرية. ونقل موقع رصيف22، بتاريخ 17 أغسطس 2017، عن الكاتب يوسف القعيد تبريره باحتفاظ هيكل بتلك الوثائق، ثم احتفاظ ورثته بما تبقى منها بدلًا من تسليمها لدار الوثائق، بأن "ذلك قد يعرضها للعبث، وعدم الحفاظ عليها، ولأن هذه المؤسسات بها موظفين حكوميين لا يقدّرون قيمة هذه الوثائق وما تحويه".
بالقانون، تم استثناء كل وثائق الرئاسة ووزارات الخارجية والداخلية والدفاع ومعها طبعًا المخابرات، من تقديم أي وثائق للدار
وثائق عبد الناصر التي تركها الرئيس الراحل بمنزله في حي منشية البكري نقلتها أسرته معها كملك خاص لها، وأصدرت منها ابنته هدى ستة مجلدات باسم الأوراق الشخصية، منتقية منها، ولو زمنيًا، ما يمجد صورة الزعيم الأب.
وفي السنة التي أُحرق فيها سلاح أرشيف هيكل "بفعل فاعل"، وهو أرشيف استخدمه هيكل ضد السادات في خريف الغضب عام 1983، أصدر سامي شرف، الأمين السابق للمعلومات والمخابرات لعبدالناصر، خمسة مجلدات عام 2013 بعنوان "سنوات مع عبد الناصر"، مستخدمًا ما احتفظ به من وثائق الدولة المصرية!
دار الوثائق بلا وثائق رئاسية
يعود تاريخ دار الوثائق المصرية إلى قرنين كاملين. أنشأ والي مصر محمد علي باشا، الدفتر خانة عام 1822 لحفظ وثائق وأوراق الدولة من تعاملات رسمية وملكيات زراعية ومواليد. ثم تحولت في العهد الملكي لاسم قسم المحفوظات، وبعده دار المحفوظات الملكية، ثم أصبحت في العهد الجمهوري دار الوثائق القومية، تابعة لوزارة "الإرشاد القومي"، استنادًا لقانون صدر عام 1954.
وبالقانون، تم استثناء كل وثائق الرئاسة ووزارات الخارجية والداخلية والدفاع، التي كان اسمها الحربية وقتها، ومعها طبعًا المخابرات، من تقديم أي وثائق للدار.
حتى الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حين قرر إعدام كل استمارات التعداد السكاني ومعلوماته عام 2021، في عز الكورونا ولأسباب غير معلنة ودون الرجوع لدار الوثائق لأخذ الرأي، لجأت الدكتورة نيفين موسى، رئيسة مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، إلى مجلس الدولة لمنع وقوع ذلك، وطالبت بتسليم المستندات لدار الوثائق. ولكن جاء حكم القضاء الإداري بحق الجهاز وفق قانونه بالاحتفاظ بسرية التعدادات وكل ما ينتجه من بيانات، وبالتالي أُعدمت المستندات.
وقبلها بسبع سنوات، رفض القضاء الإداري في ديسمبر/ كانون الأول 2014 قبول دعوى تمكين باحثين من الإطلاع على وثائق أو تصويرها بدار الكتب والوثائق.
وهناك إجراءات طويلة ومعقدة حتى يحصل الباحث على موافقة، غالبًا أمنية، للإطلاع على وثائق ليست سرية. وبالتالي نادرًا ما يذهب الناس إليها.
لكن هناك أمل فقط لمن ينتظرون تطبيق بعض ما ورد في استراتيجية الرئيس لحقوق الإنسان لإنشاء الهيئة القومية للوثائق والمحفوظات، التي يتحدث عنها البرلمان منذ أربع سنوات، في تنفيذ المادة 68 من دستور 2014 التي تنص على أن:
"المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمدًا. وتلتزم مؤسسات الدولة بإيداع الوثائق الرسمية بعد الانتهاء من فترة العمل بها بدار الوثائق القومية، وحمايتها وتأمينها من الضياع أو التلف، وترميمها ورقمنتها، بجميع الوسائل والأدوات الحديثة، وفقًا للقانون".
وحتى تتحقق هذه الآمال، سيبقى لسان حال حكامنا "الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا" منذ دفترخانة والينا ورب نعمتنا محمد علي باشا.