كانت الخرافة ولا تزال تفسيرًا صالحًا للظواهر التي تبدو غريبة بالنسبة للإنسان الذي وجد نفسه في عالم مبهم، وكان عليه أن يبتكر شيئًا يفسر به ما يجري حوله، ويتحكم من خلاله في تتابع الأحداث التي تمضي غيرَ عابئةٍ به، فاخترع الأسطورةَ يتفهَّم بها هذا الوجودَ الملغَز، ويؤَوِّل العالمَ الغريبَ الذي لا يُفصِح عن نفسه.1
مع غياب التفسير العلمي، تحضر الملهاة الإلهية، يحلّ صراع القوى والمخلوقات الخرافية والمسوخ، نلهث وراء حوريات البحر، وجلسات العصاري حول فنجان القهوة، ننتبع فيه سكة السفر ونترقب الأسمر الطويل الذي سيأتي بعد نقطة أو نقطتين مرسومتين بتِفل القهوة، قول إن شالله.
مؤكد سمعت من قبل عن البيضة المقدسة، وتجلي السيدة العذراء في دير جبل درنكة بأسيوط. أنت نفسكَ مرات ومرات، تتخيل صور أشخاص أو حيوانات في السحاب والجدران والجبال وسطح القمر خلال وقوفك في شرفة منزلك.
ولكن بعيدًا عن الخيالات الخاصة، في إيطاليا، كَفَنُ تورينو؛ قطعة من القماش قيل إنها من كفن المسيح، تحمل صورة لرجل يعتقد البعض أنّها ملامح يسوع. أضف إلى ذلك رؤية الأطفال للأبطال الخارقين في الآيس كريم والأرانب الضاحكة في السحب والغيوم. كل هذه الحوادث ما هي إلا تصورات لظاهرة نفسية يستجيب فيها العقل لمحفز عشوائي، يدرك من خلالها نمطًا مألوفًا على الرغم من عدم وجوده، إنها الباريدوليا Pareidolia.
بالتالي أي تهويمات من الممكن أن تصنع شكلًا ما، يرجعها الناس إلى القوى العليا، فيما يفسرها العلم بالباريدوليا كمصطلح مكون من كلمتين يونانيتين؛ PARA وIDOLـ بالصورة الخاطئة أو العشوائية، وهي قدرة إبداعية في المقام الأول، كما سنبين فيما بعد.
من جهة، اعتبرها العلماء نوعًا من الأبوفينيا Apophenia التي تعني الاستسقاط؛ أيّ محاولة ربط أشياء أو أحداث منفصلة عن بعضها لإكسابها معنىً جديدًا، وربطتها الدراسات السيكولوجية بالأشخاص الذين يَرون صورةً أو يسمعون صوتًا غامضًا؛ وربما يكون عشوائيًا.
الولع باﻷنماط
تعال نبسط اﻷمر معًا، لديك موعد عمل مهم يترتب عليه مناقشة لترقيتك، فلا يرن المنبه لإيقاظك قبل ميعادك بوقت كافٍ، تستيقظ لتجد المياه مقطوعة، ترتدي ملابسك فينقطع زر القميص، وتطرطش على بنطالك مياه جراء سيارة مسرعة، تصل لتجد برجيكتور البرزنتيشن به مشكلة! يكفي هذا.
أمامك تفسيران، إمّا أن تكون اﻷحداث مجرد وقائع مزعجة متتالية، أو ثمة قوى متآمرة ضدك، لعلها خالتك التي تريدك لابنتها، أو زميل الدراسة القديم الذي كنت تتنمر عليه وتسميه "الصول كريم".
التفسير التآمري الثاني، هو استسقاط، إدارك رابط بين عناصر لا علاقة بينها، لماذا يحدث كل هذا؟ أغلبنا يعاني الأبوفينيا!
بعيدًا عن اﻷعين التي تتربص بكَ بلا داعٍ، فثمة سبب يمكن أن نفسر به الظاهرة، يتعلق بأن أدمغتنا مبرمجة على رؤية الأنماط patterns، التعامل مع المجسد على نحو أوضح من المجرد، أو بمفردات أدق تنميط الأشياء من حولنا، لابد من وجود قالب كي نعرف نتعامل.
تبدو اﻷشياء أحيانًا هياكل فتملأ دماغك الفراغ، نقطتان وخط وتتصورها وجهًا. هذا الوَلَع باﻷنماط patterns هو الذي أدى لظهور الوجوه التعبيرية على مواقع التواصل الاجتماعي، التعبير عن مشاعرنا لا بد له من شكل، وتصوير عواطفنا تتطلب تشكيل ملامح.
اللوحات الغامضة
الباريدوليا هي قدرة إبداعية في المقام الأول، أو أولى خطوات الابداع، ولعل أكثر مجالين إبداعين يمكن أن نلحظ تأثير الظاهرة عليهما هما السينما والفنّ التشكيلي.
العلاقة الوطيدة بين الباريدوليا والفنون، دفعت الأكاديمية النرويجية راكيل ج.ويلنر إلى تتبع الظاهرة في كتابها "مزالق التفسير الذاتي للوحات الغامضة"، ففي تاريخ الفن، نكتشف أحيانًا صورًا مخفية داخل لوحة ما، ونجري تحليلًا ذاتيًا للدوافع وراء هذه الصور. وهو ما يمكن تفسيره بالباريدوليا.
هنا، يوصي الإيطالي ليوناردو دافنشي تلاميذه "إذا نظرتَ إلى حائطٍ ملوث، أو حائطٍ مبنيٍّ من حجارةٍ خليطة، فقد تجد فيه ما يشبه المناظرَ الطبيعية، من جبالٍ وأنهار صخور وأشجار ووديان عريضة وتلال في تشكيلات عديدة، أو لعلك ترى معاركَ ورجالًا يقاتلون أو وجوهًا وأزياءَ غريبة في تنويعٍ لا ينتهي"2.
وعلى ذكر دافينشي، نرى لوحته الأكثر جدلًا في تاريخ الفنّ العشاء الأخير التي رسمها ما بين عامي 1495 و1498 للدير الدومينيكي سانتا ماريا ديلي جراتسي في ميلانو، تصور مشهدًا دراميًا وصفته الأناجيل الأربعة، عندما أعلن يسوع أن أحدَ الرسل سيخونه، وتظهر اللوحة دراسة معقدة من الانفعالات البشرية المتنوعة، ليصبح المشهد ليس لحظة مجمدة بل تمثيلًا للحظات متتالية.
على الرغم من أن العمل توثيق لحدث في صميم العقيدة المسيحية، فإن دافينشي جرّه لمنحنى فلسفي وإبداعي، ليحول الخبز والنبيذ من رمزين للجسد والدم المقدسين، إلى ممثلين للوعي واللاوعي المسيحي، فيما يمثل الملح المسكوب أمام يهوذا الخيانة وسوء الطالع، وانقسام الرسل طبقًا لعواطفهم لثلاث مجموعات، يمثلون الثالوث المقدس ويتوسطهم المسيح بهدوء وتسامح.
ثم يرسم يوحنا على هيئة امرأة، لتختلف التأويلات، فالمنتصرون للعقيدة قالوا إن يوحنا كان الأحدث سنًا بينهم جميعا وساد في عصر النهضة رسم النبلاء بشعر طويل وملامح أنثوية رقيقة، وآخرون رأوا أن الملامح لا تخص يوحنا وإنما مريم المجدلية.
الفريق اﻷخير يعد أشهر المنتمين له الكاتب الامريكي دان براون، الذي استلهم من باريدوليا العشاء اﻷخير، الروايةَ الأكثر مبيعًا شيفرة دافينشي التي وصلت مبيعتها نحو 60.5 مليون نسخة حول العالم، ومن الرواية أنتج الفيلم الذي حمل الاسم نفسه، واتُهمت جماعات يهودية بتمويله ردًا على فيلم الآم المسيح الذي أظهر مدى وحشية اليهود في صلب المسيح وجلب عداء العالم المسيحي لليهود من جديد، على حد زعم بعضهم.
"سوق العبيد"
لا أحد يتفوق على دافينشي في التلاعب برؤية الجمهور قدر سلفادور دالي، الإسباني الذي قضى حياته في الترويج لنفسه وصدم العالم. يستمتع بمغازلة الجماهير، يخلق ضجة كبيرة، وكلما خفتَ الجدلُ عنه أعاد من جديد، حتّى أنه عرض في بداية مشواره لوحة بعنوان القلب المقدس، تحتوي على عبارة "أحيانًا أبصق بسرور على صورة أمي".
علاقة دالي بالظاهر النفسية ليست بسيطة، فبجانب الباريدوليا التي نحكي عنها، وصف الذي أسميه بـ دافينشي القرن العشرين بجنون العظمة، العبقري سبق أن ردد "أنا رائد بما يسمى نقدًا بجنون العظمة. فإنها طريقة للوصول إلى اللاوعي الخاص بي، بالتالي تكون مستوحاة من الأعمال. دون استخدام المخدرات أو الكحول تمكنت من الهذيان من خلال التحديق في شيء وتخيله شيئًا آخر".
وله مقوله مشهورة "الفرق بيني وبين المجنون أنني لست غاضبًا"، كما يُنسب إليه الناقد اﻷمركي ستانلي ميسلر أن قال في العام 1960 "بالمقارنة مع الرسامين المعاصرين، فأنا أعظم عبقري في العصر الحديث."
عمومًا، يمكن التوقف أمام لوحتين لدالين اﻷولى "سوق العبيد مع تمثال نصفي لفولتير"، التي تبز ملامح الفيلسوف الفرنسي فولتير مكوّنة من صورة لراهبتين إلى جانب بعضهما. "ورغم أنك تستطيع رؤية الصورتين معًا بعد التمعن في اللوحة لوقت طويل، غالبًا ما يختار الناس صورة واحد قبل الأخرى، إمّا صورة فولتير (الفيلسوف الذي ناهض العبودية) أو صورة الراهبتين”.
إذًا، الازدواج البصري يجعل من النادر أن يرى المراقبون كلتيهما في وقت واحد، هنا يقول رئيس كلية علم النفس في جامعة جلاسكو البروفيسور فيليب شينز، إن تأثير اللوحة يسمح لهم بفك شفرة كيفية معالجة الدماغ للمعلومات. وتمكنوا من رؤية كيف تُمرر الإشارات إلى الدماغ، أي فك شيفرة الدماغ.
بجعات فيلة
أمّا اللوحة الثانية فهي البجعات تعكس الفيلة Swans Reflecting Elephants، التي رسمها في العام 1937، وتحتوي على واحدة من أشهر الصور المزدوجة لدالي، الظاهرة التي كانت جزءًا كبيرًا من مرحلة دالي "البارانويا الحرجة"، التي طرحها في مقال له "غزو غير عقلاني"، وأوضح عمليته هذه بأنها "طريقة عفوية من الفهم غير العقلاني على أساس التفسير الحاسم لظواهر الهذيان".
تنعكس البجعات الثلاثة أمام الأشجار القاتمة الخالية من الأوراق في البحيرة وتصبح أعناق البجع وأجسادها جذوع الأفيال وآذانها، والأشجار أرجل الفيلة، وفي خلفية اللوحة منظر طبيعي كاتالوني مُصوَّر بألوان الخريف الناري، وتخلق الفرشاة دوامات في المنحدرات المحيطة بالبحيرة، على النقيض من سكون الماء.
واستخدم دالي الصور المزدوجة كمحاولة لخلق أوهامٍ بصرية وأشكال هلوسة، السمات التي ملأت لوحاته فترة الثلاثينيات، ومن خلال الباريدوليا نرى البجعات وانعكاسها في البحيرة - الفيلة. فما تعكسه البحيرة دلالةٌ ضمنيّة عن قوة الروح وحكمةالعقل، وباعتبار الفيل أكبر حيوان على اليابسة، فإن حجم الفيل قد يعني الطموحات والأحلام، وعظمة الشخصية قد تتجاوز بكثير المظهر الهش والبنان ضئيل الحجم شكليًا الذي تجسده البجعة.
الحقائق لا تطويها الكتب المقدسة، أو المعادلات الرياضية الصفرية فقط، بل نحملها بين ضلوعنا، مع افتقارنا للوسيلة المعبرة. هنا قد تحمل الأنماط الدماغية رسالةً ما، أو شيفرة خاصة بكل فرد، أو شوقًا مستترًا لشخص ما، أو خوفًا مبهمًا نبحث داخله عن طمأنينة شحيحة، فيأتي الخيال ليبني مدنًا بلا أسوار أو جوازات سفر وتأشيرات. أعرف أنني لا أرى ذلك، لكنني أراه.
1- عادل مصطفى: الحنين للخرافة فصول من العلم الزائف، مؤسسة هنداوي، 2019.
2- ألكسندر إليوت: آفاق الفن، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، دار الكاتب العربي، بيروت، 1964، ص 170-171.