وقف ثلاثة تلاميذ، يبدو أنهم في المرحلة الإعدادية، مستغربين الملصق الكبير المعلق قرب بوابة قصر عائشة فهمي (مجمع الفنون) بالزمالك، الخاص بالإعلان عن المعرض الاستعادي للفنانة جاذبية سري، المستمر حتّى 22 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، ثم عبروا سريعًا.
موطن استغراب وضحك التلاميذ أن الملصق يشمل لوحة للفنانة بين تشكيلاتها امرأة يظهر جزء مكشوف من نهدها.
بالتأكيد ثمة فجوة هائلة بين الفن ومتلقيه، في ظل الانهيار الشامل للتربية الفنية في المدارس، ومع ذلك فالنظرة الطلابية للوحة التي اقتصرت على رؤية الجزء المكشوف من النهد، يمكن أن تضعنا أمام عدد من الأسئلة حول موقف المجتمع المصري من الحداثة ومنطقها الحر، وسؤال: هل وصلت علاقة المصريين بالفنون التشكيلية لحالة فصام بائن، فلم يعد يزور معارضها إلا نخبة صغيرة، وطلاب كليات الفنون؟
بجانب الأسئلة السابقة سؤال آخر؛ هل تصورت جاذبية سري أن يمرَ يومًا ما صبية مستغربين لوحتها، وأن ما يجذبهم فيها مجرد نهد؟ لماذا لم يكن المعرض فرصة سانحة لمسؤولي التعليم لتنظيم زيارات لطلاب المدارس الموجودة في الشارع، الذي يحمل اسم الشاعر عزيز أباظة، والشهير بشارع المدارس المكتظ بأكثر من خمس مدارس متنوعة بين الحكومي التجريبي والخاص، ويتصدره قصر عائشة فهمي على النيل، لتكون فرصة لتعريف الطلاب على الفن.
تعددت الأسئلة وأنا أتذكر مقولة الفنان المصري الرائد حسين يوسف أمين "لا فن بلا علم ولا علم بلا مدرسة ولا مدرسة بلا تربية صحيحة ومنزل مناسب". [1]
بانوراما الفن المصري
إذن هذه فرصة حقيقية لاستعادة سري، ولإلقاء نظرة بانورامية على مسار الحداثة الفنية في مجتمعنا، وفي الخلفية معنا طوال الوقت طلاب المدرسة الإعدادية الذين وقفوا أمام اللوحة الإعلانية ومروا سريعًا، وذلك لأسباب عدّة، منها كون جاذية فنانة حقيقية ومتطورة، وإحدى رواد الحداثة في الفن المصري الحديث، الذين تربوا على يد الرواد الأوائل. ولكونها أيضًا امرأة جريئة نادت بتحرر النساء والتجرد من النظرة التقليدية للمجتمع المصري لهن، كما أنه نشأت في ظل بواكير حركات التحرر النسوية.
ولكونها كذلك عاصرت مصر في رحلة عمرية طويلة امتدت من عام 1925 إلى 2021. أي واكبت مصر الملكية وسقوطها وثورة يوليو وإعلان الجمهورية، وصولاً لنظام مبارك وسقوطه، وثورة يناير، وصولاً للنظام الحالي الذي يسعى لتدشين ما يطلق عليه "الجمهورية الجديدة"، كذلك على صعيد التطور العلمي والصناعي، حتى وصلنا لثورة الاتصال، وعصر الانتقال الرقمي، والسوشيال ميديا والكون الموازي.
كل هذا عايشته جاذبية المولودة بحي بولاق، وتفردت بـ"مراحل فنية عدّة ما بين الواقعية، والتعبيرية والزخرفية والتجريدية، تلك المراحل التي تؤكد على قدرتها الفنية الغنية، التي عكست مدى حبها لوطنها ومصريتها الصادقة، وانفعالاتها سواء بالحزن أو الفرح، أو المصاحبين للعديد من الأحداث مثل نكسة 67 وانتصار، أكتوبر وغيرهما". [2]
رحلة تمصير الفن
إن معرض جاذبية سري الاستعادي المقام بقصر الفنون، بمناسبة مرور 30 سنة على معرضها الخاص بقاعات أخناتون عام 1994، بتنظيم مشترك من الجامعة ووزارة الثقافة، ويضم في حدود الـ80 لوحة للفنانة التي رحلت عن عالمنا العام الماضي، فرصة قلما تسنح لتأمل مسار كبير خطه الفن المصري، بالأخص في تأمل ألوان جاذبية التي دمجت بين الثيمات الشعبية الموروثة في مصر والثقافة التلوينية العالية، وهو أكثر ما يميزها في مراحلها التي بدأت في مشارف أربعينيات القرن الماضي باستشفاف الواقع المصري والتعامل معه، ورسم مشاهد عدة تعبر عنه.
في اللوحات لا يغيب النيل ولا المولد الشعبي، ولا تغيب الطبقات العاملة، ولا المرأة في كل مكان وشكل وطبقة، مع الثيمات المتكررة للطفولة المتكررة، وصولاً إلى التجريدية التلوينية الصوفية، إذ تعبر الألوان عن الحالات أكثر ما تعبر الخطوط، فجاذبية وفق الناقد الفرنسي إيميلي آزار في موسوعته الهائلة "التصوير الحديث في مصر"، "تحررت شيئًا فشيئًا من الصياغات التشكيلة التي تعترف بها المدرسة الأوروبية، ونزعت لتجديد شباب رؤيتنا للتراث المصري القديم، إذ وفقت بينه وبين أبحاثها في مجال اللون". [3]
جاذبية التي تتلمذت على يد راغب عياد ومحمد ناجي وأحمد صبري، وهم أوائل خريجي مدرسة الفنون التي أسسها يوسف كامل في عهد فؤاد الأول، تشربت طموح ذلك الجيل الذي بذل الجهد لنصف قرن، حتى الوصول لهوية خاصة وحداثة مصرية أصيلة، "ففي نصف قرن، تلقى المصورون المصريون تقنية أجنبية ووسيلة تعبير غير وافية للغرض، كان هذا كله الخبرة الأزمة بغية أن يظهر جيل جديد يقوم بنفسه بتطبيع هذا الفن المستورد، وتحويل هذه التقنية الأجنبية إلى تقنية تخصهن واكتشاف رسالته في واسطة التعبير هذه". [4]
ومع حلول عام 1947، حمل جيل جاذبية وعشرات الفنانين لواء الفن المصري من خلال جماعتي "الفن المصري الحديث"، و"الفن المصري المعاصر"، ونجحوا بالفعل في حل الكثير من المعادلات والوصول إلى فن مصري أصيل، ووفق آذار فإنهم "تحرروا من التفرنج كي يكتشفوا العالمية"، وهو ما يعبر عنه البيان الذي أصدرته جماعة الفن المعاصر، و"مهام الفنان أصبحت واضحة: عليه أن يعبر عن الهوية بتنوعها اللانهائي عن طريق أشكال وصور تكون نتاجًا أو تجسيدًا له، كنا نود أن نبحث عن وجود فن يشكل نواة أصيلة لفن مصري معاصر حقيقي لا يستقى أشكاله ونماذجه من بيئة غريبة، أو يكون أسيرًا لقوالب وصيغ ابتدعتها مدارس غربية". [5]
الردة عن الحداثة
لا نحتاج لكلام كثير على أن التصوير وحركات الفن الحديث تقودان الحداثة في المجتمع، وتحمل شعلة تلك الروح المتحررة اللازمة لتطور أي مجتمع كان. وعلى ما سبق، هل تمثل الوقفة السريعة للطلاب وتركيزهم على النهد المكشوف فقط، مفارقة تعكس حيرة المصريين أمام الجسد الأنثوي، والنظرة التقليدية له؟
يعارض هذا فكرة الحداثة التي هي "ظهور ملامح المجتمع الحديث المتميز بدرجة معينة من التقنية والعقلانية والتعدد والتفتح"، وهو ما يشير إليه الفنان مصطفى الرزاز في مقتطف من دارسته عن المعرض الاستعادي لجاذبية، بأنها "مرت بموجات من الحراك والتحول الثقافي والسياسي في مصر، وشهدت موجات بين النزعة الليبرالية والكوزموبالتانية، وما صاحبها من انفتاح فكري وحرية إبداعية من ناحية، وبين نزعات التطرف الداعية لتسييس العقيدة لكبح الحريات وفرض نمط من الفكر الجامد، ليكفر التجريب والتعبير الحر، والفن برمته أحيانًا من ناحية أخرى". [6]
أيضًا لمشهد التلاميذ الذين وقفوا برهة أمام لوحة جاذبية، دلالة واضحة على غياب التواصل الكامل بين الفن ومتلقيه، وهو ما يجدد الحديث عن غربة واغتراب الفن المصري، وما يدعو للأسف أن هذا حديث معاد ومكرر.
لنعد لعام 1966، ففيه دشن وزير الثقافة الأسبق ثروت عكاشة أربعة مؤتمرات كبرى للنظر في حال الثقافة، وكيفية تطويرها في مصر في ظل دولة يوليو، وخصص أحدها للفنون التشكيلة، شاركت فيه بالمناسبة جاذبية سري. [7]
وخلال كلمته في المؤتمر، أكد عكاشة أن الفن التشكيلي يعانى من "عزلة قاسية"، فـ"انعزال الفنون التشكيلة عن الجماهير قد حرمها من النبض.. فلم تحتل الفنون التشكيلة مكانها اللائق بها في المجتمع. فمن المؤسف ألا يرتاد معارضنا الفنية إلا قلة محدودة من المثقفين والمتخصصين، وأن تمر سنوات دون أن تتسع قاعدة المتذوقين، وأن يزداد الفنانون شعورًا بالعزلة والحرمان من تقدير الجماهير". [8]
المؤتمر المشهود الذي حضره صفوة الفنانين والنقاد التشكيليين، أكدت فيه سري عددًا من المقترحات لتقوية أداة توصيل الفنون، للشعب الطامح لـ"اشتراكية عبد الناصر"، كما اقترح غيرها عددًا من المقترحات، على رأسها أن تكون المدارس بيئة صالحة لتلقي الفنون، وأن يربى الطلاب تربية فنية صالحة وإيجاد اتصال بين معارض الفن والمدارس، فهل اختلف شيءٌ من يوم مؤتمر عكاشة؟ بالأخص في شارع المدارس؟
1- إيناس حسني: جماعة الفن المعاصر، وزارة الثقافة، ص 27.
2- كلمة الفنان إيهاب اللبان مدير مجمع الفنون المواكبة للمعرض الاستعادي.
3- الفصل الخاص بجاذبية سري، ص 161، "التصوير الحديث في مصر"، المركز القومي للترجمة.
4- المصدر السابق: ص 23.
5- إيناس حسني: جماعة الفن المعاصر.
6- دراسة الفنان مصطفى الرزاز عن المعرض الاستعادي لجاذبية سري
7- المؤتمر جرى تسجيل فاعلياته في كتاب بعنوان "4 مؤتمرات" صدر عن "دار الكتاب المصري" 1976
8- المصدر السابق: ص 322.