تصميم: أحمد بلال - المنصة

ليدي جاجا وشيرين والإشراق دون فلاتر

منشور الجمعة 26 أغسطس 2022

شاهدت قبل بضعة أيام فيلم A Star is Born الذي تقوم ببطولته ليدي جاجا، عن قصة مغنية موهوبة تشق طريقها إلى النجاح. تحكي البطلة لصديقها أن المنتجين أخبروها أن لديها موهبةً جيدةً، لكنها لا تمتلك مقومات الجمال الكافية كي تصبح نجمة، خاصة بسبب أنفها الكبير. لكنها في النهاية تحقق حلمها دون أن تضطر للخضوع لمعايير الجمال التي فُرضت عليها. 

الفنانة شيرين تتقاطع في ذلك مع بطلة الفيلم وليدي جاجا نفسها التي واجهت صعوبات للوصول إلى النجاح بسبب شكلها. صوت شيرين واحد من أجمل الأصوات في مصر بل والعالم العربي؛ صوت مطواع تفرده على مساحات متنوعة في موهبة استثنائية.

لكنها ومنذ ظهورها على الساحة الفنية كان معيار الجمال مدخلًا لتقييمها؛ هي الفتاة السمراء النحيلة في صناعة مليئة بـ "الجميلات" اللواتي تناسبن معايير المنتجين. ربما تكون شيرين خضعت لقسوة تلك المعايير، على عكس جاجا، لكنهما في النهاية استطاعتا أن تفرضا موهبتهما الحقيقية.  

ظهور شيرين الأخير وقد ازداد وزنها، فتح عليها باب الانتقادات والنصائح من كل صوب وحدب بضرورة أن تخسر تلك الكيلوجرامات الزائدة، متجاهلين أنها تمر بمرحلة نفسية صعبة، وقد خرجت لتوها من تجربة مريرة. وأن مجرد ظهورها بعد كل ما مرت به وتقاسيه هو انتصار بحد ذاته ومحاولة للخروج من معاناتها الشخصية.

لكن يبدو أن ذلك غير مسموح به في عالم يطالب النساء تحديدًا أن يكُنَّ عرائسَ بلاستيكيةً جاهزةً للعرض بما يُرضي الذائقة العامة التي يتم تشكيلها ببث صورة نمطية للمرأة والجمال. 

تم التعامل مع فنانة بحجم شيرين كأيِّ سلعة تخضع للعرض والطلب، علمًا بأن موهبتها لم تتغير مثلما طرأ على شكلها. فقد أطلَّت بروحها وإشراقتها نفسيهما في مهرجان دولي كبير. غنى معها الحاضرون وتمايلوا مع جمال صوتها، مبتسمةً ومتفاعلةً وخفيفةَ الظل كعادتها.

لم يعِبها الوزن الزائد؛ بل زاد من حلاوتها وتلقائيتها المعهودة. فلا قلق على موهبتها ما لم تعر لتلك الانتقادات بالًا، بل إن بإمكانها أن تقلب المعادلة لصالحها، من خلال ترسيخها لفكرة أن الفنان بشريٌّ، عرضة لتقلبات الحياة، إنسان يتفاعل مع ظروفه؛ يمرض ويتعافى ويستمر رغم الصعاب. أن تكون مصدر إلهام لنا ومثالًا يحتذى. وأنها اختارت أن لا تنزوي في حزنها بل واجهت العالم؛ مرة برأس حليق ومرة بوزن زائد، وهي حتمًا في كل أحوالها، هي نفسها، جميلة.

ليس سهلًا أن تكون مكشوفًا طوال الوقت، وأن تعمل في مهنة يكون فيها شكلك جزءًا أساسيًا من معادلة الظهور أو التفوق. ولكن من وضع تلك المعايير؟ وأتساءل لو كانت مقياسًا لتقييم أساطير كأم كلثوم أو فيروز، هل كانتا ستحققان النجاح الذي حققتاه؟ لا أعتقد. 

لا عيب في السعي لتحقيق الرضا عن الذات من خلال تغيير الناس، خاصة النساء، لأشكالهنَّ وإجراء تعديلات تناسبهنَّ وتشعرهنَّ بالرضا. ولا أريد أن أبدو كمن يحكم على من اختاروا الخضوع لمشرط الجراحة في سبيل تحقيق ذلك المسعى. ولكن أتساءل عن الدوافع؛ إلى أي مدى هي دوافع شخصية تنبع من ذواتنا، وليست نتيجة لتأثير ما يريده الذوق العام؟ 

الإعلان التشويقي لفيلم A Star to Born


الموهبة كالنبت الشيطاني، لا بد أن تجد طريقها.

شخصيًا كنت عرضةً لتلك الضغوط. أعود بالذاكرة إلى بدايات عملي في مجال الإعلام والتقديم التلفزيوني، الذي قادتني إليه الأقدار لا التخطيط والنية. منذ ظهوري على الشاشة، انهالت عليَّ النصائح بتصغير أنفي لأنه "يؤثر على شكلي على الكاميرا". هكذا قيل لي.

أتساءل لو كان لديَّ المبلغ المطلوب حينها لإجراء العملية هل كنت أقدمت عليها فعلًا؟ أشكر ضيق الحال الذي حال دون ذلك.

اليوم أحب هذا الأنف الذي استفز كثيرين، وكان سببًا للتنمر عليَّ من قبل البعض. أحبه وأحب عنادي وإصراري على أن يبقى كما هو، بل في الحقيقة أصبح أكبر من قبل، فكما تعرفون أن الأنف يستمر بالنمو مع العمر على عكس بقية أعضاء الجسم. وأرى أني أحرزت انتصارًا صغيرًا في تحقيق ما ابتغيته من مهنتي دون الاستسلام للتنمر والسخرية.

ربما كان العناد دافعي في البداية، كما هو الحال معي في كثير من الأشياء. لن أغيَّر أنفي، فقط كي أغيظ من ينتقدوني. 

لكني أعترف أيضًا أنه كان محفزًا لي كي أسعى لتحسين معرفتي ومهاراتي المهنية، كسلاح يحصنني من الابتزاز ومحاولات الإحباط. اخترت ألا يكون شكلي هو الأساس في مهنة يلعب فيها "الشكل الحسن" دورًا غير قليل في محددات النجاح أو القبول لدى الناس. وانطلقت من فكرة أن ما يحق للرجل يحق لي. 

الرجال في عالم الفن أو أي مهنة فيها قدر من الانكشاف، يتعرضون لا شك للضغوط فيما يتعلق بأشكالهم، لكنهم قلَّما يلجأون للتغيرات الجذرية. ولنأخذ مثالًا في الصور الكثيرة المنتشرة للمشاهير، التي تقارن بين أشكالهم في بدايات ظهورهم والآن. كلها دون استثناء لنساء من مختلف المهن. والحق يقال، إنهنَّ تغيرنَّ كثيرًا حتى بات يصعب التعرف على بعضهنَّ. لا ألومهنَّ في خياراتهنَّ، في النهاية يمارس العالم قسوته علينا بكل الأشكال الممكنة ويدفعنا لقرارات لا نمتلكها أو نسيطر عليها كما نشاء.

في السنوات القليلة الماضية، بدأت المحاولات لتغيير تلك الأنماط الجاهزة، وبدأنا نرى نساء عاديات يشبهننا في الدعاية والإعلان والسينما. وهناك حرب حقيقية تُشنُّ من قبل كثير من المؤثرين على التطبيقات الرقمية التي تغير شكل الوجه (الفلاتر) بسبب مخاطرها على وعينا الذاتي لأنفسنا، خاصةً لدى الأطفال والمراهقين، بسبب الضغط الذي يتعرضون له جراءها. ولكن وكما في الكثير من الأمور، نتأخر في العالم العربي عن اللحاق بركب التغيير واستغلال الفرص لتعديل المفاهيم المغلوطة. 

صحيح أن الضغوط عامة، وتتسرب إلينا من الفضاء العام الذي يُلزمنا بمعايير محددة، لكني أؤمن بأن التغيير يمكن أن يكون فرديًا، وبأن امرأةً واحدةً ناجحةً مثل ليدي جاجا أو شيرين، لم ترضخ لقسوة تلك المعايير، كافية كي تكون مصدر إلهام لكثير من الفتيات في العالم، كي تشقنَّ طريقهنَّ بموهبتهنَّ الخاصة في أي مجالٍ كان، وأن يؤمنَّ بأن الموهبة الحقيقية كالنبت الشيطاني، مهما كانت المحاولات لاقتلاعها لا بد أن تجد طريقها للنمو.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.