منذ أن فتحنا عيوننا على المدينة، حيث الغربة والاغتراب، ونحن نرى المشردين في شوارعها، وتسمع آذاننا أحيانًا صوت أنينهم من فرط أمراض تسكن أجسادهم، أو بفعل أطمار من الوسخ تتراكم عليها، وتعطي فرصة قوية لطفيليات وميكروبات وفيروسات لتستوطنها دون عناء.
وهناك من بيننا الذي ينظر إليهم في شفقة، وقد يحدب عليهم، وهناك من يفر منهم بعيدًا، غير آبه لهم، كأنهم عار أو مصدر شقاء وأمراض وأذى.
عمومًا، هناك ستة مصادر أساسية لوجود هؤلاء في شوارعنا.
الدرويش
الهائمون على وجوههم من بين الذين يعانون أمراضًا نفسية وعقلية مزمنة، ولم يذهب بهم أهلهم إلى مصحات نفسية وعقلية، إما لإهمال أو إجرام أو ضيق ذات اليد أو لرفض هؤلاء المرضى الامتثال لذلك المسار من الأساس. فلا يمر على السائر في أي شارع وقت طويل حتى يقابل هؤلاء وهم يمضون دون أن يتلفتوا إلى أحد، يحدثون أنفسهم، أو يجترون بعض حوادث ماضيهم الأليم، أو يخاطبون غائبين في نوبات فصامهم الحادة.
من هؤلاء المضطربين نفسيًا وعقليًا الذي يتخذ من بعض الأماكن مستقرًا له، لا يبرحه إلا قليلًا، يجلس فيه نهارًا ناظرًا إلى السائرين، وحين يجن الليل، يسحب على جسده المنهك المتسخ دثارًا أكثر اتساخًا، وتراه أحيانًا يلوك طعامًا أعطاه له بعض الخيّرين وهو في مكانه، أو غادر ذلك المكان قليلًا ليحصل عليه من آخر قريب ثم يعود.
أطفال الغضب
الأطفال الذين يلاقون عذابًا متصلًا في أسرهم، فيهربون من جحيهما إلى الشارع، ليجدوا فيه، رغم الغربة والضياع، أمنًا من خوف، وفرصة لشبع من جوع، وتحرر من قيود صارمة. ويبلغ تفضيل هؤلاء البقاء في الشوارع إلى درجة أنهم يغيرون أسماءهم، حتى لا يسهل التعرف عليهم، ويرفضون أيضًا ذكر عناوين بيوتهم التي غادروها غير آسفين عليها أبدًا، ولا ينطقون أسماء أهليهم، الذين ينظرون إليهم على أنهم مصدر تعاسة لا يودون العودة إليها مهما تقلبوا في عذاب الشوارع وغربتها.
وقد صار وجود هؤلاء جزءًا من الثقافة الاجتماعية المدينية عقودًا من الزمن، فكنا نراهم نائمين في الحدائق العامة أو بجوار أسوارها، وعند جدران خلفية لمؤسسات حكومية، وفوق الكباري ليلًا وتحتها، وأحيانًا في أنفاق المترو، أو بالقرب من محطة السكة الحديد والمساجد، وتحت السيارات المركونة في جوانب الشوارع ليلًا، وأماكن الجراجات الأهلية والحكومية.
اعتاد الناس أن يعثروا عليهم في أماكن عدة، حتى أن اختفاءهم في السنوات الأخيرة، لفت الانتباه بشدة، وأثار تساؤلات عن مآلهم الآن، انفتح لها طريق إجابات مبتسرة، غارقة في التكهنات والتخرصات والشائعات والمخاوف المحررة من سوء النية، أو المغموسة فيه، عند الذين يربطون بين مشاركة هؤلاء في الفعل الثوري الذي انطلق في 25 يناير 2011 ولمدة سنتين ونصف، وما لاقوه فيما بعد.
فأيام الثورة رأينا أطفال الشوارع يخوضون نزالًا في الصفوف الأمامية، ويتسلقون الحوائط والجدران وأعمدة الإنارة في سهولة كأنهم كائنات برية عجيبة، ويجدون في الناس المتزاحمين غضبًا حولهم فرصة لألفة أو الحصول على شيء من طعام أو شراب، لا سيما أيام الاعتصامات في الميادين، حيث كان هناك من يعتبرهم ضحايا نظام الحكم الذي قامت عليه الثورة، وبذا فمن حقهم الغضب ومشاركة الثائرين فعلهم، والحلم مع الحالمين بتغير الأوضاع إلى الأفضل بما يضمن لهم طيب مقام في بلادهم.
وجزء من هؤلاء شارك في الاعتصام الذي نظمته جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها في ميداني رابعة العدوية والنهضة قبل سقوط حكمها. وهناك من يتهم الجماعة، سواء أطراف رسمية أو شعبية، بأنها كانت تستغلهم بشكل واضح وفاضح في ترتيب الوجود في المكان والتعبئة إليه والتشبث به، وفي بعض أعمال الصد والرد التي يتخللها عنف، سواء في المظاهرات الجانبية أو خلال يوم الفض.
مالكو الشوارع
الذين لا يجدون مأوى، ممن آلت بيوتهم إلى السقوط أو انهارت فوق رؤوسهم ونجوا بأعجوبة، ولا يملكون مالًا ليسكنوا بيوتًا أخرى. ويخطف هؤلاء ما يقدرون على خطفه من أثاثهم القديم، وملابسهم وبعض أدوات عيشهم البسيطة، ويحطون برحالهم عند أسيجة الحدائق أو في الفسحات القريبة من أبنية عامة، أو على ضفاف أحياء عشوائية.
تبقى هذه الظاهرة الأليمة مرشحة للبقاء في قابل السنوات، خاصة أن الحكومات المتعاقبة لا تنشغل بها انشغالًا يكافئ وجودها
المنبوذون
المطرودون من المستشفيات والمصحات النفسية، وهم فقراء معدمون لا أهل لهم، أو تخلى عنهم ذووهم لأسباب شتى. وقد رأيتُ بعض هؤلاء مرارًا بالقرب من المستشفيات العامة، التي ضاقت بهم، لطول مرضهم، أو تعذر توفير العلاج لهم، أو فقدان الأمل في شفائهم، أو لإخلاء أماكنهم لمرضى جدد.
أتذكر من بينهم هذا الرجل الذي حمله عمال مستشفى بولاق الدكرور، وألقوه على الرصيف المقابل لها، بالقرب من مبنى ملحق المدينة الجامعية لجامعة القاهرة، فكنا نراه أيام الجامعة في الغدو والرواح، ملقى على الأرض يتكاثف الذباب فوق أسماله البالية وجروحه وقروحه. كان شيخًا مريضًا ينتظر ما يجود به عليه الطلاب من بقايا طعامهم. لقد كان منظرًا صادمًا لي، أعتقدت يومها أنه شيء استثنائي، لكنه تكرر أمامي على مدار السنين.
المحملون بأعباء الزمن
الطاعنون في السن، فبعض الأبناء الذين قست قلوبهم يتخلون عن ذويهم، حين يجدونهم يمثلون عبئًا شديدًا عليهم، نظرًا لأن رعايتهم تتطلب توفير دواء وطعام لهم، أو حتى يضيقون بالحدب النفسي عليهم، الذين هم في أشد الحاجة إليه في سنهم المتقدمة.
الفواعلية
بعض العمال الموسميين أو عمال التراحيل الذي نزحوا من القرى بحثًا عن الرزق. فمن هؤلاء من يفترشون ليلًا أماكن عملهم في العمارات التي يكدحون فيها نهارًا، ومنهم من يقضون أيامًا دون وظيفة، فلا يكون أمامهم من سبيل سوى اللجوء إلى أرصفة الشوارع أو محطات الباصات والقطارات وتحت الكباري، لقضاء ساعات من النوم قبل الاستيقاظ على أمل وكدح جديد.
ولا يقتصر الأمر على عمالة التراحيل، فبعض الخريجين الذين تركوا بلادهم وأتوا إلى القاهرة بحثًا عن عمل، ونفدت نقودهم أو شحت، ولم يجدوا رفاقًا أو أصدقاء أو أقارب يؤونهم، يلجؤون إلى أماكن مفتوحة للنوم، ولو لأيام قلائل، قبل أن يدبروا أمورهم بتوفير مأوى، أو الإقرار بالفشل والعودة من حيث أتوا.
وهناك رافد آخر لا يمكن نكرانه أو إهماله في هذا المقام، يتمثل في الموظفين الذين يضطرون إلى الالتحاق بأكثر من عمل حتى يوفروا لأولادهم ما يبقيهم على قيد الحياة. فبعض هؤلاء يخرجون من عمل حكومي إلى آخر خاص بعد الظهر، وتكون بيوتهم بعيدة، فإن ذهبوا إليها ابتغاء ساعات راحة، سيضيع الوقت بين عمل وعمل في المواصلات، ولذا يجلؤون إلى الحدائق أو المساجد كي يأخذوا سِنَةً من نوم، أو يمددوا أجسادهم في يقظة، لترتاح بعض الشيء.
وقبل سنوات كانت المساجد المفتوحة توفر مأوى لهؤلاء، لكن مع تصاعد موجة الإرهاب في تسعينيات القرن العشرين قررت الحكومة إغلاق المساجد بعد صلاة العشاء فحرموا من مكان آمن. وزادت القبضة الأمنية على المساجد، حتى أنها صارت تغلق عقب كل صلاة، بينما كنا في زمن مضى نرى سجادها يحتضن بين صلاتي الظهر والعصر الكثير ممن يهدهم التعب فيسقطون بها في نوم عميق.
إيراد مستدام
إن هذه المصادر الستة لا تزال ترفد الشوارع بوارد جديد، لا سيما مع ضيق الرزق، واتساع رقعة الفقر، وضيق القرى والمدن الصغيرة بأهلها. وبهذا تبقى الظاهرة الأليمة مرشحة للبقاء في قابل السنوات، خاصة أن الحكومات المتعاقبة لا تنشغل بها انشغالًا يكافئ وجودها، ولا تبحث عن مخرج ناجع منها، هو مربوط بالأساس بتحسن الأحوال الاقتصادية، ومنع تحلل الروابط الأسرية، وتعزيز قدرة المصحات النفسية والمستشفيات على استيعاب المرضى.