وقعت الأطراف السودانية في 19 فبراير/شباط الماضي على المصفوفة المحدثة لاتفاق جوبا، وهو اتفاق لتثبيت آخر سابق في جوبا أيضًا، وقعته الحكومة الانتقالية مع الجبهة الثورية السودانية في أغسطس/آب 2020.
وتضم الجبهة عددًا من المجموعات المسلحة المتمردة، على رأسها حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان فصيل مني مناوي، وكلاهما من إقليم دارفور في الغرب، والحركة الشعبية لتحرير السودان – الشمال، فصيل مالك عقار الناشطة في النيل الأزرق، الذي انفصل عن آخر للحركة بقيادة عبد العزيز الحلو، الناشط في جبال النوبة جنوب كردفان.
لكنَّ الفصيل الأخير لصاحبه مالك عقار لم يوقع على الاتفاق، وهذا الفصيل كان قد انشق على نفسه أيضًا بعد انسحاب ياسر عرمان في أغسطس الماضي، وإعلانه تأسيس تيار جديد يدعى الحركة الشعبية لتحرير السودان "التيار الثوري الديمقراطي".
كما لم يضم الاتفاق فصائل أخرى مثل حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد نور التي انفصلت بدورها عن حركة تحرير السودان جناح مني مناوي.
تبدو خريطة الحركات والانشقاقات في السودان مربكة إلى أبعد حد، ويظهر السودان كبلد غني في موارده وزعمائه الثوريين وفي انشقاقاته واتفاقاته أيضًا.
الكل قابل للانشطار
الكل في السودان قابل للانشطار، في المركز يوجد رأسان للقوات النظامية وانقسام مؤسسي بين قوتين مسلحتين؛ القوات المسلحة النظامية وقوات الدعم السريع، ولكل طرف منهما تسلسل قيادي وطريقة في التدريب والتسليح، وهي حالة يظهر فيها انقسام مؤسسي عززته تصريحات قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) التي تُظهر أن الرجلين على خلاف حول ما يعرف بانقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021 حيث أعلن حميدتي أنه نادم على مشاركة البرهان فيه.
ومن جانبه أعلن البرهان عن رغبته في دمج الدعم السريع في الجيش لتبقى تحت سيطرة القوات المسلحة الرسمية. وعلى الجانب المدني، قوى الحرية والتغيير منقسمة بين الحرية والتغيير المجلس المركزي الموقعة على الاتفاق الإطاري، والحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية المتحفظة على الاتفاق الإطاري.
الحزب الاتحادي أحد أعرق أحزاب السودان كان انقسم بدوره بين الشقيقين الحسن الميرغني الذي انضم للاتفاق الإطاري وجعفر الميرغني الذي انضم لمجموعة الكتلة الديمقراطية، الرافضة للاتفاق والتي أعلنته رئيسًا لها.
في الشرق، أوضح رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا محمد الأمين ترك، أنه منع أنصار المجلس من الاعتداء على طائرات أرسلتها الآلية الثلاثية لنقل الوفود المشاركة في مؤتمر لبحث قضية شرق السودان تم مقاطعته من المجلس. حيث يشهد الشرق انقسامات بين المعارضين لمسار جوبا، وعلى رأسهم المجلس الأعلى لنظارات البجا بقيادة ترك وحلفائه من ناحية، وأسامة سعيد رئيس وفد التفاوض لمسار شرق السودان ورئيس مؤتمر البجا المعارض.
السودان إذن منشطر طولًا وعرضًا، شمالًا وجنوبًا ونهرًا وبحرًا، مركزًا وأطرافًا. وبين كل طرف من هذه الأطراف تظهر انشقاقات أصغر.
كل اتفاق يحتاج إلى اتفاق
بالإضافة إلى الانشقاقات، فالملاحظ دائمًا هو تعدد الاتفاقات. كان أول اتفاق بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في يوليو/تموز 2019 وهو الاتفاق الذي أقر تقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين، وأقر فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وهو اتفاق بين المركز والمركز؛ النخب العسكرية والمدنية في الخرطوم تتفق مع بعضها البعض.
في أغسطس 2020 احتاج السودان اتفاقًا آخر في جوبا بين الحكومة الانتقالية والحركات المتمردة المسلحة في الأقاليم الثلاثة جنوب كردفان، والنيل الأزرق، ودارفور، وهو ما يمكن أن يطلق عليه اتفاق المركز والأطراف. احتاج كل اتفاق لاتفاق آخر، فبعد تعثر المسار السياسي وإطاحة المكون العسكري بالمدنيين من السلطة في انقلاب أكتوبر 2021، تم التوقيع على اتفاق إطاري بين فرقاء المركز من العسكريين والمدنيين في ديسمبر/كانون الأول 2022. أيضًا في الأيام القليلة المنقضية عادت الأطراف لتوقع مع المركز على المصفوفة المحدثة لاتفاق جوبا. يظهر تاريخ السودان الحديث أنه تاريخ من الاتفاقات المتعثرة، التي تحتاج إلى اتفاقات أخرى على أمل التنفيذ.
لكن لا تزال نار تحت الرماد رغم كل هذه الاتفاقات، فما الأسباب؟
المركز والأطراف.. ثنائية التهميش والمقاومة
منذ ظهور دولة الاستقلال في السودان سنة 1956 والسودان يعاني من علاقة مركزه بأطرافه، فالمركز يمارس التهميش وتجاهل الأطراف. وهو التجاهل الذي يشمل النبذ الثقافي باعتبارها ثقافة هامشية، والحرمان الاقتصادي، وذلك بسوء توزيع الموارد. فترد الأطراف بمقاومة النبذ والحرمان الاقتصادي، فيرد المركز أولًا بمحاولة كسر المقاومة، لكنه يفشل بسبب ضعف الهياكل المؤسسية لقوى العنف والقهر الشرعي السودانية، وكذلك عدم تركيز القوة في السودان الحديث رغم محاولة تركيز الموارد والخدمات.
النخب السودانية، كبقية النخب العربية وكذلك الإفريقية، تغيب عنها الثقافة التعاقدية
ومن ثم يستجيب المركز ويقر بمشروعية مطالب أحد الأطراف المتمردة مما يحفز طرف آخر على التمرد. وهكذا تظهر متوالية التمرد والاستجابة. وهو ما يظهر أنه قابل للتكرار في الأزمات الحالية، فالشرق السوداني وقبائل البجا تطالب بحكم ذاتي على غرار أقاليم النيل الأزرق وكردفان ودارفور، وهي الأقاليم التي حصلت على الحكم الذاتي بعد تمرد مسلح ومقاومة عنيفة.
لا يكتفي الشرق بالمطالب، لكن يهدد قادته ورموزه باللجوء للعنف المسلح للحصول على حقهم، ففي خطابه الجماهيري الذي ألقاه بلغة قبائل البجا في مدينة سنكات في الشرق في أكتوبر 2022، أشار محمد طاهر إيلا، آخر رئيس وزراء لنظام البشير بعد عودته من منفاه بالقاهرة، إلى أنه إذا لم يتم الاستجابة لمطالب الشرق في الحكم الذاتي "سنضطر إلى الرفض، وعندها ربما نحتاج إلى وسائل أخرى. ونضطر إلى الموت أو التضحية بدمائنا، فإن الموت من أجل أهلنا وأرضنا وحقنا شرف" في الإشارة لرفض اتفاق جوبا والاتفاق الإطاري وتهديد ضمني بسلك مسالك عنيفة.
وهي المطالب نفسها التي يطالب بها إقليم الشمال الذي يضم ولايات الشمالية ونهر النيل. يظهر التمرد في الحالة السودانية أنه أقصر الطرق للوصول للهدف، وهو محاولة التأثير على المركز النيلي للسودان وانتزاع الحقوق منه. خلقت هذه الثنائيات، التهميش-المقاومة، التمرد-الاستجابة متوالية لا تنتهي من التمرد المسلح والعنيف شكل تاريخ السودان الحديث، وهو لا يزال يشكل أحد أهم أبعاد الأزمة الحالية.
غياب التعاقدية
النخب السودانية، كبقية النخب العربية وكذلك الإفريقية، تغيب عنها الثقافة التعاقدية، وهي الثقافة اللازمة لاحترام الاتفاقيات والبنود التعاقدية التي ترتب حقوق وواجبات بين الأطراف، وهي الثقافة اللازمة لإنجاز التفاوض العقلاني والتوصل لاتفاقيات بشروط مقبولة تلزم أطرافها.
وغياب هذه الثقافة هو الذي يجعل الدساتير في المجتمعات العربية لا تصمد أمام رغبات الحكم في التلاعب بها، كما لا تصمد الاتفاقات السودانية أيضًا، حيث لم تصمد اتفاقات الحكومة مع المتمردين في الأعوام 1965 (مؤتمر المائدة المستديرة-جوبا)، و1972 (بين النميري وحركة تحرير السودان لإنهاء الحرب الأهلية السودانية الثانية)، و1989 (وقعه الصادق المهدي قبل انقلاب 1989)، و2006 (اتفاق أبوجا مع حركات دارفور المتمردة).
وأخيرًا التحقت اتفاقات قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري بركب الاتفاقات المهدرة التي شكلت جزءًا من طبيعة المشهد السوداني. هنا تظهر الاتفاقات لا على أنها حلول دائمة لحالة الصراع، بل تظهر كترحيل مؤقت للأزمة لمستقبل قريب أو بعيد. حيث تجد الأطراف المتصارعة في الاتفاق هدنة مؤقتة لإعادة التموضع والتعبئة قبل أن يتم استئناف الصراع مرة أخرى في جولة جديدة.
الوعود أكبر من الإمكانيات
تولد وعود الاتفاقات متضخمة لكنها تموت حين تضع أقدامها على الأرض. الاتفاقات السودانية مليئة بوعود لا تتحقق لغياب الإرادة السياسية، ووعود أخرى لا تتحقق لغياب القدرات الاقتصادية. تسرف النخب السودانية في الوعود لأن أثمانها مؤجلة. أقر اتفاق جوبا أن على الحكومة المركزية دفع 700 مليون دولار لإقليم دارفور سنويًا لإعادة الإعمار وعودة النازحين. كما أن الحكومة مطالبة بتوفير متطلبات دمج الحركات المسلحة في الجيش السوداني، التي تتراوح وفقًا لبعض المصادر ما بين 10و11 مليار دولار.
أقرت الأطراف الموقعة بما فيها الحكومة والحركات المسلحة والقوى المدنية أن التمويل وضعف الموارد كانا العقبة الأكبر في تنفيذ اتفاقيات السلام الأخيرة. اشترى الموقعون أسماكًا لم تخرج من البحر بعد، واتفقوا على إنفاق أموال لم تدخل جيوبهم بعد.
يعاني السودان من أزمات هيكلية تحتاج تغيير مفاهيم لا تغيير أماكن الاجتماعات، وثقافة تفاوضية تقبل بوجود أطراف لها مصالح متعارضة يجب الموازنة بينها، حتى لو لم تلجأ هذه الأطراف الى التمرد المسلح، ودمج الجميع في عملية سياسية واحدة تعرف متى تستوعب المطالب المشروعة ومتى تقدم التنازلات ومتى ترفض الاستجابة لابتزازات أطراف بما يثير حفيظة أطراف أخرى لها مطالب. فهل تشهد الاتفاقات الأخيرة هذا التغيير الذي لا يزال متعثرًا أم ستلقى الاتفاقات الأخيرة مصير سابقتها، حيث تظل الأسباب التي أدت إلى إهدار الاتفاقات السابقة قائمة دون مراجعة، ربما إلى يومنا هذا.