بكلمات مقتضبة وسريعة أرسَلَت إليَّ ر. ر. صاحبة الشهادة رقم 13 ترغب في حذف بوست نشرته على صفحتي بطلب منها. كانت قد أرسلت إلىَّ نصًا على صندوق رسائلي الخاص بعد أن أعلنتٌ أنني أستقبل "شهادات الحجاب" إيجابية كانت أو سلبية، من متابعي على صفحتي في فيسبوك.
توقفتُ برهة أمام طلب إزالة الشهادة بعد نشرها. ما كتبته هي لا يعدو أن يكون كلمات احتجاج من مجهولة. لا يعلم أحد هويتها أو اسمها. طلبت برغبتها الكاملة أن تنشر على صفحة شخص لا تربطها به أي صلة. هو الوحيد الذي يعلم الحساب الذي أرسلت الشهادة منه، وهو حساب يمكن ببساطة ألا تكون بياناته حقيقية. الشاهدة محجوبة خلف أكثر من طبقة من طبقات حماية الهوية. وما كتبته هي ونشرته أنا ليس استثناء في خضم ما وصل ونشر من شهادات. فلماذا دفقة الخوف المفاجئة؟
حذفت الشهادة وتلقيتُ بعدها من القراء سلسلة من الاستفسارات. البعض قرأها ولاحظ اختفاءها. ومن تابعوا السلسلة لاحقًا لفت نظرهم القفز من الشهادة الثانية عشرة للشهادة الرابعة عشرة دون تفسير.
عاجزة عن خلع قطعة من القماش
جرأتها وجرأة أخريات كانت مزعجة لقطاعات واسعة من المتابعين، أغلبهم من الرجال، أقلقهم أن تكشف نساء عن القهر والعنف الذي ارتكب ولا يزال يرتكب في حقهن بسبب بضع خصلات من الشعر.
ر. ر. لم تخلع الحجاب بعد. تقول "مازلت أضع قطعة قماش صغيرة على رأسي أنفر منها ولا أطيقها، ولكن لأسباب نفسية بداخلي مازلت لا أمتلك القدرة على التخلص منها تمامًا".
"اليوم وبعد أن أتممت السادسة والأربعين من رحلة عمري، أستغرب عدم قدرتي على كشف شعري تمامًا وتحرري من قيود الحجاب".
أغلبنا، وحتى المتعاطفين، يصعب عليه أن يقدر ما يفعله التعايش مع الرعب والخوف الدائمين. ربما تتجرأ يومًا وتكتب تدوينة قصيرة، تنشرها كرسالة من مجهول لتعبر عن مخاوفك "لما زادت قصص هاشتاج #أنا_والحجاب، استفزني وحرك في الجزء الأكثر تعقيدًا بنفسيتي والأكثر انشغالًا لتفكيري منذ سنوات وقررت أكتب قصتي بعد مالقيت حضرتك اقترحت إرسال رسالة خاصة تقوم بنشرها بدون اسم".
لكن الأمر لا يسلم، ودفقة الشجاعة المباغتة تلك قد تتلاشى في لحظة، عندما تهجم جحافل الذكور لتسخر، وتشوه، وتسب، وتتهم، وتكفر، فيعود الخوف والرعب مرة أخرى.
هل هي "أميرة بحجابها" حقًا؟
الرجال (وبعض النساء لأسباب أخرى) قلقون من قراءة بضعة أسطر على حساب من بلايين الحسابات على فيسبوك. مذعورون من الاستماع ربما لأول مرة إلى ما يجيش بصدور نساء وفتيات أرغمن على ارتداء الحجاب، ويعجزن عن خلعه دون دفع ثمن باهظ.
ليس لذلك سوى معنى واحد وهو أننا نعيش كذبة كبرى. وأن نسبة من القانعات الممتثلات حولنا من "السعيدات بحشمتهن والأميرات بحجابهن"، لسن إلا رهينات عاجزات عن الصراخ. لو ندت عن أي منهن آهة ستفاجأ بجيوش الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولواءات شرطة الأخلاق في هيئة معلقين يستنكرون ويسبون ويشككون ويكفرون.
بعض من هاجموا الشهادات يؤكدون أن "هذه قصص غير حقيقية، خرجت من خيال صاحب الصفحة"، أو أن الفتيات والسيدات وقعن تحت تأثير "الفمنست"، أو أنهن لا "يدركن حقيقة الدين السمح"، أو "لا تفهمن حكمة آيات القرآن" كما يفهمونها.
يضاف إلى ذلك تشكيك في ذمتي، واتهامات لي ولهن بالتربح من النشر، أو بالمشاركة في عملية واسعة لإلهاء الناس عن "القضايا الحقيقية". المهم عندهم أن تختفي تلك الشهادات، وأن "يحتفظ كل متشكك بأفكاره حتى لا يضل آخرين" وربما من الأفضل أن ندفن كل من تصرخ مطالبة بأن تكون كما تريد أن تكون. الموضوع، كما قال أحدهم في بساطة واستهتار "واخد أكتر من حقه".
يكفيني أنني حرة
"دخول الحمام مش زي خروجه" أو "لو لبستيه يبقى مش هتقلعيه.. الحكاية مش سهلة" هذه وعبارات أخرى مماثلة هي الأكثر شيوعًا في شهادات الفتيات والسيدات. لم يكن لكلهن سوء حظ فتاة الإسماعيلية، التي حاولت أمها في شهر أغسطس/ آب الماضي، أن تدهسها بسيارتها لأنها أرادت خلع الحجاب.
الشهادة رقم 16 لصاحبتها ق. د. تتحدث عن تجربة الحجاب تحت الضرب "اتحجبت بالعافية والضرب وأنا عندي 10 سنين، أمي كانت الجهة الأكثر جبروت وقمع، كل حاجة حرام حرفيًا".
عندما عبرت ق. د. عن رغبة تخالف ما تريده الأم كانت النتيجة مؤلمة "قولت إني مش عاوزة ألبس طرحة تاني، إن نفسي أقص شعري وأمشي في الشارع وأشوف الشمس وأنا مش مخنوقة. اتضربت علقة موت ومنعت من الخروج للكلية أسبوع".
عانت ق. د. من الضرب والإهانة على مدى ثمانية عشر سنةً حتى تمكنت من الاستقلال والخروج من هذه البيئة السامة، وختمت شهادتها بالقول "كل ما الدنيا تضيق واكتئب بفكر نفسي إني دلوقت ورغم كل الضغوط والمسؤوليات، يكفيني إني ماشية ف الشارع بالصورة اللي بحب أبص لنفسي بيها في المراية. يكفيني أنني حرة".
هنا في الواقع بيت القصيد. والإشارة للحرية كانت المفتاح الذي حل لي لغزًا استعصى فهمه في البداية. فجموع الغاضبين من نشر الشهادات أغلبهم من الذكور. يتعللون بالخوف على الدين، والدفاع عن الإسلام. لم يفكر واحد منهم في إدانة العنف أو القهر، أو القول إن إجبار النساء على الحجاب يسيء للدين أو يصد النفوس عنه، أو يدفع الفتيات كما حدث في حالات عدة للتخلي عن العقيدة برمتها. هم لا يخشون على العقيدة.. أي عقيدة. هم يخافون من الحرية.
الإسلام كغطاء للعنف الذكوري
الإسلام لا يعني أحدًا منهم. والإيمان والعقيدة والكتاب ونصوص القرآن والسنة ليست ما يخافون عليه. فكلها انتهكت عندما استخدمها دعاة العنف لتمرير العقوبات البدنية والإيذاء النفسي لكل من تفكر في الخروج على الصف، وتحدي الذكور.
عندما نشرت الدعوة لنشر الشهادات، لم أطلب فقط تجارب ضحايا القمع والقهر، بل طلبت شهادات من وجدن الحجاب مرفأ وحصنًا
المعركة هنا معركة قمع، يستخدم فيها الدين كحجة لإخضاع النساء والسيطرة عليهن بحجة التماهي مع رغبة إله لا علاقة له بالعادل الرحيم الذي نزَّل القرآن، لكنه إله آخر يعبدونه من دون الرحمن. إله صنعوه في مخيلاتهم من شذرات النصوص، لا هم له إلا إعلاء ذكورتهم، والاحتفاء بها، ومكافأتهم على كل إساءة واعتداء.
عندما نشرت الدعوة لنشر الشهادات، لم أطلب فقط تجارب ضحايا القمع والقهر، بل طلبت شهادات من وجدن الحجاب مرفأ وحصنًا وشعرن معه بسكينة الطاعة. نشرت ما جاءني منها ومنها الشهادة رقم عشرين لفتاة جزائرية في الثالثة والعشرين من عمرها، تؤكد فيها "ما زادني الحجاب إلا أمانًا وسكينةً واطمئنانًا". وتدعو غيرها إلى "تقوى الله".
والشهادة الثامنة من سيدة اختارته برضاها "هذه قصتي مع الحجاب..ليس فيها الشيخ الشعراوي و لا عمرو خالد. لقد ارتديت الحجاب في أمريكا". وغيرهما من شهادات.
غير أن الذكَر الشرقي المؤمن يكره التحدي حتى لو صدر عن صوت واحد أو امرأة واحدة. ورد فعله سيكون بأعنف ما تطاله يده الآثمة، أو أنامله التي تضغط أزرار لوحة المفاتيح.
في الحياة الواقعية، سيضرب، ويعذب، ويتحرش. وعندما تعجز يداه عن الإيذاء سيسعي للضغط النفسي، والافتراء وتوجيه الاتهامات والسخرية والاستهزاء من مشاعر النساء بتعليقات مسمومة تستدعي في نفوس الضحايا مشاعر الخوف والألم.
الخروج من الحمام له ثمن
لم تكن الشاهدة 13 فقط هي التي اهتزت من جراء الهجوم وطلبت إزالة شهادتها. ن. ع. صاحبة الشهادة رقم 3 كتبت مندهشة "أنا تابعت التعليقات على البوست بتاعي ورغم توقعي للكلام، استغربت الاستهزاء شوية، وشوفت اللي كتب إننا بناخد فلوس على كلامنا ده. بس خليني أقول كام حاجة بسيطة كدة اتعرضت لها بسبب خلع الحجاب:
- زميلة ف الشغل محجبة وطول الليل والنهار تتكلم بالدين.. قررت إنها تطلع عني سمعة سيئة جدًا وسط الناس هناك عشان الكلام يزيد وتجبر صاحب الشغل (المتدين) إنه يرفدني وحصل فعلًا بعد إسبوع.
- صاحب الشغل اللي كان معلق صور آيات قرآنية في كل حتة، وتلاوة القرآن مش بتتقفل من المكتب رفدني. بس قرر يرفدني قدام عميل كبير أنا عملت صفقة معاه..أعطاني قدامه ظرف أبيض فيه شوية ملاليم حرفيًا وقال لي ببساطة متجيش تاني.
- اتضربت واتحبست في البيت واتقص لي شعري واتمنعت من الخروج فترة طويلة.
- العيلة تواصلت مع شيخ أزهري عشان يهديني ويرجعني لعقلي.. لما كلامي معجبوش.. قالي نصًا 'انتي عايزة تمشي على حل شعرك'.
- اتهمت إني ملحدة ودي كان فيها علقة تانية وتكسير تليفون وحبسة أطول، واضطريت أخبي أي كتب بتاعتي عشان كانت هتتقطع".
يصعب أن يكرر المرء بما يكفي أن المطلوب ليس مجتمعًا يتم تنميط النساء (والرجال) فيه بتوحيد الزي والفكر والمعتقد. من الطبيعي أن تتباين الميول والآراء والأفكار وما يرتبط بها من سمت أو زي. لكل إنسان ولكل امرأة بالتأكيد أن تختار ملبسها بما يعكس تصورها عن نفسها. وكاتب هذه السطور لا يعتقد أن الحجاب فريضة لكنه يرى أن الاختيار لابد أن يكون موجودًا وأن ثقافة القطيع لا تخرج شعبًا مبدعًا أو خلاقًا.
عودة الشهادة رقم 13
يبقى فقط أن أقول إن صاحبة الشهادة رقم 13 عادت لتطلب نشرها مرة أخرى بعد تفسير لما حدث:
"تشرفت بمشاركتك تجربتي والتعبير عن كلام صعب جدًا أقوله لأي حد. بالنسبة للتعليقات اللي بتقول إن كاتب جميع القصص واحد (تشير إلى اتهامي بتأليف الشهادات)، فإجابتي هي أن المشاعر واحدة لكل اللي خاضوا التجربة المتشابهة ومش من حق حد لم يخض التجربة أن يحكم عليها".
"ماكنتش متخيله كم الهجوم اللي حصل و الأسلوب العنيف في التعليقات برغم إني في البداية وقراري كنت فخورة بالخطوة دي لأنها أول مرة اتجرأ وأعمل كده، برغم إن الشهادة منسوبة لشخص مجهول. لكن لما لقيت في باقي البوستات (التعليقات على الشهادات الأخرى) نفس الهجوم ونفس أسلوب التعليقات، مااستغربتش ولا بقيت قلقانه زي الأول".
ثم طلبت إعادة النشر.
أعدت الشهادة إلى مكانها وقلت في نفسي: دمتِ حرة. ثم وقفت أتأمل مليًا عبارة كتبتها صاحبة الشهادة التاسعة "لا أعرف ما وجه الاختلاف بيني وبيني .. ولكنني لم أكن أنا".