يمكن أن تتوهم السلطة الحالية في مصر، أن صمت الناس على ما هم فيه من مهانة، بسب نقص الحريات العامة وضغط الأوضاع الاقتصادية، هو رضاء عن هذه السلطة، أو اقتناع بأدائها، لكن قد لا يكون الأمر على هذا النحو أبدًا، فأحيانًا يكون الصمت نوعًا من نزع الشرعية، أو المقاومة البيضاء.
فإذا كانت السياسة تبدأ بالكلام، كأي فعل إنساني واجتماعي، فإنها في الوقت نفسه لا تخاصم الصمت؛ بل ربما يكون أحد تعبيراتها المتعددة. وينطوي هذا في حد ذاته على مفارقة أو مجاز، لا سيما لدى الذين ارتبطت الممارسة السياسية في أذهانهم بالصخب والحركة الدائبة، والنزوع الدائم للفعل الظاهر.
لكن تجاوز هذا التصور الأكثر حضورًا في الأذهان، والنظر إلى ما ورائه، يفتح عيوننا على حقيقة أخرى تقول إن الصمت طالما كان وسيلة للمقاومة، أو الاحتجاج غير المعلن، ويبدو أحيانًا أشبه بالتيارات التي تنساب في الأعماق بهدوء تحت الأمواج التي تتلاطم على السطح، أو أشبه بالسكون التام للريح أو حتى النسيم، الذي لا يعني أن الهواء غير قائم ولا يؤدي وظائفه المعتادة في حياتنا.
فمثل هذه الصورة المجازية تنطبق كثيرًا على مجتمعاتنا، إذ إن حجم الذين يشتبكون مع السياسة، ونسمع صوت تطاحنهم، هم قلة قياسًا إلى عدد من لا يعيرونها أي اهتمام، أو أولئك الذين يقتربون منها على فترات متقطعة، أو يكادوا يمسكون بها، رغم أن كثيرين منهم يدركون أنها تمس كل شيء وكل أمر في حياتهم، كبُر أم صغُر.
وحتى هؤلاء إن تهامسوا بكلام في السياسة فإن أصواتهم قد تذهب سدى، وتضيع في الفراغ الهائل بينهم وبين الجالسين على كراسي الحكم، وقد لا يتمكن ممثلوهم في المجالس النيابية والمنصتون إليهم في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء من إيصال صوتهم في كل وقت وحين.
وربما ساهمت السوشيال ميديا في بعض المجتمعات من زاوية اعتبارها "تكنولوجيا التحرر" في انخراط كثيرين في آتون الجدل والنقاش السياسي، لكن هذا لا يزيل الصمت بقدر ما يكرسه، فالجالس خلف حاسوبه، أو الناظر في شاشة هاتفه، نكاد نسمع سوى نبضات قلبه، ونقرات أصابعه على لوحة المفاتيح، وما يكتبه أو يقوله لا يذهب بالضرورة إلى الفضاء العام، وقد لا يراه أو يسمعه أو يقرأه أو يتفاعل معه سوى عدد يعد على أصابع اليد في إطار "الأسرة الافتراضية" و"الصحاب الافتراضيين".
ربما وفرت السوشيال ميديا فرصة للحكومات كي تعرف الطريقة والمضمون الذي تتحدث به الشعوب في السياسة، أكثر مما كانت توفره تقارير المخبرين والعسس واستطلاعات الرأي التي تجرى على عينات ضيقة، لكن تظل هناك قطاعات عريضة من الجمهور، أو المحكومين، غير منخرطة على هذه المواقع، أو لا تستخدمها البتة في التعبير عن المسائل السياسية، بل يعتبر هؤلاء أن تسييسها هو انحراف بها عن الهدف الذي انطلقت من أجله وهو مقاومة الفردانية والاغتراب، وتعويض انحسار الألفة والتماسك الاجتماعي في بعض المجتمعات الغربية.
وهنا يثار تساؤل: كيف يمكن التعامل مع الصمت باعتباره موقفًا سياسيًا، إن كنا لا نعرف أساسًا أسبابه أو ما إذا كان السكوت ذا مغزى سياسي من عدمه؟
في الحقيقة تمدنا تجارب الشعوب بالكثير من الأسباب، وتساعدنا على تفسير مغزى الصمت ومراميه. وفي الغالب الأعم كان صمت الشعوب تعبيرًا عن الرضاء أو الترقب والتأمل أو الضجر أو التأهب أو اليأس أو الهروب أو للعقاب أو جراء الخوف أو الشك في جدوى الكلام.
وكان صمت السلطة راجعًا إلى الاستعلاء والغطرسة ولتفويت بعض المواقف، أو للترفع وكظم الغيظ، أو بسب عدم امتلاك القدرة على الرد، علاوة على العجز أحيانًا، أو التركيز في الأفعال دون الأقوال، أو للإيقاع بالخصم ودفعه إلى الخطأ، أو أخذ الوقت الكافي للتفكير في الانتقام.
ومع كل هذه الأسباب هناك ثلاثة أمور أساسية يجب أن توضع في الاعتبار، أولها أن كثيرًا من المسائل والقضايا السياسية تدور في أذهاننا ونحن غارقون في صمت مطبق، أو شرود تام، ويتاح للبعض منا أن يعبر فيما بعد عما دار في رأسه، وهناك من لا يتاح لهم هذا، أو لا يرغبون فيه.
وثانيها أن الشعوب لا يمكن أن تصاب بـ "السكتة السياسية" التي هي أشبه بـ "السكتة الدماغية" أو الغيبوبة العميقة. وأي حديث في هذا الاتجاه يكون محض مجاز، كأن يتحدث أحد عن موت الشعب أو موت الأمة، فالحد الأدنى من التعبير سواء بالكلمة أو الإشارة أو الإيماءة أو مختلف الرموز يكون موجودًا طيلة الوقت، سواء تم هذا بهمس أو بصخب.
تلهث السلطة وراء النداء على الناس، فإن أبوا واعتصموا بالصمت، فإنها تنزعج انزعاجًا شديدًا
أما الثالث فهو أنه حتى في أعماق الصمت السياسي فإن الأفراد والجماعات تعيش في صدى ما وقع من كلام، في صورة استدعاء للماضي واجترار للذكريات، خاصة بعد الأحدث الكبرى مثل الثورات والانتفاضات والهبات والحروب، ويتخلل هذا الاجترار شعور بالزهو أو الراحة أو الندم، أو تحين الفرصة للعودة إلى الصخب من جديد.
وهناك حالتان أساسيتان يأخذهما الصمت السياسي يمكن شرحهما في النقاط التالية:
1 ـ الصمت والتمنع: ويرتبط بصمت المحكومين عن التجاوب مع نداء السلطة المستبدة لهم، حين تسعى إلى حشد الجمهور حول خطابها وبرامجها، لا سيما في اللحظات الحرجة التي تجد فيها هذه السلطة نفسها مضطرة إلى استدعاء الناس بعد طول تغييب وتذكرهم بعد نسيان، وذلك وقت أن تكون مهددة بالانهيار أو الرحيل، أو تكون معرضة لضغوط قوية تجعلها تتآكل، وتشعر أن وضعها بات في مهب الريح.
وتتوقع السلطة في هذه الحال أن الناس ستستجيب لها طواعية، إما خوفًا أو طمعًا، وقد تدفع التابعين لها لنزول إلى الشارع لتحفيز الجماهير الغفيرة على الخروج من الصمت والترقب، والانخراط في مساندة النظام الحاكم. فإذا رد الناس بالصمت، وأداروا ظهورهم للسلطة، وأشعروها بأنها باتت مجردة من أي شرعية، وأن الشعب يرفضها كلية، فإن سلوكهم هذا ينصرف إلى المقاومة، خاصة إن حدث شعور جمعي بهذا الموقف، ووصلت فحوى الرسالة إلى السلطة وأتباعها.
وتزداد فاعلية هذا الموقف إن كانت السلطة مقدمة على خطوة تحتاج فيها إلى موافقة الناس عليها، خاصة أوقات الاستفتاءات على شخص الحاكم أو لحظة تمرير قوانين وخطط وبرامج معينة، أو وقت يشعر فيه من بيدهم الأمر أن هناك حالة من الرفض المكتوم لسياساتهم، أو حتى وجودهم في سدة الحكم.
ففي مثل هذه الظروف تلهث السلطة وراء النداء على الناس، فإن أبوا واعتصموا بالصمت، فإنها تنزعج انزعاجًا شديدًا، وتعاود النداء عبر آلتها الدعائية، فإن جاء الرد على حاله الأولى، لا تجد السلطة بدًا من تقديم تنازلات متدرجة، تصب في نهاية المطاف في مصلحة الشعب، فإن استهان الناس بهذه التنازلات ولفظوها، فقد لا يكون أمام هذه السلطة من طريق سوى الاستعداد للرحيل، أو أن تفقد أعصابها وتنزلق إلى ممارسة عنف مفرط ضد الشعب فتدفعه إلى مقاومتها بغير الصمت، ومن ثم تدق المسمار الأخير في نعشها، لا سيما إن ظهر بديل في اللحظة المناسبة لم يقابله الناس بصمت، إنما التفوا حوله وباركوه وبحت أصواتهم في مساندته.
ب ـ الصمت والمقاومة: وهذه حالة سطرها مناضلون سياسيون عبر تاريخ الإنسانية المديد، حين التحفوا بالصمت وقت أن كان أعداؤهم يطلبون منهم التحدث. وقد حفل أدب السجون وحوت مذكرات السجناء من مختلف الانتماءات السياسية، بالعديد من القصص التي تبين كيف تحمل بعض المعتقلين التعذيب الجسدي الوحشي في سبيل حماية أسرار التنظيم السياسي الذي يتبعونه، وستر ظهر رفاقهم وإخوانهم الذين يشاركونهم الكفاح.
وقد اعترف السجانون والجلادون أنفسهم بقدرة بعض هؤلاء المحبوسين والمعتقلين والسجناء على تحمل أشد صنوف التعذيب، وتضحية البعض منهم بأنفسهم في سبيل حماية الآخرين، في ظل حرصهم على استمرارية النضال، ومع كراهيتهم العميقة للمستبدين وجنودهم، وهي الكراهية التي تمد المعذبين بقدرة فائقة على تحمل الآلام بصمت.
وعلى سبيل المثال، من يطالع الأدبيات التي أنتجتها الجماعات والتنظيمات السياسية المطاردة في الحياة العربية سيكتشف كيف لعب الصمت دورًا مهمًا في حمايتها، والإبقاء على جذوتها مشتعلة. فمذكرات السجناء التي عرفت طريقها إلى المطابع أعطت الصمت وضعًا متقدمًا فاق في كثير من الأحيان ما يمكن أن يفعله الكلام، وتنتجه الثرثرة، ويؤدي إليه الاعتراف الطوعي عند الخائفين أو القسري عند من لم يتحملوا التعذيب، من حصول السلطة المستبدة على معلومات تفيدها في القضاء على كل مقاوم لاستبدادها.