"قومي بلاش دلع.. عيب اللي أنتي بتعمليه ما كلنا بتجيلنا الدورة وعادي بنعمل كل حاجة.. أنا ولدت ونزلت الشغل بعد أسبوع وما حصليش حاجة.. ما تعمليش منها قصة كبيرة كل الستات بتنقطع الدورة ويكملوا حياتهم عادي". بعضٌ من الجمل التي قيلت لنا ولو مرة واحدة في حياتنا للرد على أي شكوى تتعلق بآلام الدورة الشهرية، أو انقطاعها، أو حين يتعلق الأمر بأي آلام خاصة بطبيعة جسم المرأة.
تتعامل النساء قبل الرجال في مجتمعاتنا، مع ما يتعلق بأجسادهن كأحد التابوهات التي يمنع الحديث عنها. وكم لا أزال أذكر الخجل والإحراج اللذين كنت أستشعرهما كمراهقة، حين أضطر إلى شراء الفوط الصحية بنفسي. كان يجب أن يتم الأمر بسرية تامة.
أنتظر كي يفرغ المحل من الزبائن، واقترب بتردد من البائع وأطلب الفوط بصوت خفيض، أضطر معه إلى تكرار طلبي أكثر من مرة. وكان البائع يضعها في كيس أسود بحركة سريعة وبوجه متجهم. أضع المال على الطاولة أمامه وأخطف الكيس من يده، وأحرص على ألا تلتقي أعيننا. كأننا اتفقنا ضمنيًا، أنا وهو، على مدارة "الفضيحة".
مجرد شراء الفوط الصحية كان يترك لديَّ إحساسًا بالخزي، والمزيد من الرفض لجسدي كأنثى كُتب عليها أن تعيش مع عار هذا الجسد. فكيف الحال مع الشكوى من الألم أو التعب أثناء الدورة. فهو من المحرمات، وربما يكون مدعاة للسخرية من المحيطين، الأم والخالات وكل نساء القبيلة! وأذكر كم خجلت حين عرض التليفزيون لأول مرة إعلانًا للفوط الصحية في مطلع التسعينيات.
كنت أولى الرافضات لهذا "الإسفاف" وما اعتبرته انتهاكًا لخصوصية المرأة. كنا نسارع نحن النساء إلى إدانة "قلة الأدب" بتعليقات تبرئنا أمام الرجال الجالسين معنا أمام التليفزيون من هذا "العيب" الذي نرفضه، لنكرس جهلنا وجهلهم بهذا الفعل الطبيعي البسيط!
منذ بقعة الدم الأولى حتى انقطاعها في منتصف العمر، تتكيف المرأة مع كل ما يأتي معها من محظورات وبقع حمراء. فهي الآن مسؤولة عن الحفاظ على "قدسية هذا الجسد" وعليها أن تتقبل دخولها عالم النساء حتى لو كانت في العاشرة من عمرها. لن يُسمح لها بعد اليوم باللعب مع الصبيان، وأنها أصبحت امرأة يمكن أن تجر العار في أذيالها إذا لم تدرك حجم التغير ومسؤولياته. وكالكثيرات من بنات جنسي، يسلبنا المجتمع حقنا في الطفولة بسبب فعل الطبيعة التي لا نملك حيالها شيئًا.
ربما، بسبب معيشتي في أوروبا لوقت طويل، أو لأنني أُفرِط في تفاؤلي وحسن ظني في قدرة البشر على التعلم والتطور، اعتقدت أن الأمر تغيَّر، وأن ما واجهته النساء من جيلي صار ماضيًا، وأن إعلانات الفوط الصحية وزيادة الحديث عن الأمر لربما ساهم بالتطبيع مع الفكرة.
لخيبتي، فوجئت بأن فتيات في سن ابنتي يعانين حتى اليوم من الجهل في التعامل مع الدورة الشهرية وآلامها، ليس من قبل المجتمع فقط، لا، من قبل الأطباء والمؤسسات الطبية أيضًا، هذا في بريطانيا، فما بالك بالحال في العالم العربي أو إفريقيا وغيرها من بلداننا السعيدة؟
"ريح المرأة يقتل"
حتى يومنا هذا، تعاقب بعض المجتمعات النساء لأنهن يحضن، ويجبروهن على الانعزال عن بقية أفراد الأسرة في غرف مخصصة لذلك خارج المنزل، تقضي فيها الفتاة أو المرأة فترة النزف، على اعتبار أنها نجسة وتجلب النحس للبيت ولأفراد الأسرة. وتنتشر هذه العادة في بعض المناطق من إندونيسيا وماليزيا، وبين مجموعات الأميش في الولايات المتحدة. وحتى في بعض القرى في لبنان، لا يتشارك الرجل والمرأة السرير نفسه، أو حتى غرفة النوم نفسها على اعتبار أن "ريح المرأة يقتل".
في بريطانيا تصدَّر السوشيال ميديا الأسبوع الماضي هاشتاج menopause أو انقطاع الطمث، بعد اختفاء سيدة في العقد الخامس من عمرها في ظروف غامضة. تقرير الشرطة استبعد الشبهات الجنائية وكشف عن معاناتها مع مرحلة ما قبل انقطاع الطمث وتوقف الدورة الشهرية. الشرطة تجاوزت صلاحياتها في الكشف عن تفاصيل شخصية عن حياة السيدة، والموضوع محل تحقيق الآن. لكن هذا ليس مبحثنا. وللأسف، وجدت السيدة بعد عشرة أيام من البحث عنها جثة في النهر، ما يعزز فرضية انتحارها المأسوية.
غير أن القضية فتحت نقاشًا واسعًا حول ما نعرفه، وما يجب معرفته عن مرحلة انقطاع الطمث وما يسبقها. وهل تعاني كل النساء والفتيات على نفس القدر؟ هل لدينا الدراسات الكافية لتفسير سبب آلام الحيض؟ أم أن مَن تعاني الأوجاع المبرحة أو النزيف الدموي الغزير سيقال لها "أنت غير محظوظة وعليك التعايش مع الوجع" كما قيل لصديقة ابنتي المراهقة؟
يعزو العلم أسباب الألم أثناء الدورة وحتى انقطاعها إلى التغيرات الهرمونية التي تطرأ على أجسادنا. وأن هناك أمراضًا تساهم في زيادة الألم كالتصاقات الرحم، أو ما يعرف ببطانة الرحم المهاجرة. أما في حالة انقطاع الطمث فيتوقف الجسم عن إنتاج هرمون الأستروجين الأنثوي، ما يؤدي الى جملة من الأعراض التي تزيد المعاناة في هذه المرحلة العمرية التي يطلق عليها في بلداننا "سن اليأس"، لينضم إلى لائحة المسميات التي تكرس مفهوم انتهاء أعمارنا ما دمنا لم نعد قادرات على الإنجاب؛ المهمة الرئيسية التي تحددها بعض مجتمعاتنا للمرأة ودورها في المجتمع.
أبرز تلك الأعراض التغيرات المزاجية والاكتئاب، تزايد آلام العضلات والمفاصل، الهبات الساخنة واضطرابات النوم والتعرق الزائد بالإضافة طبعًا الى مظاهر الشيخوخة التي تطرأ على جسم المرأة بشكل عام من ازدياد التجاعيد إلى تساقط الشعر وفقدان مظاهر الأنوثة. عارض واحد من هذه الأعراض كفيل بقلب حياة الإنسان رأسًا على عقب، فيكف الحال معها مجتمعة في وقت واحد؟
في ستينيات القرن الماضي بدأ العلاج بالهرومونات البديلة للتعامل مع أعراض انقطاع الطمث، ولم تجر الأبحاث الكافية لمعرفة مخاطره المحتملة على النساء حتى مطلع التسعينيات، وأكدت البحوث بعد ثلاثين عامًا من الاستخدام أن علاج الهرمون البديل يزيد من احتمالات الإصابة بالسرطان وأمراض القلب.
وحتى الآن، لا توجد بدائل علاجية أخرى لاحتواء تلك المخاطر. وقد تفاجؤون بمعرفة أن الأبحاث الطبية التي تخص الجانب التشريحي لجسم المرأة تأخرت حتى النصف الثاني من القرن الماضي، ليس فقط ما يتعلق بالحيض أو الإنجاب، بل حتى ما يتعلق بالصحة العامة للمرأة.
بينت الدراسات أن التعرض لذبحة صدرية على سبيل المثال، مختلف من ناحية الأعراض بين المرأة والرجل، وأن الاعتقاد السائد بأن النساء أقل عرضة للتعرض للذبحة الصدرية مرده اختلاف الأعراض وشكل الألم المصاحب لها. لماذا؟ لأن الدراسات كانت تجرى فقط على الرجال!
لا شك أن الوعي بهذه المسألة قد زاد، وأن الكثير من النساء بتنَ يطالبن بالمزيد من البحوث والدراسات لفهم فسيولوجية المرأة واستكشاف المزيد علميًا عن جنسانيتها، وأن الكثير من المفاهيم الخاطئة في طريقها للتصحيح وإن بخطى بطيئة. من مظاهر هذا الوعي أيضًا، أن بعض البلدان باتت تمنح المرأة يوم إجازة مدفوعة شهريًا، كما في اليابان وزامبيا وكوريا الجنوبية.
بلدان أخرى توفر الفوط الصحية مجانًا للنساء لكونها حاجة صحية أساسية وليست رفاهية، مثل اسكتلندا التي أعلنت قبل عامين عن تغطية تكاليف الفوط الصحية للنساء، بينما اكتفت بعض الدول الأخرى برفع الضرائب عنها.
لا شيء يدعو لكل هذا الإحراج والخجل في التعامل مع طبيعة أجسادنا كنساء، بل ربما يجب أن تكون مصدر فخر لنا، إذ خصتنا الطبيعة بالقدرة على منح الحياة، وأن دورتنا الشهرية جزء أساسي من دورة الحياة ومِنحها. ولا داعي للخوف من أوجاعنا والحديث عنها والمطالبة بالمزيد من التفهم والوعي لما يحدث لأجسامنا، فلا الحيض عيب ولا انقطاعه يأس. هي الطبيعة تفعل فعلها، لكننا نحن البشر من يعقد الأمور ويثقلها بمورثات دينية واجتماعية حان الوقت لإعادة النظر فيها.