المنصة
من معرض فاروق إبراهيم

فاروق إبراهيم.. كاميرا تعرف صناعة مقادير العالم

منشور السبت 25 فبراير 2023

قد يبدو ساذجًا أن نعيد استخدام أوصاف مثل "الأمل" و"الفجر" و"الحلم" و"المرحلة الجديدة"، عندما نتحدث عن ثورة يوليو 1952، لكن الأمر لن يبدو كذلك أبدًا عندما يتعلق بقصة حياة المصور فاروق إبراهيم، الذي كان عند اندلاع الثورة، وهو ما يزال في الرابعة عشر من عمره، مرتديًا زي عامل خدمات بمكتب تصوير يتبع إحدى الصحف.

كانت مظاهرة تدب الشارع في حماس، بينما لا يجد الخواجة الأرمني كاربو زخاري، صاحب محل تصوير بوسط القاهرة، مصورًا جاهزًا في مكتبه ليلتقط لها صورًا تصلح لجريدة "المصري"، التي يتعاون معها بالطلب؛ كان هناك فقط الصبي فاروق الذي لم يكذب خبرًا والتقط الكاميرا من مديره إلى الشارع، وكل ما التقطه في ذلك اليوم كان سبقًا صحفيًا للمصري، التي لم تتردد في تعينه مصورًا فوتوغرافيًا تحت التمرين.

ومنذ ذلك اليوم، وعبر رحلة تجاوزت النصف قرن، استطاع فاروق إبراهيم أن يخط اسمه كواحد من أبرز المصورين الصحفيين في مصر، الذي ارتبط بنجومها وأعلامها البارزين، وحتى رأس الدولة ذاته، الذي وقف أمامه مذعنًا في لباسه الداخلي ليلتقط صورًا ستظل ربما إلى الأبد، علامة تدل عليهما؛ السادات وإبراهيم، بينما يحلق الأول ذقنه ولا يظهر من الثاني غير العدسة.

 كيف استطاع أن يحوز تلك الثقة من الأساس بينه وكل هؤلاء اللامعين على جدران معرضه الاستيعادي "الأسطورة فاروق إبراهيم: هاكر الشوارع"، الذي تستضيفه مساحة أكسس بوسط البلد، حتى نهاية فبراير/ شباط الجاري؟

بين ثورتين

يوضح عالم النفس كارل يونج أننا "لا نحيا مباشرةً سوى في عالم الصور"، ويزيد أرشيف فاروق إبراهيم عن 600 ألف صورة، توثق تاريخ ستين سنة تمتد بين ثورتين، هما ثورتا يوليو التي كان أبطالها الضباط، ويناير التي قادها الشعب، قبل أن يرحل بأسابيع معدودة، تحديدًا في الـ 31 من شهر مارس/آذار 2011.

صورة من ميدان التحرير لفاروق إبراهيم

في تتبع مسار تلك السنوات، التي قضى السواد الأعظم منها في مؤسسة الأخبار، فإن أكثر ما سعى إليه كانت الكاميرا الصحفية، التي رفض أن يتركها بتجاوزه السن القانونية والإحالة إلى المعاش، حتى أنه اضطر للتظاهر وحيدًا في عام 2010، والاعتصام بحديقة مصطفى محمود، إلى أن أعيد إلى عمله من جديد.

تلك الواقعة يحكيها للمنصة تلميذه حسام دياب، الذي كان أحد المتضامنين معه في اعتصامه، فالأخبار بعد أن وصل سن المعاش، عرضت عليه "عقدًا صفريًا"، وهو عقد يصمم لمن يستكمل العمل الحكومي بعد تجاوز الستين، ولكن يعفي الصحيفة من كثير من الحقوق المادية للصحفي "وهو ما وجده فاروق تقليلًا من شأنه، فرفضه واعتصم بحديقة مصطفى محمود وتضامن معه زملاء كثيرون".

كان فاروق إبراهيم على علاقة وطيدة بالمؤسسة الرئاسية المصرية، منذ عصر السادات، وظلت على قوتها في عصر مبارك، الذي جمعته بابنه جمال صداقة، لم يستغلها إبراهيم بحسب دياب في أزمته مع الأخبار "كانت نفسه عزيزة، ولم يوسط أحدًا في مشكلته، وعاد سريعًا إلى العمل".

فاروق إبراهيم أثناء تصويره للسادات على غلاف مجلة الحوادث- إحدى إصدارات مؤسسة أخبار اليوم

هذه العلاقة التي ترجمتها صور فوتوغرافية كثيرة، أبرزها صورة السادات في كلسونه الداخلي، وفي اصطحابه له في رحلته لإسرائيل لتوثيق تفاهمات كامب ديفيد، التي حسب ابنه كريم "كانت خطوة مخيفة، لأنها مسؤولية وتكليف وشرف"؛ هي علاقة تبدو محل استفهام عند تدبر موقفه من ثورة يناير التي أطاحت بمبارك آخر رجال نظام يوليو، فبحسب ابنه كريم "كان يعمل حتى اليوم الأخير في حياته، إذ كان في طريقه لميدان التحرير صباحًا لتصوير المتظاهرين في عمر مكرم، قبل أن يضطر أن يغير خريطته ويذهب للمستشفى نتيجة مرضه، وهناك فارق الحياة".

مهندس الصورة الذهنية

لا يمكن النظر إلى فاروق إبراهيم كفنان متمرد إذا توقفنا قليلًا أمام مشاركته في ثورة يناير، ففاروق كان أحد مهندسي الصورة الذهنية للرئيس السادات لدى عموم الشعب، وخلال خمسة عشر شهرًا قضاها بصحبة الأخير بين عامي 1977 و 1978، عبر كل رحلاته إلى القدس والولايات المتحدة خلال مباحثات كامب ديفيد وما تلاها، كانت صورة السادات شعبيًا وعربيًا لا تحظى بالشعبية ذاتها التي حازها القائد المنتصر في 1973.

وفي عام 1981، تفتق ذهن فاروق إبراهيم عن فكرة تسعى لتغيير الصورة النمطية للرئيس أمام شعبه، وتقديمه دون رداء الرئيس، كبسيط منهم، يشبههم حتى عندما يحلق ذقنه أمام المرآة في ملابسه الداخلية. عارضت أسرة السادات الفكرة والصور، خاصة زوجته جيهان، لكن الرئيس اقتنع، وقاما بالمغامرة البصرية معًا. لولا أنهما لم يدركا ثمارها، في مفارقة غريبة، اغتيل الرئيس بعدها بشهرين فقط في حادث المنصة الشهير.

العادي بطلًا

على كل حال. لم تكن تلك التجربة المثيرة فريدة بالنظر إلى أعمال فاروق إبراهيم، الذي دأب على كسر الصورة النمطية للنجوم، فعلى حوائط معرضه تقف الجميلة نادية لطفي بين الأتربة والحجارة، ومصطفى محمود المعروف بتجهمه وجدية "العلم والإيمان" يظهر رفقة عوده، بينما يظهر الجان فاروق الفيشاوي بين الرهبة والجدية وهو يضع لعينيه عدسات لاصقة، ويجلس حائز نوبل في الكيمياء الدكتور أحمد زويل يدخن الشيشة على مقهى الفيشاوي.

نادية لطفي من معرض فاروق إبراهيم

لكن أكثر تلك التجارب فرادة، وربما كانت هي ما ألهمته لاحقة بصورة الرئيس "العادي"، ولعلها كانت الأصعب في الإقناع من الرئيس، هي تجربته مع عبد الحليم حافظ الذي عرف عنه تقديسه للظهور جذابًا حتى في أيام مرضه.

صحيح أن عبد الحليم لم يسعَ في الأصل لتقديم نفسه من خلال الصورة، كفتى للشاشة، فكل أعماله الدرامية أبرزته  فتىً هشًا قليل الحيلة في الغالب إلا من الحب، لكن صورة موازية، فطن إليها فاروق إبراهيم، كانت بحاجة إلى تكريس إلى جوار ذلك الفتى الطيب، هي صورة البطل الذي يصارع مرضه على فراش الموت، ربما كانت تلك الصور إلى جانب غيرها من عوامل، سببًا في الجنازة الشعبية الضخمة التي خرجت في وداع العندليب، وربما تكون تلك الجنازة نفسها هي ما شجعت السادات للقبول بصورة الكلسون.

فاروق إبراهيم مع العندليب

قبلة الست

بحسب حساب دياب، استطاع فاروق إبراهيم الاقتراب من الفنانين ورؤوس الدولة عبر شخصيته المرحة، وموهبته التي فرضت نفسها، موضحًا للمنصة "كان يجيد التأثير في الآخرين، لذا كانوا هم من يسعون إليه".

ولكن تلك العلاقة حدث وأن تعكرت أيضًا، خلال أزمة ربما هي الأكبر في مشواره، عندما قرر أحد المعجبين في حفل كوكب الشرق أم كلثوم بمسرح الأولمبيا في باريس الصعود إلى المسرح لتقبيل قدمها، والتقط الواقعة فاروق، ونشرها في الأخبار، ليقع شقاق كبير بين الاثنين.

يقول حسام دياب إنه "بالتأكيد لم يقصد المغامرة بتلك الصداقة، فرغم أن رضا المصدر ليس هو غاية رضا الصحفي، ولكنه أيضًا لو كان يشعر أنه يتجاوز لما فعل هذا الأمر".

ربما هذا ما فهمته أم كلثوم  أيضًا، لأنهما سرعان ما تصالحا بعد ذلك، وعادت المياه إلى مجاريها واصطحبته معها في أسفارها إلى الخارج مما جعله يفوت جنازة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر نفسه، إذ كانت أم كلثوم في الاتحاد السوفيتي حينها من أجل إحياء بعض الحفلات لصالح المجهود الحربي. 

كاميرا وجسد

تلك العلاقة بالنجوم، أو ربما إلهامًا مما أراد أن يعكسه فاروق عن الإنساني من سيرهم، يفسران التناقض الذي يحمله عنوان المعرض "الأسطورة فاروق إبراهيم: هاكر الشوارع"، ففضلًا عن حلول الشارع كمفردة وثيقة الصلة بالمواطن، تبدو مفردتا الأسطورة والهاكر متنافرتين لما تحمله كل منهما من دلالة على الماضي والمعاصر، لكن نجله كريم يوضح للمنصة أن "الأسطورة هو الاسم الذي اختارته مروة أبو ليلة مؤسسة أسبوع القاهرة للصورة، لأنها لم تصدق أن أحدًا يمكن أن يقوم بكل تلك الأمور، أما الهاكر فلأنه استطاع أن يسبر أغوار الشارع بشكل لا يصدق".

يضيف كريم "كان يتعامل مع الكاميرا كأنها جزء من جسده، لا ينقطع عنه، فلم يكن يتركها إلا في وقت النوم"، ومع ذلك ثمة حادث وحيد في حياة إبراهيم رفض فيه استخدام كاميرته مطلقًا.

يوضح كريم "كانت قضية للحكم على فتاة بالأحداث، لم يستطع الذهاب، كانت الحادثة الوحيدة التي رفض فيها الذهاب لأخذ اللقطة في حياته".

معرض للجمهور

لم يتوقع كريم صاحب فكرة فتح أرشيف والده أبدًا ذلك الاحتفاء الجماهيري بالمعرض حد أن القائمين على تنظيم أسبوع القاهرة للصورة مدوه أيامًا إضافية حتى يتسع لزواره الكثر، الذين وصل عددهم لـ 800 شخص يوميًا، فبعد أن كان من المقرر أن يستمر المعرض من 12 إلى 18 فبراير، تم مده حتى نهاية الشهر، ولعل ذلك ما يحمس كريم فاروق لتنظيم معارض أخرى لأبيه، وإصدار كتاب يتضمن أعماله وسيرته كما أوضح للمنصة.

أحمد زويل على مقهى الفيشاوي

خارج القاعة

لا تمتد صور المعرض على الحوائط الداخلية للقاعة المستضيفة، وإنما انتشرت كالنار في هشيم السوشيال ميديا، ولعل أكثر ما برز منها صورتي زويل ونجيب محفوظ يدخن كل منهما على حدة الشيشة على مقهى الفيشاوي أو الصور المختلفة لنجوم السينما في الستينيات.

لم تنتشر صوره للرؤساء مثلًا، ربما يبحث الناس عن حكاية الذين يشبهونهم أو الذين يصبون لرؤية أنفسهم فيهم، ربما لذلك ستبدو صورة الرئيس السادات شاذة رغم السنين، لكن فاروق إبراهيم سيبقى مثل صوره، لا تسرد حكاية الذين يظهرون فيها وحدهم وإنما حكايته أيضًا، حكاياته المتعددة، حتى يظن المتأمل فيها أنه يعرفه تمام المعرفة أو يجهل كل شيء عنه.