تعرفتُ إلى الكاتب النوبي يحيى مختار مصادفة، فقد كانت سلسلة "أصوات أدبية" التى تصدرها هيئة قصور الثقافة نشرت له مجموعة "كويلا"، وقرأتها في شبابي، واكتشفت فيها لغة عذبة ورؤية محبة للناس، وفي الوقت ذاته رغبة لتعريف القارئ بمجتمع النوبة القديمة التى أزيلت من الوجود، أثناء بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي، وكذلك كانت أعماله اللاحقة التي ظل جرح التهجير نازفًا فيها.
يحيى مختار واحد من حماة التراث النوبي، وشارك في تأسيس جمعية لذلك الغرض، وجاءت مجموعاته القصصية ورواياته أيضًا أداة من أدوات توثيق وحفظ ذلك التراث، مثل قصصه القصيرة "كويلا"، ورواياته "جبال الكحل"و"ماء الحياة "و"إندو..ماندو"، التي تعني باللغة العربية "هنا وهناك".
جاء يحيى من قريته النوبية "الجنينة والشباك" إلى القاهرة مع عائلته، واستقر في حي عابدين، الذي يضم تجمعًا نوبيًا كبيرًا، ولم يكن يعرف اللغة العربية، التي تعلمها في المدرسة قبل أن يلتحق بقسم الصحافة في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وفيها نشر قصته الأولى في مجلة صوت الجامعة عام 1957، قبل أن يتم اعتقاله في 1959، ضمن مئات من الشيوعيين غيره، وعندما خرج من المعتقل وظفته الحكومة في مفارقة غريبة بمصلحة السجون، لكنه لم يمكث طويلًا حتى تركها والتحق بمؤسسة أخبار اليوم التي قضى فيها سنوات عمره وصولًا إلى التقاعد.
الرؤية الإبداعية ليحيى مختار تقوم على مبدأ وحيد هو الحفاظ على ما تبقى من تراث النوبة
اعتذار متأخر
أجدني، اليوم، مدينًا باعتذار له، فالذي حدث هو أنني كتبت مقالًا نشره أخبار الأدب، عن روايته جبال الكحل التي سجل فيها وقائع التهجير النوبي، ولم أقدِّر قسوة الكتابة عن "وطن يندثر، وذكرى تموت"، لأنني كنت في سن صغيرة، ولم أدرك آنذاك المعانى النبيلة التي تضمنتها تلك الرواية.
لذا قررت العودة إلى عالم يحيى مختار السردي، الذي أدعي أن مجموعته القصصية "إندو..ماندو" تعد مدخلًا هامًا لفهم رؤيته الإبداعية التي تقوم على مبدأ وحيد هو الحفاظ على ما تبقى من تراث النوبة، دون الدعوة لفصلها عن مصر كما يدعي البعض، بل أنه يرى حقوق النوبيين التي لم يحصلوا عليها بسبب فساد البيروقراطية والجهاز الحكومي منذ ستينيات القرن الماضي، هي حقوق لمواطنين ينتمون للدولة المصرية وعليهم أن يناضلوا للحصول عليها، دون الاستقواء بالخارج.
ومن المثير للدهشة أن يحيى مختار الذي كان ضمن الشيوعين، رهن الاعتقال، فى زمن عبد الناصر، لم يكتب رواية عن سنوات سجنه، ولم يقترب إبداعيًا من تلك المرحلة القاسية من حياته.
جرح النوبة النازف
في روايته "مرافئ الروح" يربط يحيى بين النوبة المصرية والسودان، من خلال حقبة الثورة المهدية، ووصول طلائع جيش المهدي إلى حدود مصر الجنوبية، ودور التصوف فى تشكيل الوجدان النوبي، وقارئ تلك الرواية يحس عمق الإيمان الصوفي الذي يحرك قلب الكاتب.
وفي "جبال الكحل"، عبارة دالة تنص على أن أهالي القرى النوبية لم يعترضوا على بناء السد العالي ولم يقطعوا الصلة بينهم وبين أبناء الوطن المصري، لكنهم كانوا حزانى على فراق نهر النيل، وفراق قبور الراحلين من الآباء والأجداد، وزاد من حسرتهم التعسف الحكومي الذي ظلمهم في تقدير التعويضات المالية، وعدم اختيار موقع مشابه للبيئة النوبية ليعيشوا فيه بعد الهجرة، وكانت الحياة في الصحراء قاسية عليهم جدًا.
أما قصص "إندو..ماندو" التي عددتها مفتاح عالمه، فيمكن عدها كذلك على أنها التاريخ الموجز لما جرى للنوبيين، وتضم قصص: إندو..ماندو، الكرج، مشن موليه، شج فرن، وترجمتها باللغة العربية على التوالي: هنا وهناك، طبق الخوص، جبل الشمس، ممر السيف.
والقصة الكبرى في تلك المجموعة البديعة هي التي حمل الكتاب اسمها، أقرب إلى أن تكون نوفيلا منها إلى القصة، وتحاول استخلاص معنى شاملًا للحنين؛ الحنين للعمر الأخضر والقرية "الجنينة والشباك" والعصر الذهبي الذي عاشه الراوي؛ عصر المشاركة فى صنع الحلم الاشتراكي، وتحكي عن حبيب وحبيبته، ينتميان للنوبة، يستعدان لعقد القران وتأثيث بيت الزوجية بما يعبر عن ذوقيهما، وفي الوقت ذاته كانت الإجراءات الحكومية لتهجير النوبيين ومحو النوبة القديمة تجري على قدم وساق، فقرر الحبيبان السفر إلى "الجنينة والشباك" لإقامة حفل زفافهما بين الأهل، وتوديع القرية التي سوف تزول من الوجود، ويتخيل الحبيبان عصفور أخضر ليس كالعصافير، يرقبهما، ويفسران ظهوره بأنه "روح الأجداد القدامى" جاءت لتشهد اللحظة القاسية، لحظة اختفاء النوبة القديمة من الخريطة.
لم يلق مشروع مختار ما يستحقه من احتفاء، رغم أنه مشروع إنسانى يقدم موروث حضارة عريقة
وترصد قصة "الكرج" أو"طبق الخوص، الغربة التى يعيشها النوبي الشيخ في مواجهة النوبي الشاب، المولود فى المدينة بعد التهجير وليس في ذاكرته شيء من النوبة القديمة، فالشيخ يعتني بطبق الخوص "رمز الثقافة النوبية"، ويرشه بالماء، ويدهن إطاره بالزيت، بهدف حفظه وتمديد عمره، ولا يمل من سرد حكايته التي تبين أهميته لأولاده، وهو هدية أخته له فى يوم زفافه، فيما يضيق النوبي الشاب بتلك الحكاية، وحسمًا للصراع يقرر النوبى الشيخ، الخضوع لرغبة ولده الشاب المديني، ويحمل الطبق إلى المتحف المخصص لمقتنيات وأدوات "النوبة القديمة"، والرمزية هنا واضحة، فطبق الخوص هو النوبة التي أقيم متحف لحضارتها في مدينة أسوان، وتفرق أبناءها في المدن والعواصم داخل مصر وخارجها، ولم يعد "الجيل الجديد" الذي ولد بعد التهجير مهتمًا بحضارتها أو لغتها وعاداتها القديمة.
وتستدعي قصة "مشن موليه" جغرافيا القرية القديمة، وتؤكد النزوع الإيمانى والتصوف، في قلوب أهالي النوبة، وهو تصوف يجمع الموروث المصري القديم، والموروث المسيحي، والموروث الإسلامي، ومعروف أن النوبيين عاشوا فترات طويلة يدينون بالمسيحية، ورغم قدوم المسلمين العرب مع عمرو بن العاص إلى مصر، ظلت النوبة مسيحية، ودخل النوبيون الإسلام في عصر الظاهر بيبرس المملوكي، وكان داوود ملك النوبة هو من قرر الدخول في الإسلام وتبعه شعبه الذي لبى نداءه، وصاغوا عقيدة إيمانية، قوامها التصوف، فيما تحكي قصة "شج فرن" (ممر السيف)، عن محيى الدين شريف، المثقف النوبي المعروف وأحد حماة التراث النوبي، وحادثة قتله التمساح الذي شغل الناس في "الجنينة والشباك".
وهكذا نرى أن مجموعة "إندو..ماندو" تنويعة على لحن أساسى فى مشروع يحيى مختار الذي صاغه في أعماله القصصية "كويلا، عروس النيل" والروائية "ماء الحياة، جبال الكحل، مرافئ الروح"، وهو لحن "النوبة" التاريخ والناس والعادات والمعتقدات والثقافة المادية، والبساطة والروح الجماعية، المستمدة من الزراعة وهي حرفة النوبيين الأصلية، ورغم احتفاء النقاد برواية الشمندورة للكاتب النوبي محمد خليل قاسم، لم يلق مشروع مختار ما يستحقه من احتفاء، رغم أنه مشروع إنساني يقدم موروث حضارة عريقة، تشكل ركنا مهما من أركان الثقافة المصرية.