منشور
الأحد 18 ديسمبر 2022
- آخر تحديث
الأحد 18 ديسمبر 2022
لا يهدف عنوان هذا المقال إلى التلاعب بالألفاظ من عينة "أرنبنا في منور أنور" أو "طبق طبقنا في طبق طبقهم"، وإنما هو راجع إلى عدم وجود تفرقة في اللفظ العربي للسياسة كالموجود في اللغة الإنجليزية بين السياسة بمعنى Policy، أي سلسلة من القرارات والإجراءات المتبعة في مجال ما في اتجاه ما، والسياسة بمعنى Politics أي إدارة الشأن العام أو توظيف السلطة العامة في تخصيص الموارد وتوجيه استخدامها.
والحق، فإن الخلط في مصر ليس فحسب على مستوى المفهوم أو المصطلح، بل يمتد إلى الممارسة والفعل. فالضرائب تتعامل معها الدولة كمسألة فنية سواء قانونيًا أو إجرائيًا، أو على مستوى التطوير التكنولوجي من أجل جمع المعلومات وتحصيل الأموال، تمامًا كما نجد في حال الفاتورة الإلكترونية، التي تثير الجدل في أوساط المهنيين من المحامين والأطباء والمهندسين.
ومن هنا تكون مقاربة الدولة إلى الضرائب كسياسة بالمعنى الأول، لا الثاني، على نحو قد يفسر ردة فعل هؤلاء المحامين الذين تظاهروا ضد تطبيق الفاتورة الإلكترونية، وما تبعه من اعتراضات على السوشيال ميديا.
لا خلاف في أن معدلات الإيرادات الضريبية في مصر منخفضة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وأنها لا تتجاوز 14% منه، بما في ذلك الضرائب على الشركات والهيئات المملوكة للدولة كالهيئة العامة للبترول وهيئة قناة السويس، والضرائب على رواتب الموظفين لدى الدولة بجانب الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات.
وكلها ضرائب لا تتطلب الجهد والتكلفة للتحصيل، كما هو مطلوب عند فرض الضرائب المباشرة على الدخل أو الملكية بالنسبة للأفراد أو الشركات الخاصة.
وعلى الرغم من الجهود الحثيثة لزيادة الإيرادات الضريبية في السنوات القليلة الماضية، فإن بيانات وزارة المالية المصرية لا تشير إلى تحول نوعي في وزن الضرائب للناتج المحلي. ربما حدثت زيادات مطلقة في حجم الأموال المحصلة، ولكن العبرة بوزنها في إيرادات الدولة الإجمالية، والأهم من ذلك نسبتها للناتج، وهو المعدل الذي ينم عن قدرة الدولة على تحصيل إيرادات من الاقتصاد، الذي عادة ما لا يعتمد فحسب على بناء القدرات الإدارية والتكنولوجية، بل كذلك على عقد اتفاقات بين الدولة وشرائح المجتمع الحائزة للدخول والثروة محل الضريبة.
ولننظر إلى تكوين الإيرادات الضريبية في السنوات القليلة الماضية استنادًا إلى بيانات وزارة المالية المصرية. سنجد مبدئيًا أن الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات، كضريبة القيمة المضافة التي تم فرضها في 2016 ثم رُفع معدلها في 2017 من 13% إلى 14% تمثل ما يزيد عن 40% من إجمالي الإيراد الضريبي. ومعلوم أنها ضرائب غير مباشرة يتم تحصيلها على الأشياء، لا من الأفراد. وبالتالي فإنها لا تتطلب ذات القدرات المؤسسية أو السياسية التي تتطلبها الضرائب المباشرة على الدخل أو الثروة.
ونجد أن الضرائب على الشركات تبدو للوهلة الأولى، إن جمعناها، ذات نصيب كبير نسبيًا (11+12=23%) يداني ربع الإيرادات الضريبية. ولكن سرعان ما يتبدد ذلك تمامًا بإدراك أن أكثر من نصفها يأتي من هيئات وشركات تملكها الدولة أصلًا، وأنه في المقابل لا يزيد إسهام القطاع الخاص بتنويعاته عن 11% من إجمالي الإيراد الضريبي، رغم أنه يمثل طبقًا لبيانات البنك المركزي نحو 100% من الناتج الزراعي ونحو 96% من الصناعات التحويلية في 2019/2020، ونحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي.
وينسحب الأمر نفسه على الضرائب على الأرباح الصناعية والتجارية والمهنية، التي تُفرض على الأفراد لا الشركات، وفي مقدمة الضرائب على الأرباح المهنية بالطبع الأطباء والمهندسون والمحامون الذين يقدم الكثير منهم خدمات بمقابل، ويحصلون على عائد منها. فنصيب الضرائب على الأرباح التجارية وغير التجارية (التي تشمل المهنية) لا يتجاوز 4% من إجمالي الإيرادات الضريبية.
طبقًا لتصريح رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، فإن إجمالي إيرادات المهن الحرة في 2020 لم تتجاوز 7 مليارات جنيه. إن قارنا ذلك بأعداد المهنيين من المحامين (160 ألفًا في 2019 طبقًا لتصريحات نقيب المحامين)، ومن الأطباء 212 ألفًا في 2018 باستبعاد الأطباء على المعاش طبقًا لنقابة الأطباء، وأخيرًا 720 ألف مهندس طبقًا لنقيب المهندسين في 2019.
يقينًا وصدقًا وحقًا، لا يعمل كل هؤلاء بشكل حر، فكثير منهم موظفون لدى جهات الدولة أو بالقطاع الخاص. وقطعًا بعضهم في الخارج، وبعضهم لا يزاول المهنة أصلًا رغم عضوية النقابة. وإضافة لهذا وذاك، فإن الغالبية الكبيرة منهم بالتأكيد لا تحصل على أرباح مهنية كبيرة تستوجب بناء قدرات مؤسسية وقانونية لتحصيل الضرائب منها.
ورغم هذا كله، فإن المبلغ المٌحصًّل في 2020 يعني أن نصيب الواحد من أعضاء تلك الفئات المهنية المختلفة كان نحو 519 جنيه شهريًا، وهو بالتأكيد مبلغ زهيد لدرجة السخف مقارنة بمتوسط دخل ذوو الشهادات العليا مثل الأطباء أو المهندسين، وخاصة ما يحصل عليه بعضهم من أرباح مهنية طائلة قلما بل ويندر أن يتم تحصيل أي ضرائب عليها.
تفيد دراسة مي حسن وفريدريك شنايدر عن الاقتصاد غير الرسمي حول العالم، والمنشورة في 2016، أن الاقتصاد غير الرسمي في مصر قُدِر عند 32% من الناتج المحلي الإجمالي في 2013. وحتمًا فإن الكثير من الخدمات تقع ضمن هذه الدائرة، بما فيها تلك التي يؤديها بعض المهنيين بصفة خاصة.
هل يجب أن يدفع أصحاب المهن الحرة، وغيرهم ممن يحققون أرباحًا تجارية أو صناعية بصفة فردية، ضرائب على أرباحهم؟ نعم بالتأكيد. ولا أظن أن هؤلاء أنفسهم يختلفون مع المبدأ، أو على الأقل ليس لديهم استعداد للتصريح باختلافهم معه علنًا.
ولكن التحدي الأساسي يكمن في أن يتم تحصيل الضرائب بعدالة وكفاءة. ويرتبط الأمران ببعضهما بعضًا ارتباطًا وثيقًا. لأن نظامًا كفئًا لن يمكِّن فحسب من تحصيل مبالغ أكبر، ولكنه سيمكِّن من تحصيل تلك المبالغ من أصحاب الدخول الأكبر، ما يضفي طابعًا عادلًا على الضريبة، ليس فحسب في نظر المجتمع ككل، إنما في نظر المنتمين للشرائح المسهتدفة بضرائب الأرباح المهنية نفسها. وهؤلاء يختلفون كثيرًا في مستويات الدخول، وهو ما يؤكد على مبدأ التصاعدية الذي يجب أن يميِّز الضرائب المباشرة، حتى تحظى بالشرعية والمقبولية في المجتمع.
ومن ثم، فإن تحميل المهنيين جميعًا تكلفة بناء مؤسسات التحصيل دون تمييز، لن يحوز على رضاهم، لأنه إجراء يفتقر للعدالة والكفاءة معًا، ومن الطبيعي أن يؤدي لردود فعل كتلك التي شهدناها من المحامين وغيرهم.
إن الضرائب مسألة تمس السياسة بمعنييها: كإجراءات حكومية من ناحية، ولكن كتوظيف لسلطة الدولة العامة من ناحية أخرى. وهو ما يتطلب عملية فيها مساحة من التفاوض والتوافق لجعل الضريبة أكثر كفاءة وعدالة، ولكن كذلك بناء سردية من قبل السلطة العامة للتحصيل تبرر فرض وجمع الضرائب بما سيتم إنفاق هذه الإيرادات عليه.