نهار الثلاثين من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، هبطت مبروكة عبد الله، السيدة الأربعينية، سلالم عمارتها في شارع الدمرداش عشري قفزًا، وهي تصرخ على أولادها الكبار بينما تحمل في يسراها صغيرتها وعمرها سنةً وثلاثة أشهر، لتصل إلى الشارع رفقة أفراد خمسين أسرة أخرى يسكنون العقارين 6 و8، بعد رجة قوية شرخت الأول وأمالت الثاني.
وشهدت مدينة النجوم في منطقة بولاق في 30 نوفمبر ميل عقارين مجاورين بسبب تنفيذ أعمال حفر من إحدى الشركات التابعة للصرف الصحي، لإنشاء محطة كاملة بالمنطقة. وقتها قررت الجهات التنفيذية إخلائهما من السكان، دون الحصول على أي سكن بديل حتّى اﻵن، بحسب الحاجة صباح المقيمة في أحد العقارين.
يتذكر السكان جيدًا عندما حلّت شركة المقاولات في أكتوبر/ تشرين أول الماضي بمعداتها لتدشين محطة رفع صرف صحي، وخلال الحفر "شالوا جزء من أساسات العمارة 8 فمالت والعمارة اللي جنبها اتشرخت"، بحسب مبروكة والسكان للمنصة. وتستدل مبروكة على ذلك بـ"من ساعة الرجة وعمال الشركة اختفوا ما شفناش حد فيهم". وتتابع "لحظات مرعبة شفت فيها الحلل بتقع والحيطان بتميل والكل بيصوت العمارة بتتهد".
خلال العامين الأخيرين عاش قطاع من المواطنين رعب الإزالة لقرب سكنهم من الطريق الدائري الذي قررت الحكومة توسيعه على حساب مطارحهم. حصل بعض هؤلاء على تعويضات وصفوها بـ"غير المنصفة"، مقابل تبديل السكن. ويعود أحمد حامد، الذي جمّع تحويشة عمره في شقته الكائنة بالدور 11 في العقار رقم 8 ليتزوج فيها، إلى أزمة توسعة الدائري، قائلًا "عشنا خوف من أن توصل توسعات الدائري إلينا" خاصة أن العقار لا يبعد كثيرًا عن الطريق الدائري.
أفلت العقار الثامن من خيارات الهدم وتخيل أصحابه أنهم نجوا، حتى استيقظوا على ميل يهدد بإزالة ثلاثة أدوار على الأقل، شقة حامد واحدة منها، بحسب توصيات مدير إدارة التنظيم بحي بولاق الدكرور مصطفى محمد عبد الحليم، والذي علّق للمنصة بـ"مصر كلها عقارات مايلة".
الأمر بيد الشركة
تفاوتت فترة البيات بالشارع من أسرة لأخرى، منهم من أسعفه حظه ووجد مكانًا لدى قريب، وآخرون قضوا خمس ليال حتى وجدوا مكانًا بديلًا. في المقابل قال رئيس جهاز التفتيش والمتابعة بالمحافظة أيمن عتريس للمنصة إن المحافظ كلف رئيس حي بولاق الدكرور عبد الله نور بمتابعة الملف نيابة عنه دون إصدار تعليمات بالتسكين من عدمه.
سألنا نور عن الموقف، فأوضح أن الحي سكَّن الأهالي بالفعل، و"توسطنا لدى شركة المقاولات التابعة للصرف الصحي لحثها على دفع مبلع ألفين جنيه للمتضررين كإيجار شهر"، لكنه استدرك أن الحي ليس لديه خطة تسكين بديلة، وكل ما يمكن فعله "التفاوض لإقناع الشركة بتحمل مصروفات حلّ أزمة العمارة، بغض النظر عن تحقيقات النيابة والمسار القضائي".
"كل واحد في ناحية"
صباح كانت من المحظوظات، إذ انتقلت مع نجلها وحفيديها إلى أهل زوجة ابنها من الليلة الأولى، رغم ذلك تقضي النهار كله في الشارع و"ما بروحش إلا على النوم. أغفل ساعتين وأنزل تاني في الشارع"، مبررة "الواحد مش عايز يتقل على الناس ويفضل ليل نهار في وشهم".
اﻷزمة تشتد كلما زاد برد الشتاء، خاصة على اﻷطفال الذين تركت أسرهم الملابس داخل الشقق، بحسب أم جُمانة "عيالي 9 سنين و4 سنين، الاثنين احتاجوا جلسات أكسجين اليومين اللي فاتوا دول". الأمر لا يختلف كثيرًا بالنسبة لفايزة زينهم التي ينام أطفالها على الأرض لدى أقارب زوجها، "مش عارفين نجيب لهم لبس يتدفوا ولا يروحوا مدارسهم".
لم تفرح أم ياسين التي تسكن في العقار رقم 6 بحملها الثالث "أفرح إزاي هو دا وقته!"، وتفسر "وأنا في حملي بضطر أودي وأجيب من المدرسة بعد ما كان الباص بييجي ياخد الولاد من قدام البيت".
تواجه أم ياسين كل ذلك من دون زوجها الذي أجبرته الظروف أن يقيم في بيت والده، أما هي فعليها أن تبقى لدى شقيقتها. مثلها تجلس أم جُمانة وأبناؤها لدى أختها أمّا الزوج ففي بيت أخيه، قائلة "كل واحد في ناحية".
من فضّل لم الشمل عن الشتات، كان عليه أن يتحمل عبء الإيجارات الغالية حتى على من يتمتع بمستوى مادي جيد. تقول إسراء عبد القادر إنها وزوجها صاحب محل الأخشاب اختارا استئجار شقة مقابل 3 آلاف جنيه و"المبلغ كبير علينا، حتى لو تجاوزنا عن الإيجار فإحنا قاعدين في شقة بدون عفش".
"دبروا حالكم"
اقتربت اﻷزمة من شهر والأهالي لديهم مشاعر الغضب "ضد كل مسؤول سابنا في الشارع"، حد تعبيرهم، هنا تروي هويدا محمد كامل "عمر زايد نائب الشيوخ قالنا 3 أيام والمشكلة هتتحل واختفى، وعدى 3 أسابيع ومافيش حل".
وتستنكر "وزع علينا ألفين جنيه لكل أسرة مقابل إيجار شقة لمدة شهر، حطينا عليهم طبعًا ألفين تانيين تأمين بالإضافة لحاجتنا لتجديد الإيجار في ظل استمرار الأزمة".
من جهتها رفضت صباح عبد الرحمن الحصول على المعونة المالية بعدما شعرت بشيء من المتاجرة باﻷزمة؛ "بعد ما لقيت النائب بيصورنا فيديو وإحنا بنأخدهم" تقول صباح.
زايد، عضو مجلس الشيوخ دافع عن نفسه للمنصة بأن "المشكلة حلها هيطول وهي دلوقتي في النيابة وبعدين هتروح القضاء اللي يحسم مين المسؤول وطريقة تعويض الأهالي"، مشددًا أن ليس بإمكانه فعل أي شيء، وحتّى حسم من المسؤول "لا توجد شقق مؤقتة للأهالي ولا ألفين جنيه أخرى؛ وعلى كل أسرة تدبر أوضاعها"، حدّ قوله.
وأشار إلى أن مشروع محطة الرفع مشروع وطني وغرضه خدمة الأهالي، وأنه حتى الآن لا يوجد ما يشير إلى نقله إلى مكان آخر، رغم مطالبات المتضررين.
"سابوا الخوازيق مفتوحة"
باعتباره أحد الأطراف المسؤولة عن التعامل مع الأزمة، يكشف مدير إدارة التنظيم بحي بولاق الدكرور مصطفى محمد عبد الحليم للمنصة أن العقار رقم 8 "غير مرخص، وبالفحص تبين أن أساساته سطحية" موضحًا أن الحي حرر محاضر مخالفات ضد العقار منذ الشروع في بنائه. أولها كان محضر برقم 1066 بتاريخ 21 أبريل/ نيسان 2011.
ويعتمد عبد الحليم رأي اللجنة المنتدبة من أكاديميين بكليات الهندسة، بأن الشركة المنفذة للمحطة التزمت بالتصميمات الموضوعة من قبل استشاري المشروع ، "ما حدث خلخلة للتربة وهو أمر طبيعي يحدث إلا أن العقار وأساساته غير المتينة لم يحتمل ومال بعيدًا عن العقارات الملاصقة مسببًا لها شقوق".
ويضيف "اقترحت إزالة 3 أدوار وترك العمارة 3 أشهر والعودة إليها لاختبار حالها ومن ثم تحديد ما إذا كانت تحتاج إلى مزيد من الإزالة أم استقرت".
في المقابل يرفض مالك العقار حسين البنداري إلقاء المسؤولية عليه، ملمحًا بلكنة صعيدية إلى ثمة "تظبيط من الشركة للناس عشان يبرأوها". وعلى عكس ما قاله الحي يقول البنداري إن العمارة الواقعة في شارع عرضه خمسة أمتار مرخصة ببناء أرضي و12 طابقًا.
العمارة التي تعتبر اﻷطول في الشارع بفارق 6 طوابق، يقدر مالكها ميلها بـ5 سنتيمتر في الدور السادس و12 عند نهاية العمارة.
ويتابع "الشركة بعتت عيال مش فاهمين وهما بيحفروا ما صبوش الخوازيق بعد ما حفروا على طول، واللي فاهم يعرف أن الخازوق لازم يتصب أول ما يتحفر"، مضيفًا "معداتهم عطلت فغابوا 28 يوم سايبين الخوازيق مفحوتة بدون صب"، على حد زعمه.
بدوره لم يتمكن مهندس الحي من إثبات أو نفي واقعة عطل المعدات، قائلًا "الحي ليس له سلطة رقابية على الشركات المعنية بالمشاريع القومية، بل يقتصر دوره في تسهيل عملها".
وبينما تنظر النيابة في الروايتين محققة في دقة كليهما، تنتظر مبروكة أن يلم شمل أسرتها سكن مستقر آمن لا تسقط فيه الحلل، ولا يُشرخ فيه الجدار.