حساب تقى طارق- فيسبوك
تقى طارق

تقى طارق.. ثلاثة بورتريهات عن فيروز التي أعرفها

منشور الأحد 26 مارس 2023 - آخر تحديث الاثنين 27 مارس 2023

لا أحب فيروز؛ قد لا تتقبل الأمر ولكنها الحقيقة، ورغم احترامي الشديد لصوتها العذب فإنني لا أشعر معه بالنشوة. ليست مثل أم كلثوم أو محمد منير أو حتى جورج وسوف، لا أشعر بالتماهي مع تلك التجربة، وربما لم تكن يومًا خيارًا أول عندما يتعلق الأمر بالحالات الشعورية، أفضل سماع شفيقة وهي تصدح بـ"جربت الحب مرة" في ليالي الشتاء الخاوية، صوت شفيقة له وقع مختلف عند سماعه تحت المطر، أما صوت فيروز فلا.

 كانت تلك آرائي قبل صعود تقى طارق إلى ذائقتي، ليتغير بعدها رأيي في فيروز، في الموسيقى، وفي العالم بأسره.


بورتريه "ست البنات"

الزمان: 8 سبتمبر/ أيلول 2019، المنصورة. "تم القبض على المغنية الشابة تقى طارق، لأسباب غير معلومة".

جرى ذلك في نهار عادي جدًا دون أي مقدمات للتغيير، قبل أن يسقط الخبر على رأسي مثل صاعقةٌ كانت كافية لينقلب اليوم رأسًا على عقب، ظهر الضيق الشديد، عرفت المعنى الحقيقي لآلام القولون، شعرت بوخزة في قلبي حقيقة لا مجازًا، وآثرت الصمت لعدة ساعات من الدهشة، أو الصدمة إن أردت الدقة.

رأيت تقى صوتًا لجيلي، جيل منتصف التسعينيات، الذي يعد جيلًا وسطًا بين من أنجزوا الثورة وبين من تجاهلوها، الجيل الذي تأثر ولكنه لم يشارك، الذي شب وبنى وعيه على أطلال، ظل وجدانه متداخلًا معها رغم الانكسار.

لن تجد لها مشاركات فاعلة في خضم الأحداث، ولن تجد لها أيضًا أغان محرضة بالمعنى المعروف. ربما بعض محاولات لإعادة غناء الشيخ إمام بصوت ينم عن حزن دفين، ووجه سيتبين لك مباشرة أنه ليس أهلًا لمقارعة الرصاص. هي ليست كاميليا جبران، ولا ريم بنا، لكنها ظلت، بالنسبة لي على الأقل، الصوت الأكثر تعبيرًا عنّا، وعني.

كان من رأيتهم من أصدقائها ينادون تقى بـ"ست البنات"؛ تعبير شعبوي لكنه بليغ وربما مقصود. والقصد هنا أنها ليست ممن لديهم القدرة على توحيد الهتاف، وبالتالي لن تحملها على كتفيك في ساحات الوغى، وربما ستعيدها إلى آخر الصفوف، ولكنك على النقيض ستنحني لها مجبرًا إن مرت من أمامك ولو للحظة.

ستتوقف الطبول عن الدق، والحناجر عن الصراخ، وستنكس الرايات في حضورها، الكل يصغي، الكل يريد الطيران. أميرة من زمن سحيق أتت لتربت بصوتها على كتفيك في هدوء ويسر، لتبدأ أنت في إشعال العالم، ليس من أجل الوطن أو القضية، بل من أجلها. ستكتشف أنك أعدتها إلى آخر الصفوف لتتلقى الرصاص فداء لـ"ست البنات"، والسبب واضح؛ ألّا يفقد العالم تلك البراءة المشعة، ألّا نفقد قدرتنا على الغناء والتحليق.

بورتريه "شنطة سفر"

فلاش باك..

في حقيقة الأمر؛ لم تشأ الظروف أن أتعرف عليكِ معرفة شخصية، قابلتكِ مرةً أو ربما مرتين في أماكن سقطت من ذاكرتي مع بعض الأصدقاء المشتركين، ولكوني شاعرًا نعتوه بالجيد، ولا أتفق، كنت من مرتادي مقاهي وسط البلد في فترات متباعدة، ما جعلني أتعثر فيكِ بين الحين والآخر.

والحق أيضًا أني لا أتذكر تفاصيل كثيرة عن تلك الجلسات، ولم يعلق في الذاكرة سوى شيء واحد؛ تلك النظرات الهائمة على وجوه الحاضرين، وكيف كنتِ في كل مرةٍ محور الجلسة الوحيد بينما نحن كالمجاذيب، عيوننا معلقة في اتجاه وحيد، وأفواهنا مفتوحة من الانبهار والتأثر.


لم يسقط من الوجدان أيضًا كيف سمعتكِ للمرة الأولى، عندما قرر أحد الأصدقاء المشتركين مبادرتي بإرسال مقطع صوتي سجله بنفسه ولا يحمل اسمًا، أرفقه برسالة أخرى محتواها "اسمع عشان تتأكد إن أنغام بتاعتك دي مالهاش فيها"، "مية سؤال مهزوم بيترجى الجواب، مش بتقصد عيني يا حبيبي العتاب"، إنها أغنية "شنطة سفر"، سمعتها مئات المرات، لماذا أتحسسُ دموعي هذه المرة؟

أعلم أيضًا ضعفي فيما يتعلق بعلوم الأصوات، لكنني رغم ذلك أمتلكُ قلبًا يخفق دائمًا في الاتجاه الصحيح، رأيتُ صوتكِ شديد الخصوصية، تلك البحة لم تخلق من قبل، صوتٌ صعب المراس. ومثلما كان ينعت رياض السنباطي صوت الشحرورة صباح بأنه صوت عصّي، رأيتكِ صوتًا عصيًا ولكنه أجمل، أو بالمعنى الدقيق للكلمة: أرق.

على أية حال، اصطحبني صديقي بعد إلحاح إلى جلسة في أحد المقاهي وكنتِ متواجدةً، وجدتُ نفسي أقطع الطرقات وراء ذلك الصوت ومهما كانت التكاليف، عشرات الحفلات والندوات في مناطق عدة، ولثلاث سنوات كاملة. رغم ذلك لم أسمح لنفسي أن أتقدم نحوكِ خطوة واحدة، رأيتُ في علاقتِنَا علاقة معجب هائم بفنانه الأثير، رغم سهولة التواصل. كان هناك العديد من الأصدقاء المقربين منك ومني، ولكني فضلت أن تظلي متربعة في ذائقتي على عرش شادية أو نجاة، أو... .

مهلًا. نسيت؛ لقد قررت أن تتربعي على عرش فيروز الخالي، وعندها فقط كنت أقسم لأصدقائي أني رأيت فيروز رؤي العين منذ نصف الساعة، وأنا واثق تمامًا من صدق قولي.

بورتريه "في أمل"

عودة... .

"أحبُ فيروز، صباح جديد دون صوتها لا يمكن عده صباحًا، لو كنت من أولياء الله لدعوت أن تدخل الجنة دون مقدمات، أن أستبدل بحسناتي سيئاتها، لو كنت من أغنياء العالم لجلبت لها الجنة تحت قدميها، ولكني شخص عادي مليء بالخطايا ولا شيء يثبت أنني حي سوى مشاعري تجاه الآخرين".

مقتطف من مقال بعنوان "فيروز.. كيف أصبح قلبي معتلا؟"، كتبته في القاهرة، 8 أغسطس/آب 2020، ولم ينشر.

كان ذلك بعد خروجها من السجن بفترة، رأيتها في فيديو قصير نشره أحد الأصدقاء وهي تستمع لقرار براءتها وعلى وجهها ابتسامة شديدة التعبير، فتأكدت أن الفراشة جاهزة للطيران مرة أخرى. ولكني رغم سعادتي بعودتها السريعة، كانت صدمتي بالسرعة نفسها أيضًا، من مقطع لأغنية مسارح وسيما، انتشر كالنار في الهشيم ولكنه لم يرق لي، وهواجس بأن صوتها لم يعد كما كان. أصبح صوتًا مقيدًا يقع في عديد من الأخطاء، هل من المعقول أنهم استطاعوا نزع حريتها وموهبتها؟ لا أعلم، ولكني ببساطة أعلم أنها ليست هي.


2020، آه من تلك السنة، سنة كبيسة علينا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تمر الشهور ولا جديد. تعداد الموتى يزداد في التوحش، والعالم يتوقف فجأة، ولكن لحسن الحظ؛ لم تصب الموسيقى بأي سوء بعد. "حفلٌ جديدٌ لتقى طارق في تفرانيل، الجمعة 7 أغسطس 2020"؛ وسريعًا اتبعتُ منهجي، حجزتُ باسمٍ مستعار مع التأكيد على كوني سأدفع ثمن التذكرة يدًا بيد، ولا أُخفيكم سرًا، شجعني اسم الحفل ومحتواه على خوض تلك التجربة غير مأمونة العواقب صحيًا، مع الأخذ في الاعتبار أن صوتها أصبح باهتًا لدرجة مخيفة.

"في أمل" وسيكون اقتناص الأمل هذه المرة من رحم السيدة فيروز، مع التأكيد أن فترتها رفقة زياد الرحباني، حالة جديدة لم أدخلها قبلًا، وطريقة أخرى لأُعطي تلك اللبنانية فرصة أخيرة.

فستان أبيض تغطيه الورود، شعر قصير، وصوتٌ ترى فيه العالم كما لو كان قبل دخول الإنسان وانبعاثاته السامة، حيث السماء صافية والهواء نقي، والحياة جميلة؛ "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا"، جملة كتبها محمود درويش ولم يُعلق عليها، ولكنني أجزم أنه كتبها بعد حضوره حفلًا موسيقيًا لفنانه المفضل، والمؤكد أيضًا أنه كان بمفرده، تخيل معي أن تستمع لإيديث بياف وحيدًا، لا يشاركك بها أحد، أنتَ لها فقط وكأنها امتلكتك، ذلك بالضبط ما كنت أشعر به في تلك الليلة، وذلك أيضًا ما سعيت له منذ البداية.

تأكدت ليلتها أن الأزمة السابقة كانت في أذني وليس في صوتها، صوتها لا يشيخ ولا يبهت، تلك الأخطاء تظل مقصودة لأنها جزء من التمكن، وتلك المشاعر التي أشعر بها هي القوة الحقيقية للتأثير، مشاعر متضاربة اجتاحتني، ولساعتين رأيتها فيهم كما لم أرها من قبل، وخرجتُ وأنا على يقين أن فيروز ليست بشرًا عاديًا، هل تدري لماذا؟ لأن تقى شخصيًا غنت أغانيها بتلك السعادة، ليس هناك دليل أمتن من ذلك على جمال فيروز.

خروج... .

هكذا يا تقى، وجدتُ نفسي وبتلقائية شديدة ذاهبًا بمفردي مرة تلو الأخرى إلى "جاليري حيفا"، وهو المكان الذي ترتادينه كثيرًا، لأجلس بعيدا عنكِ بمسافةٍ دون أن أفتح مجالًا لأي نقاش، لا لشيء سوى أن أسمع صوتكِ طائرًا، تمامًا مثلما تحبين سماع "فيروز"، فتستيقظين من نومكِ وتشعرين أن الله أرسل لكِ ذلك الصوت الشفاف خصيصًا ليقول لكِ "صباح سعيد"، تلك هي أنتِ -يا صديقتي العزيزة- وذلك قدر صوتكِ في أذهان محبيك، صوتكِ الذي لم ينل ما يستحق، تمامًا مثل ذلك الجيل المنهك.