منذ اندلعت الثورة في يناير/ كانون الثاني 2011، انطلقت معها أبواق رخيصة؛ في البدء صمتت بهدف إنكار الغضب الذي عمّ البلاد وتكذيب أن العباد احتلت الشوارع والميادين في مصر، وأن الهتافات واحدة ولو اختلفت الأماكن والثقافات والمستويات المعيشية والتعليمية للهاتفين؛ عيش، حرية، عدالة اجتماعية، ولو اختلفت مفاهيم الهاتفين للكلمات الثلاثة.
لا أحد في الشوارع ولو كان لونها كدم الهاتفين، أو قُل لا أحد يتظاهر في نهر النيل، انظروا إلى النيل العظيم. إنه فارغ تمامًا من البشر ومن المطالبين بالحرية ومن الغاضبين على هذا النظام، على هذا القمع. لا أحد في الشوارع يا جماعة صدقونا.
كانت هذه حيلة رخيصة كأصحابها، لم تنجح لأن الناس علِموا، وعندما يعلم الناس تصبح الأبواق الرخيصة أقل قيمة مما هي عليه، علِم كل الناس بشأن الثورة حتى ولو لم يتابعوا سوى الأبواق الرخيصة، وهذا لأن اللجان الشعبية في كل شبر، ولأن أحد أفراد العائلة أو ابن من سُكان الشارع عاد إلى البيت جثة هامدة برصاصة ميري في منتصف رأسه، وإما لأن قسم الشرطة في المنطقة بات رمادًا جعل كل من لا يعلم يعلم.
الأمريكان في الشوارع، والإيرانيون دخلوا بأسلحة فتاكة، والإسرائيليون يخططون لاحتلال مصر، وطبعًا وجبات كنتاكي انتشرت في الميدان رغم إغلاق المطعم.
كانت هذه أيضًا احدى استراتيجيات الأبواق الرخيصة لتشويه الثورة، بإطلاق شائعات لا إبداع فيها ولم تجدِ نفعًا مع الناس، حتى هؤلاء الذي كانوا يرفعون صورة المخلوع مبارك أمام ماسبيرو، أنا متأكد أن معظمهم لم يؤمنوا أبدًا بما يفعلوه، لقد التقيت رجلًا تبدو على ملامحه الفقر حينها وأقسم لي أنه معنا بكل قلبه، وأنه يرفع صورة مبارك لأنه يريد "القرشينات" التي يحصل عليها: "يعني لما أرفع صورة مبارك انتم هتخسروا حاجة؟ والله ما هتخسروا أنا اللي هخسر المية جنيه لو مرفعتهاش، هاهاها". هكذا قال.
شائعات الأبواق الرخيصة التي انطلقت في 2011 لم تنجح. كل الأجهزة لم تنجح، أجهزة الأمن، وأجهزة السامسونج. ما زال هناك ملايين يؤمنون بأن يوم ميلادهم الحقيقي هو يوم 28 يناير 2011، عندما شعروا أن من حقهم الإحساس بالمواطنة، مثل الأوطان الحقيقية.
إنهم يتصيدون الأخطاء
عشرة سنين مرت على الثورة، رغم أنها هُزمت بالسلاح، بمليارات متدفقة من دول الخليج، بإعلام يقلب الحقائق، وقضاء لا يعرف العدل، وعسكر لا يرحم، وتحالفات بين الجيش والإخوان؛ وتشتت ما يعرف بالقوى المدنية وقراراتها الحمقاء. ورغم أن هزيمتها تتجلى في أعمارنا الضائعة خلف جدران السجون، إلا أن الأبواق الرخيصة ما زالت تحاول منذ 10 سنين وبشكل ممنهج أن تنجح في مُرادها؛ أن يلعن الجميع ذلك اليوم الذي بدأت فيه الثورة.
في الوقت ذاته ينشرون صورًا لرجال وزارة الداخلية وهم يوزعون الورد على المواطنين في ذكرى 25 يناير، وكأن هذا ينفي أن أحدهم يصرخ في مقر للأمن الوطني لأنه كتب رأيه أو دافع عن الحقوق أو حكى رواية غير رسمية. نفس من يتصيَّدون أخطائنا التي لن تضر الوطن بهدف تشويه الثورة هم ذاتهم من يتجاهلون الفساد والتعذيب والتنازل عن تيران وصنافير. ستجد بعضهم كان مع الإخوان يومًا باعتبارهم الطرف الأقوى في الصراع، ولما تكشفت الحقيقة وضعفت شوكة الإخوان انقلبوا عليهم.
إنهم يتصيدون أخطاء "البشر" الذين شاركوا في يناير بقصد تشويه الثورة ذاتها، لا نشر خبر أو نقل حقيقة، ستجد دائمًا كُل خبر ينشر عن أي مشارك في الثورة لا يخلو من نص عن مشاركته. اتهموا الثورة بأنها ثورة حشاشين لأن أحد من شاركوا فيها يحشِّش، وربما من يقول هذا أصلًا حشّاش، أو من يسمع الخبر نفسه كان يحشش حينها. قالوا إن الغرض من الثورة هو أن "نمشي ملط في الشارع" لأن إحداهن تظاهرت كما ولدتها أمها في أوروبا لتطالب بحرية النساء. وأحيانًا زعموا أنها ثورة متحرشين لأن فلان الذي نشر فيديو عن التعذيب تحرَّش، وكأنهم بهذا ينفون فكرة أن التعذيب جريمة، أحيانًا أخرى قالوا إنها ثورة إرهابيين لأن حدهم انضم لتنظيم داعش.
الثورة في نظر الأبواق الرخيصة هي السبب في بناء سد النهضة وتعويم الجنيه وإغراق المواطن في الديون، وهي السبب في طلاق مدام عنايات وسقوط عبرحمن في المدرسة، وسرقة شقة الحاج إبراهيم عبد المتعال.
الأبواق الرخيصة تظهر على التلفاز وفي الجرائد، وربما يكون بوقًا إلكترونيًا وهميًا جالسًا على مكتبه في المقر الكبير، فاتحًا حسابه الوهمي الذي يحمل صورة فنان ما، ويكتب تعليقاته هنا وهناك لنفس الغرض. أذكر أنني كتبت تقييمًا للمغني الشهير ويجز، الذي يصف نفسه بأنه "وارث كافكا قائد مافيا" على صفحتي الشخصية فيسبوك، وقلت إنني معجب بثقته إلى أبعد حدود وبأنه شئنا أم أبينا ناجحًا ويُعد من صناع التغيير في الأغنية المصرية، تغيير لماذا ولأي اتجاه؟ لا يهم، المهم أنه تغيير.
تمنيت من الله أن يُلهمني ربع ثقته التي جعلته يقول عن نفسه "من غير ما أتمرن يا آبا أول جمهورية" حتى أستمر في الدراسة وفي العمل وفي مراجعة أفكاري، وحتى أقدر على كتابة مقال من جديد. كانت الردود متوقعة، منهم من قال إنه لا يُنتج مزيكا جيدة، ومنهم من نصب نفسه مُدافعًا إلكترونيًا عن الذوق العام الذي حدده هو ومجموعة من أصحابه الذين يريدون كل شيء في الحياة مُفصلًا على هواهم تفصيلًَا، ومنهم من قال إن كلامه غير مفهوم ولا معنى له، كلها تعليقات لا عجب منها؛ لكن الذي عجبت منه كان تعليق الحساب الذي يبدو أنه وهمي، والذي قال "هذا ما أخذناه من ثورة يناير وممن شاركوا فيها، ويجز مين يا أستاذ يا بتاع يناير اللي هيعمل تغيير في الأغنية المصرية".
قد لا أرى منطقًا بربع جنيه في حكم "الباشا" صاحب الحساب الوهمي على الثورة لمجرد أن أحد المشاركين فيها أعلن إعجابه بشجاعة مغني ما؛ لكنه هنا يحاول استغلال كل "خُرم" كي يوصل فكرته التي بدأت منذ 10 سنين، بأن كل ما له علاقة بثورة يناير رديئًا حتى في اختيار الأغاني، فها أنا مثلًا أحاول تدمير الذوق العام لأني أحب أن تظهر أنواعًا جديدة من الفنون وأُشجع حرية الفن، ولأنني من بتوع يناير نسيت السيدة أم كلثوم والأستاذ عبد الحليم.
لا أيقونة لها سوى الشهداء
محاولة البحث عن ثغرة لتشويه الثورة قد تبدو مضحكة بشكل ما، لكنها محاولة تخويف مستمرة للناس ومحاولة للقول إن من شاركوا في الثورة شياطين، وكأن هناك في هذه الحياة ثورات صنعها ملائكة! الثورة مُستقلة عن الملايين الذين شاركوا فيها، ومن شاركوا فيها أشكالًا وألوانًا وأحجامًا، من في الشارع كانوا ملايين، والملايين مجتمع، والمجتمع به كل ما تتخيله وما لا تتخيله، لا عجب أن ترى أن أحدًا ممن شاركوا في الثورة متحرشًا أو فاسدًا أو متطرفًا، هذه ثورة لا أيقونة لها سوى شهدائها، ولو كان لها أيقونات حية فهم بشر، لهم نضالاتهم المبهرة أحيانًا التي جعلتهم يدفعون الثمن من حريتهم، ولهم أخطائهم البشرية، ولا بشر معصوم من الخطأ.
إن كنت كرهت الثورة بسبب فعل أو جريمة لمشارك فيها، فماذا لو علمت مثلًا أن المهاتما غاندي كان كارهًا للنساء، وكان أحد من ساعدوا في استمرار الهند كدولة من أكثر الدول المروعة للسيدات. كان يعتقد أن الجنس ضار بصحة الفرد، وأن الدورة الشهرية تشويه لروح المرأة بسبب حياتها الجنسية، ولما تحرَّش أحدهم بفتاتين من أتباع غاندي، قصّ الأخير شعريهما كي لا تتعرضا للتحرش، واعتقد غاندي أن النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب فقدن قيمتهن كبشر، وأن هناك مبررًا لآبائهن لقتلهن من أجل شرف الأسرة والمجتمع.
كان عُنصريًا حين ناشد السلطات البريطانية بثلاثة مداخل منفصلة بأماكن العمل، واحد للآسيويين، وثاني للأوروبيين، وآخر للأفارقة السود، لأنه رغم أن الهنود لا يتساوون مع أصحاب البشر البيضاء إلا أنهم أعلى مرتبة من السود من وجهة نظره. هل الآن تتمنى أن يعود الاحتلال البريطاني إلى الهند؟ أم أنك ما زالت تؤمن بأن يوم السادس من أبريل/ نيسان 1919 أو العصيان المدني الشامل في الهند الذي دعا له غاندي كان يومًا فاصلًا في تاريخ الهند لمقاومة الاحتلال الإنجليزي، حتى حصول الشعب الهندي على الاستقلال في 1947، وكان يومًا للحرية؟
من الهند إلى الجزائر التي أنجبت المناضلة جميلة بوحيرد، التي تعد جزءًا لا ينفصل من قصة سنوات للثورة الجزائرية ضد جرائم الاحتلال الفرنسي. تبهرنا السيدة جميلة ليس فقط بنضالها ضد الاحتلال وتضحياتها السابقة، بل أيضًا بدعمها لبعض الديكتاتوريات العربية، بتأييدها المعروف لبشار الأسد رغم المجازر التي أقامها للسوريين، وبدعمها للسيسي متناسية حربه على الحرية، وغيرها من المواقف الغريبة. لكن هل تأييدها لديكتاتور هنا وسفاح هناك ينفي أن ثورة الجزائر 1954، التي كانت إحدى أبرز من شاركوا فيها، كانت ثورة لحرية الشعب الجزائري من الاستعمار الفرنسي، وبأنها كانت ثورة حق؟
كثيرون يلعنون الثورة السورية بزعم أنها السبب في ظهور جماعات متطرفة. نفس طريقة تصيد الأخطاء لمن شاركوا في الثورة المصرية، كانت حاضرة بشكل أقوى في الثورة السورية، فمنذ اليوم الأول لانطلاق الثورة كانت أبواق بشار تعلن عن وجود إرهابيين في صفوف المتظاهرين. منذ بداية الثورة السورية وإعلام الدولة يعلن أن المتظاهرين إرهابيون، هذه فكرة لا تختلف كثير عن فكرة اتهامنا في مصر بالانضمام إلى جماعة إرهابية ولو كنا مدافعين عن الحريات أو صحفيين نحارب التطرف بأقلامنا.
لا حراك لملائكة
نجح النظام السوري بشكل ما في تسويق فكرة أن الإرهاب مرتبط بالثورة، وبعيد عن تحليل المشهد في سوريا وظهور جماعات مسلحة متطرفة، لكن لو أن عددًا ممن شاركوا في الثورة السورية انضموا إلى هذه الجماعات، فلا ينفي هذا حقيقة مطالب الثورة السورية، بكل تأكيد كانت الثورة السورية هدفها الحرية والكرامة ووقف القمع والفساد وإسقاط الديكتاتورية، وإن شارك فيها متطرفًا أو حتى تأسست جماعة كاملة بزعم دعم الثورة، لا ينفي هذا حقيقة أن نظام الأسد هو من قتل مئات الآلاف وشرَّد الملايين وأنه السبب الرئيسي في تحويل سوريا إلى ساحة صراع دولية، فمطالب الثورة السورية بريئة من أفعال بعض من شاركوا فيها، تمامًا كما الثورة المصرية والتونسية واليمنية والليبية والسودانية، ولو أن مطالب هذه الثورات تحققت لكنا نرى بلادًا غير التي نحن فيها.
ما أريد قوله باختصار إنه لا ثورة ولا انتفاضة ولا حراك لملائكة، وأن الحُكم يجب أن يكون على المطالب والأهداف. ورغم أن الأبواق الرخيصة تتصيد للثورة أخطاء من شاركوا فيها؛ إلا أن بعض من شاركوا في ثورة يناير أيضًا يرهقون أنفسهم بالاعتقاد بأن ثورتهم صنعها ملائكة هبطت من السماء هاتفة "الشعب يريد إسقاط النظام" فظنوا أن من ثاروا لا يخطئون، ثم استغلت الأبواق الرخيصة هذا الاعتقاد وبدأت في تصيد الأخطاء لبعض من شاركوا في الثورة بقصد تشويهها.
لا نحتاج أن نعتقد إلا أنها كانت ثورة بشرية، صنعها المجتمع؛ شارك فيها من يدافع عن المرأة ومن يتحرش بها، من يؤمن بالحقوق ومن ينتهكها، من يرى الله في كل شيء ومن لا يؤمن بوجوده، من يقرأ الكتب ومن يمسح بها الزجاج. ثورة بها ميول جنسية خطرت على بالك ولم تخطر، اعتقادات وأفكار تعلمها وتلعنها، أو تلعنها دون أن تعلمها، لكن تبقى المفارقة أن هناك من يخطئ ويبقى له سعيه لتحقيق العدالة على هذه الأرض، وهناك من يخطئ ويطارده سعيه لنصرة الفاسدين ونفاقه للحكام.
وإذا كنت ممن بدأوا اللطم والحنين لأيام مبارك بسبب أن بعض من تراهم أيقونات خذلوك بأفعالهم ومواقفهم، يؤسفني أن أخبطك بالحقيقة على وجهك، وأخبرك أنه من غير المتوقع أن تشتعل ثورة في هذه الحياة جميع من شاركوا فيها يسمعون نفس أغانيك المفضلة، يقرأون الكتب التي تَقرأ، يؤمنون بمبادئك ويحددون الحرية بناء على مفهومك لها، وأن كل ثورة ستقوم على هذه الأرض، لا بد أن بين من أشعلوها مَن لديه أخطاء كثيرة ارتكبها، تمامًا مثلك. انس فكرة أن الحسنة تخص والسيئة تعم، لأننا لسنا في فصل تالتة رابع، ولأن الملائكة لا يصنعون الثورات.