لديّ أفكار لإعادة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي إلى الجمهور. خطة الدمج والمصالحة لا أظنها تكلف كثيرًا، وستستعيد مشاهدين تخيفهم دار الأوبرا، ببنائها المهيب. وأمام البوابة وجود خشن للشرطة ربما لا يُطَـمْئن المواطنَ إلى عدالة الإجراءات، بتسلسلها الشرطي والنيابي والقضائي.
كل شيء مُسلسل. القبضة تغني عن نصوص القانون. كما لا يُطَـمْئن مشهد الشرطة ضيوفَ دار الأوبرا ومهرجان القاهرة إلى استقرار الأمن. الأمان لا تلزمه ترسانة. في أوروبا والدول المتقدمة لا تكاد تشعر، في الشارع، بالشرطة المسلحة. حضورها قوي وقريب وناعم، وأنت مرصود ومراقب، ولا يدَ تسحق عظامك. الرمز عنوان قوة "الدولة". إشارة المرور بديل لعميد الشرطة وضباطه وجنوده ودفاتر المخالفات، الجباية الصريحة.
الرمز تمثله إشارة مرور، سور حديدي يوحي بالرسوخ والهيبة لا القبح والإرهاب، رمزي لا يحجب. وكلما مررت بجامعة القاهرة، أو بدار الأوبرا، تذكرت الجملة الأولى في رواية أولاد حارتنا "كان مكان حارتنا خلاء".
كنا نذهب إلى مكتبات بيع الكتب، القريبة من كلية دار العلوم، في مدقّ ترابي يحيطه خلاء نبتت فيه بنايات تشبه المساكن الشعبية. وكان المارة لا يشعرون بالسور الرمزي القديم؛ فالجامعة مفتوحة على محيطها الحيوي، في حي بين السرايات الشعبي، والبوابة والمسلة تواجهان حديقتيْ الحيوان والأورمان. ونما دفء وألفة، فشهدت المساءات عائلات تحرص على التقاط صور تذكارية مع العروسين عند المسلة. ثم نهض سور مصفّح يعزل حرم الجامعة.
لهذا السور الجامعي المصفّح أخ حجب دار الأوبرا.
للمترو باب في محطة الأوبرا، كان مفتوحًا ويفيد قاصدي الأوبرا وقصر الفنون ومتحف الفن الحديث والمجلس الأعلى للثقافة، والعابرين إلى النادي الأهلي. ما الضرر في مرور فتى يقصد التدريب بالنادي الأهلي؟ سيرى بالمصادفة تماثيل لفنانين، وعازفين في المسرح المفتوح يتدربون. أغلق الباب، وظل السور الرمزي يتيح للجمهور رؤية نجوم حفلات افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي، ومهرجان سينما الأطفال، والمعرض العام للتشكيليين، وصالون الشباب، وبينالي القاهرة الدولي للفنون، وتماثيل الحديقة. ولم تسلم الأوبرا من عدوى العسكرة؛ فحجبتها بالتصفيح. ولم يحاول وزير للثقافة استلهام فلسفة الدكتور سليمان حزيّن مؤسس جامعة أسيوط، أول جامعة بالصعيد عام 1955، ورئيسها حتى توليه وزارة الثقافة عام 1965.
سليمان حزين أراد الجامعة بلا أسوار. خطة تطبيع التعليم لم يستوعبها أساتذة آذى كبرياءهم الأكاديمية مرورُ عربجية في حرم الجامعة؛ اختصارًا للطريق. استمع الرجل إلى شكوى الأستاذة المشمأنطين، وتمسك باتصال الجامعة بمحيطها، لتحقيق الألفة، قائلا "ليس مهمّا أن تدخل الحمير الجامعة، والأهم هو ألا تخرج منها بشهادة جامعية".
وبدلًا من إعادة دمج دار الأوبرا بمحيطها، واصلوا نهجًا بدأه فاروق حسني باقتطاع مساحات لأورام إدارية تشوّه الطراز المعماري لدار الأوبرا. نجا من الهوس بالأسمنت فضاءان، الجراج والساحة المواجهة لمتحف الفن الحديث (ساحة النافورة). وفي ديسمبر/ كانون الأول 2020، بني مسرح WE لعروض ليلية لأفلام مهرجان القاهرة. يفترض أنه استثنائي، يُحتمل بمنطق المعسكر المؤقت.
استقر مسرح WE، حاملًا اسم شركة الاتصالات الحكومية، وأقيم على طرفه الشرقي بين مدخل قصر الفنون ونقابة التشكيليين كشك لبيع المياه الغازية والشيبسي وما شابه. وكشك آخر مساوٍ له في المقدار، ومضاد له في الاتجاه، على الطرف الغربي، بجوار تمثال محمد عبد الوهاب. حتى فاروق حسني لا يرضى بذلك التشويه والعبث. نجحت حملة إزالة الكشكين، أما المسرح فبقي، وحمل اسم مسرح النافورة حيث لا نافورة. وبقيت دار الأوبرا، مؤسسة أشبه بسجن نخبوي في نظر جماهير تعجز عن رؤية ما يحجبه السور المصفح، وكانت تتابع فقرات ما قبل حفل افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي، في تفاعل يدمج الدار في محيطها البشري والجغرافي.
المسرح الكبير المفتوح، سيحقق ديمقراطية المتعة، بانتمائه إلى الأوبرا وإلى الشارع معًا، ويزيل هيبة تقليدية اقترنت بأنشطة نخبوية
ماذا بعد استحواذ وزارة الثقافة على المهرجان منذ عام 1997؟
لدي اقتراحان لإعادة المهرجان إلى حالته الجماهيرية. الأول ضروري ومكلف، ويحتاج إلى قدرة اقتصادية ورغبة سياسية. والآن لا رغبة ولا قدرة. كلتاهما، الرغبة والقدرة، تستهدف تغيير وجه البلد، وتفريغ القاهرة من ثقلها الثقافي، والاهتمام بتأسيس مؤسسات موازية، في كيان لا ينتمي إلينا، بعيد جغرافيًا ونفسيًا وطبقيًا. هذا الاقتراح يخص تشييد بناء يليق بالمهرجان، قصر خاص، وليس لهذا القصر معنى طبقي، هو مجمع يستوعب الإدارة الحالية القائمة في شقة عنوانها 17 شارع قصر النيل. قصر المهرجان لن يحاط بسور مصفح، سيكون مفتوحًا، ومجهزًا ببضع قاعات مخصصة للعرض السينمائي، بدلًا من القاعات الحالية المزعجة، فضلًا عن قاعة للمؤتمرات والندوات، وأماكن للخدمات الأخرى.
الاقتراح الثاني أيسر، وأسرع إلى مصالحة الجمهور، المستهدف الأول بالأفلام، وبه تنتعش صناعة نشأت كفنٍّ جماهيري. لن تضاف بنايات إلى دار الأوبرا، ولن تقتطع مساحات تخصم من الفضاء الذي انتهبه فقراء الخيال. توجد ساحتان لانتظار السيارات. الصغرى في الأصل طريق عمومي بين سور الأوبرا ونهر النيل. ويمكن إعداده بواسطة مكتب فني، فيمسي مسرحًا يستوعب ألف مقعد على الأقل، وفيه يقام عرضان متواليان لأفلام تشهد إقبالًا جماهيريًا، وتنفد تذاكرها لضيق القاعات الحالية، مع بقاء الرصيف حقًا أصيلًا للمشاة، ولمن يريد المشاهدة المجانية من دون دخول المسرح. لا نريد تكرار ابتلاع الأرصفة، كوزارة الأوقاف التي مهمتها التوعية بحرمة المال العام، وأوله الطرق.
مسرح الطريق سيحيي تقليدًا لا يعرفه جيل سينما المولات وقاعاتها الصغيرة. جيران دور السينما الصيفية تابعوا الأفلام من الشرفات والأسطح، حسب مستوى البيوت وموقعها من الشاشة. ومراعاة لحقوق الجيرة، كانت إدارة السينما تتيح خدمة توصيل الأفلام إلى المنازل، بكرم مقصود، فتحرص على تقليم الأشجار المحيطة بالمكان؛ ضمانًا لاستمتاع الجيران باكتمال المشاهدة. مشاهدو الرصيف، اليوم، هم الجيران الجدد للسينما المكشوفة. وغدًا هم دافعو تذاكر السينما. منطق تعويد الزبون، وتربية ذائقته. أما ساحة انتظار السيارات الكبرى فتقع في نطاق دار الأوبرا، وستحتفظ بمهمتها كجراج كبير. ويوجد مهندسون معماريون قادرون على تصميم مسرح ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار، وتجهيزه ليسع أكثر من ألفيْ متفرج.
قلت: متفرج، وليس مشاهد. المشاهدة لأفلام مهرجان القاهرة، وقد تمتد إلى إقامة عروض سينمائية طوال السنة. أما الفرجة فصارت تخص فنونًا أخرى، العروض المسرحية مثلًا، وحفلات غنائية يغلب فيها الأداء الحركي، وكذلك الحفلات الجماهيرية لمهرجان الموسيقى العربية، وحفلات مطربين يغريهم جمهورهم الكبير بالخروج من ضيق المسارح بالقاهرة، إلى خارجها.
حفلات الساحل الشمالي، في السنوات الأخيرة، تنتقي جمهورها الطبقي. والمسرح الكبير المفتوح، سيحقق ديمقراطية المتعة، بانتمائه إلى الأوبرا وإلى الشارع معًا، ويزيل هيبة تقليدية اقترنت بأنشطة نخبوية، فيعتاد جمهور جديد على ارتياد الحفلات النوعية. بهذا المسرح يستعيد مهرجان القاهرة السينمائي جمهوره القديم، وتتم إزالة آثار العدوان على ساحة النافورة والحديقة والتماثيل.