للمرة الأولى منذ سنوات نشهد تحركًا نقابيًا ضد قرار حكومي، فسلَّم نقابة المحامين الذي غاب لسنوات عن المشهد الاحتجاجي، امتلأ قبل أيام بحشود لمئات من أعضائها الذين تجمهروا لإعلان رفضهم لقرار وزارة المالية إلزام المهنيين للتسجيل في منظومة الفاتورة الإلكترونية للضرائب، بينما عبَّر الأطباء والمهندسون والممثلون عن رفضهم للقرار أيضًا، لكن من خلال بيانات وتصريحات إعلامية.
تحرُّك المهنيين جاء مع اقتراب الموعد النهائي للتسجيل في منظومة الفاتورة الإلكترونية، الذي كان مقررًا في 15 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، واستجابت المالية لضغوطهم إذ قررت أن تمد المهلة إلى 30 أبريل/ نيسان 2023، وفي الوقت نفسه أكدت أنها المهلة الأخيرة.
غضب المهنيين من "الفاتورة" يُعزى إلى قلقهم من صعوبة توثيق معاملاتهم كونها لا تتسم بالاستقرار الذي تبدو عليه معاملات الشركات التقليدية، بينما يشير خبراء إلى أن المهنيين من أكثر الفئات تهربًا من الضرائب لذا فإن إخضاعهم لضريبة الدخل لا بد وأن يكون مصحوبًا بقدر كبير من الصخب السياسي.
كيف تطورت الأزمة
في يوليو/ تموز الماضي أصدر رئيس مصلحة الضرائب القرار رقم (323) لسنة 2022 بشأن تطبيق المرحلة الثامنة لمنظومة الفاتورة الإلكترونية، التي تجبر المتعاملين معها على توثيق معاملاتهم عبر فواتير يُوقَّع عليها إلكترونيًا، بالتالي تصل بيانات كل تلك المعاملات مباشرة لمصلحة الضرائب وتخضع للضريبة، ويأتي تطبيق المنظومة تحت مظلة قانون الإجراءات الضريبية الموحد، الذي صدر في 2020.
وتضمن قرار مصلحة الضرائب الأخير إعلان الجدول الزمنى لإلزام جميع الشركات المسجلة بالمأموريات الضريبية بكافة محافظات الجمهورية، بالتسجيل في المنظومة. في هذه الفترة لم يكن هناك أي حديث بشكل واضح عن ضم المهنيين والحرفيين وصغار التجار، إلى أن أصدرت مصلحة الضرائب في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني تنبيهًا ذكرت فيه المهنيين بشكل واضح باعتبارهم من مقدمي الخدمة، وقالت إن عليهم التسجيل في المنظومة.
بعد تنبيه وزارة المالية بأيام وتحديدا في 5 ديسمبر، نظم مئات المحامين وقفة احتجاجية على سلم نقابتهم وسط القاهرة لإعلان رفضهم الانضمام للمنظومة، ثم تبعتها نقابات الأطباء، وأطباء الأسنان، والبيطريين، والمهندسين، والمهن التمثيلية.
لماذا يرفض المهنيون الفاتورة؟
"الوزير قال إنه لم يكن يعرف شيئا عن طبيعة عمل المحامين"، هكذا لخص الأمين العام المساعد للنقابة العامة للمحامين، محمود الداخلي، رؤيته لأصل الخلاف مع الضرائب، حيث قدم في حديثه للمنصة أمثلة عدة ليدلل على أن وزارة المالية أغفلت العديد من التفاصيل التي تجعل تطبيق الفاتورة الإلكترونية أمر بالغ الصعوبة، من وجهة نظره.
"قد أتفق مع موكل على إقامة دعوى أو إنهاء إجراءات، ويدفع لي مبلغًا مقدَّمًا، ثم قد يحدث بيننا خلاف وننهي التعاقد، وفي هذه الحالة أرد له المقدم، فهل أنا ملزم هكذا أن أعطيه فاتورة بالمقدم؟ وكيف ستحاسبني الضرائب في حالة فسخ العقد؟"، يشير الداخلي إلى أمثلة أخرى يستحيل معها التسجيل، كوجود عدد كبير من المحامين يعملون في مكاتب الغير، أو متدربين.
ويطرح الأطباء تفاصيل مشابهة، فيشير عضو مجلس إدارة نقابة الأطباء، إبراهيم الزيات، إلى أن هناك أطباء يعاونون الجراح مثلًا، مثل طبيب التخدير والمساعدين والتمريض، "أدفع أجرهم ولن أحصل منهم على فاتورة، وبالتالي ستكون هناك مشكلة في حساب المصروفات التي دفعها الطبيب"، كما قال للمنصة.
ويشير الزيات إلى مثال آخر وهو ما يحتاجه الطبيب من مستلزمات أثناء عمله، واضطراره اللجوء إلى السوق السوداء أحيانًا و"هناك لن أتسلَّم فاتورة، فكيف سأثبتها في التكاليف؟ وهكذا لن أتمكن من حساب المصروفات".
أعباء جديدة؟
من جهة أخرى، يشير الداخلي إلى أن تطبيق الفاتورة سيترتب عليه زيادة الأعباء المالية على المحامين، كرسوم التوقيع الإلكتروني، وهو ما سيحوِّل خدمة المحاماة إلى سلعة وليست رسالة، بالتالي لن يتحقق النص الدستوري بأن "التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة".
التوقيع الإلكتروني يمثل توقيع الشخص الطبيعي بشخصه وصفته، أما الختم الإلكتروني فيمثل الشخص الاعتباري
وبجانب ما سيُقتطع من ضرائب على معاملات المهنيين، سيترتب على التسجيل في منظومة الفاتورة الإلكترونية أيضًا دفع رسوم سنوية، وأوضح الخبير الضريبي وائل حسان للمنصة أن التسجيل على المنظومة مجاني لكن الحصول على التوقيع أو الختم الإلكتروني هو ما يتطلب أموالًا يدفعها الممول.
ويشرح أن التوقيع الإلكتروني يمثل توقيع الشخص الطبيعي بشخصه وصفته، أما الختم الإلكتروني فيمثل الشخص الاعتباري سواء كان منشأة، أو مؤسسة أو شركة، وهناك شركتان يتم من خلالهما إنشاء الختم الإلكتروني، وهما إيجبت تراست، ومصر المقاصة، لافتًا إلى أن رسوم الختم الإلكتروني في الأولى لمدة سنة 1700 جنيه، ولمدة سنتين 2400 جنيه، وثلاث سنوات 3200 جنيه، أما الرسوم في مصر المقاصة فهي 1800 جنيه للسنة و2700 جنيه للسنتين و3600 جنيه لثلاث سنوات، أما التوقيع التوقيع الإلكتروني فرسومه 700 جنيه ويجدد كل سنة بـ500 جنيه.
المحامي أسعد هيكل يقول إن هناك ثلاثة أنواع من الضرائب متعلقة بمهنته؛ القيمة المضافة، والدخل، والمهن غير التجارية.
وقال أسعد للمنصة إن من بين الأعباء التي سيتحملها المحامي اشتراك سنوي في حدود ألف جنيه تحت بند استخدام المنظومة الإلكترونية.
لماذا لجأت الحكومة للفاتورة الإلكترونية؟
بدأ تطبيق منظومة الفاتورة الإلكترونية منذ 2020 بشكل متدرج حيث تم ضم الشركات إلى المنظومة خلال ثماني مراحل، وبفضل التوثيق الإلكتروني للمعاملات تمكنت الضرائب من كشف أكثر من 17 ألف حالة تهرب، وتحصيل فروق ضريبية بقيمة 5.5 مليارات جنيه، بعد تصالح نحو 4600 حالة.
وبينما تتركز اعتراضات المهنيين على أنهم يضطرون في حالات كثيرة للتعامل بشكل غير موثق، مثل عمليات الشراء من السوق السوداء، فإن الهدف الأساسي من نظام الفاتورة الجديد هو كشف تلك المعاملات، في محاولة لتحجيم الاقتصاد غير الرسمي.
وقدر التعداد الاقتصادي فى مصر سنة 2017/ 2018 سيطرة الاقتصاد غير الرسمي على نسبة 53% من إجمالى المنشآت فى قطاعات الأنشطة الاقتصادية، وبحسب تقديرات حكومية يساهم الاقتصاد غير الرسمي في الناتج المحلي الإجمالي بما يعادل نحو 40% ويستوعب نحو 50% من قوة العمل.
وتعكس بيانات الحصيلة الضريبية أن فئة المهنيين من أقل الفئات مساهمة في ضرائب الدخل، ما يوفر الحافز القوي للمصلحة الضرائب للدخول في صدام معهم من أجل توثيق معاملاتهم، وبلغ نصيب ما سددوه من حصيلة الضرائب العامة أقل من 1% في 2021.
وبحسب مقال لرئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، الدكتور فخري الفقي نشره موقع مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، أدى انتشار الاقتصاد غير الرسمي إلى حرمان الموازنة العامة للدولة من حصيلة ضريبية تقدر بنحو 400 مليار جنيه، مشيرًا إلى أن هذه الحصيلة وحدها يمكن أن تغطي ما يقرب من 85% من إجمالي العجز الكلي (475 مليار جنيه) في موازنة هذا العام (2021/2022).
الإصلاح من أعلى
رغم قوة مبررات ضرورة الدخول في صدام مع المهنيين من أجل إخضاعهم للضرائب، يرى خبراء أن إدماج معاملات تلك الفئة كان يتطلب تطبيق إصلاحات تيسِّر عليها التعامل مع الضرائب.
"المسؤولون في الضرائب ووزارة المالية يريدون حل المشكلة من أعلى والأصل أن يتم حلها من أسفل، النظام الضريبي في مصر بشكل عام غير عادل"، كما قال لنا مسؤول سابق في مصلحة الضرائب، طلب عدم ذكر اسمه.
ويوضح المسؤول أن من أبرز مظاهر عدم عدالة النظام الضريبي الحالي، أن حد الإعفاء الضريبي 30 ألف جنيه سنويًا، أي 2500 جنيه شهريًا، متسائلًا "هل في ظل موجة التضخم الكبيرة التي تشهدها مصر حاليًا يكون هذا هو حد الإعفاء الضريبي"، مستشهدًا بما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسي بأن "من يعمل بأقل من 10 آلاف جنيه سيلقى صعوبة في العيش"، وهي الجملة التي قالها السيسي خلال الجلسة الختامية للمؤتمر الاقتصادي أكتوبر الماضي.
ويشير المحاسب القانوني والمستشار الضريبي، هاني الحسيني، في حديث مع المنصة إلى أنه إذا كان الهدف دمج الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي والسيطرة على التهرب الضريبي، فلا بد أن يكون هناك خطة وتوضيح لها ومناقشتها ثم البدء في تطبيقها مرحليًا.
"هناك أخطاء كثيرة في تطبيق ذلك النظام، حيث لا يمكن تطبيقه على الجميع في وقت واحد وفي مدة زمنية قصيرة، ولكن من الضروري التدرج في التطبيق على سنوات وأن يكون هناك قرار تفصيلي يجيب على الكثير من الأسئلة التي يطرحها الخبراء" كما يقول الحسيني.
أزمة تواصل
من جهة أخرى فإن مصلحة الضرائب كان من الممكن أن تخفف من غضب المهنيين، إذا شرحت لهم بعض التفاصيل الفنية التي ستقلل من مخاوفهم من النظام الجديد، كما يقول الخبراء.
ويشير في هذا السياق المسؤول السابق بالضرائب إلى أن المهنيين لديهم خلط كبير في التعريفات بين نظامي الفاتورة الإلكترونية والإيصال الإلكتروني، ويتم التعامل بالفاتورة الإلكترونية عندما يكون طرفا العملية مكلفين بالتسجيل الضريبي، (منشأتين) وهو ما يرمز له بـ "B to B"، أما نظام الإيصال الإلكتروني فيكون بين طرفين، أحدهما مكلف بالتسجيل الضريبي (منشأة) والثاني مستهلك غير مكلف بالتسجيل وهنا تكون العملية "B to C".
لذا ففي حالة المحامين مثلًا المطلوب من المحامي التسجيل في المنظومة قبل نهاية أبريل، وسيتعامل بالفاتورة الإلكترونية إذا كانت الطرف الثاني شركة أو نقابة أو غيرها من المنشآت المكلفة بالتسجيل الضريبي، أما إذا قدم خدمة إلى مواطن عادي في هذه الحالة سيتعمل بالإيصال الإلكتروني وهو نظام غير مطبق حتى نهاية 2025.
ويعزو الحسيني هذا الخلط لدى الممولين إلى عدم وضوح قرارات مصلحة الضرائب، "فالأهم من إصدار القرار أن يفهمه الموجه لهم".
كيف نغير سلوك المواطن؟
يشير الحسيني أيضًا إلى مشكلة اعتياد المستهلكين على عدم توثيق معاملاتهم مع المهنيين "وفقًا لنظام الفاتورة الإلكترونية سيكون على كل طبيب في عيادته إصدار إيصال إلكتروني لكل مريض، لكن على أرض الواقع نحن نذهب إلى العيادات وندفع الفيزيتا ولا نسأل عن الإيصال أو الفاتورة بالتالي سيقدم الطبيب عدد الفواتير حسب مزاجه ولن يقدم العدد الفعلي للكشوفات التي قام بها".
لكن عضو مجلس النقابة العامة للأطباء إبراهيم الزيات، يشير إلى أن قطاعًا واسعًا من معاملات الأطباء سيصبح تحت نظر الدولة في المستقبل، مع توسع نظام التأمين الصحي الشامل في التعاقد مع القطاع الخاص لتقديم الخدمات التأمينية، بالتالي سيسهّل حصر القطاع الطبي ضريبيًا.
الآن وبعد قرار مد التسجيل في المنظومة إلى نهاية أبريل المقبل، سيكون علينا الانتظار لما ستسفر عنه الاجتماعات المشتركة بين وزارة المالية ومصلحة الضرائب من جهة والنقابات المهنية من جهة أخرى، فإما تستجيب الحكومة وللمطالب بالتالي إجراء تعديل تشريعي أو الإصرار على القرار ومواجهة رد فعل المهنيين.