لا شك أن الصلح والسلام بين الحكومات العربية أفضل من القطيعة والحصار وإغلاق الحدود والمواني والمطارات، ناهيكم عن دعم المرتزقة أو الحروب السافرة والعبثية بين "الأشقاء" العرب.
لكن في غياب حرية الإعلام وحق إتاحة المعلومات للمواطن والسماح بانتقاد الحاكم وسياسة الدولة، في جل عالمنا العربي، ظل البديل المتاح للمواطنين العرب لسماع الرأي الآخر ومعرفة المعلومات التي تحجبها عنه حكومته هو إعلام الدول العربية الأخرى التي توجد خصومة و عداوة أو حرب بينها وبين دولته، وهي لا تكون دائمًا معلومات دقيقة وموضوعية، بل أقرب إلى حملات دعائية موجهة تبرز الخبر السيئ فقط أو تبالغ فيه، ولا تدعم أو تستضيف كاتبًا معارضًا بإعلامها، إلا المنحاز لوجهة نظرها والملتزم بخط توجهها التحريري الذي يخدم سياسة حكومتها، وليس بالضرورة مصلحة بلده أو دولته.
لكن ذلك الخصام والاستقطاب أصبح السبيل الوحيد ليعرف مواطن دولة عربية لبعض الأخبار والمعلومات المحجوبة عنه من إعلام حكومته، عبْر إعلام الحكومات المناوئة أو قنوات المعارضة التي تستضيفها على أرضها أو تمولها عن بعد بعواصم أخرى، خصوصًا لو لم تكن لدى المواطن اللغة الأجنبية والقدرة على متابعة الإعلام الأوروبي والغربي، الذي يُفترض استقلاليته النسبية أو اهتمامه أصلًا بما يدور ببلد ذلك المواطن العربي ليكتب عنه أو يستضيف من يكشفه ويعلِّق عليه.
مع انتشار الراديو في الخمسينيات من القرن الماضي، خصوصًا الترانزستور المحمول، في جبال اليمن ومضارب الخليج وسواحل المغرب العربي، تمكنت شعوب تلك البلاد الخاضعة لحكم ملكي أو أميري أو إقطاعي من سماع من يدعو كل فرد منهم عبر صوت العرب من القاهرة بنداء "ارفع رأسك يا أخي" والحديث عن جمهورية المواطنين المتساوين ورابطة القومية العربية تحت راية ناصر، والدعوة لرفض الاستعمار الأجنبي وأعوان إسرائيل والأحلاف والحكم الوراثي المتواطئ.
ثم انقلب الحال، وتحولت المزايدات الإعلامية ضد مصر برفع الشعارات القومية نفسها ضد الانفصال والاستسلام وضد حاكم مصر، السادات هذه المرة، في النصف الثاني من السبعينيات مع زيارة القدس واتفاقيات كامب ديفيد، التي عارضتها مبكرًا دول جبهة الرفض بزعامة سوريا وليبيا والعراق. وبالتالي انطلقت إذاعاتهم وصحفهم وصحف المعارضين المصريين للسادات المدعومة عربيًا من لندن وباريس لإعلام وتوعية المواطن المصري بالتنازلات التي قدمها حاكمه دون الرجوع لشعبه.
وبعد عشر سنوات هدأت تلك الجبهة وخف صوت استقطابها القومي العروبي وإعلامه الموجه، بإعادة مصر إلى الجامعة العربية في عهد مبارك، خصوصًا لدعمها العراق مع السعودية والخليج بوصاية أمريكية في حربه ضد إيران. ولكن ما لبث التحالف المصري الخليجي بعد أقل من عامين أن انقلب على العراق لما فعله صدام بغزو الكويت، وما اتبع ذلك من حرب التحالف الأمريكي-العربي ضد العراق.
بعد متابعة بعض النخب والحكومات العربية لتغطيات مراسلي قناة سي إن إن الإخبارية الأمريكية لحرب العراق الأولى قرب عواصمنا وبمشاركة جيوشنا، في أول التسعينيات، أطلقت السعودية قناة إم بي سي لتقدم رواية إخبارية متفقًا عليها من أغلب الحكومات العربية الحليفة لواشنطن وتحت مظلة خليجية واحدة.
لكن في النصف الثاني من التسعينيات، خرجت قطر بحاكمها الأمير حمد، المنقلب على والده الشيخ خليفة، من تحت الخيمة السعودية التي كانت تظلل على مصر بالمثل في عهد مبارك.
أعادت قناة الجزيرة، بتمرد مالكها الأميري على محيطه الملكي، الاستقطاب الإعلامي في العالم العربي وإن لم يكن استقطابًا سياسيًا من حيث انضواء الدوحة لنفس الحلف الأمريكي. لكنه استقطاب سمح للمواطن العربي عبر تكنولوجيا الستالايت التليفزيوني، عوضًا عن الراديو الترانزستور في عهد ناصر، بتقديم رواية مختلفة للمواطنين العرب في الدول المجاورة ومعلومات غير معلنة وضيوف معارضين لحكوماتهم. الأمر الذي زاد من الخصومات السياسية بين قطر ومحيطها العربي بما فيه مصر.
لكن حاجة قطر في عام 2010 لتصويت مصر وغيرها من الدول لصالح استضافة الدوحة بطولة كأس العالم لكرة القدم في عام 2022 أدى لتصالح وزيارة للرئيس مبارك للدوحة، انعكست على تغطية الجزيرة لأخبار مصر ومراعاة حساسية الحكومة المصرية للعديد من القضايا وتجنبها مثل النزاعات والاعتداءات على المسيحيين، فيما سُميّ بـ"الفتنة الطائفية".
غير أن مصالحة مبارك ومراعاة نظامه تحريريًا في الجزيرة لم تتجاوز بضعة أشهر، فقد غيرت ثورة يناير الموازين، وأنشأت الجزيرة قناة لمصر، ولم تهادن الحكومة إلا في السنة التي حكم فيها الرئيس مرسي.
لم يترك إعلام قطر ممثلًا في قنوات الجزيرة بالدوحة والعربي في لندن، أي خبر أخفاه الإعلام المصري أو السعودي أو الإماراتي عن مواطنيه إلا وأذاعه
من يوليو/ تموز 2013 عاد الاستقطاب السياسي والإعلامي في العالم العربي بشكل حاد بخصومة سياسية بين قطر وتركيا وإعلامهما من ناحية، وحكومات وإعلام السعودية والإمارات ومصر من ناحية أخرى. وهي خصومة كادت تصل لاجتياح قطر عسكريًا لكنه أصبح حصارًا فقط ومعهم البحرين، مراعاة للقواعد العسكرية الأمريكية في قطر.
بالتالي، على مدى سبع سنوات من الخصومة بل والقطيعة في السنوات الثلاثة الأخيرة منها، لم يترك إعلام قطر ممثلًا في قنوات الجزيرة بالدوحة والعربي في لندن، أي خبر أخفاه الإعلام المصري أو السعودي أو الإماراتي عن مواطنيه إلا وأذاعه وحقق فيه، واستضاف المعلقين عليه من كل أنحاء العالم.
ولعل أوضح مثال على ذلك قضية قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بقنصلية بلده في اسطنبول. واستضافة تركيا على أرضها، ولو بتمويل غيرها، عدة قنوات للإخوان المسلمين ومعارضين مصريين لكسر احتكار المنظومة الأمنية للإعلام وما يُسمح بنشره من خبر أو رأي.
على الجانب الآخر، لم تكتف السعودية والإمارات بقنواتهما الإخبارية المنتقدة لقطر وحلفائها من الإسلاميين، بل أقامت كل منهما قنوات على أرض مصر لتوصيل الرسالة ذاتها، خصوصًا تلك المعادية لثورة يناير أو الربيع العربي.
بعد شهرين من خسارة ترمب انتخابات الإعادة للرئاسة الأمريكية، تمت مصالحة حاكمي السعودية وقطر في قمة العُلا الخليجية في الأسبوع الأول من عام 2021، لتختفي بعدها أخبار التحقيقات في مقتل خاشقجي من شاشة الجزيرة إلا النذر القليل، دون استضافة معلقين عليها، حتى بعد أن سمحت إدارة بايدن للمخابرات الأمريكية بنشر نتائج تحقيقاتها بوجود أدلة على مسؤولية ولي العهد السعودي بشكل مباشر في قتل خاشقجي. وهو جميل ردته بالمثل قناة العربية في عدم استضافة منتقدي قطر أو معارضيها من مواطنيها مثل آل مرة، خصوصًا حين تم حرمانهم في قطر من حق التصويت في مجلس الشورى في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي.
لكن الإمارات بإعلامها، أعطت فرصة لمعارضي قطر بانتقادها، وواصلت تسليط منصاتها الإلكترونية بالمثل على انتقاد أوضاع قطر بما في ذلك عدم استعدادها لاستضافة كأس العالم ومدى أحقيتها لذلك. بينما ركزت الجزيرة والإعلام الممول قطريًا على التطبيع الإماراتي البحريني، وليس المغربي إلا نادرًا، ضمن الاتفاقات الإبراهيمية والهرولة الإماراتية للتطبيع الساخن. في حين أبرز الإعلام القطري كيف ترفع قطر الأعلام الفلسطينية وتتيحها في كل استاد رياضي، وتنقل صور ومقاطع رفض مواطنيها وزوارها التعامل مع الصحفيين الإسرائيليين.
بيد أن المزايدة الإعلامية على الإمارات في تطبيعها مع إسرائيل ستتوقف ومعها أي انتقادات أو إذاعة أخبار سلبية عن الإمارات، والسبب؟
المصالحة: فبعد أن ودّع رئيس الإمارات محمد بن زايد ضيفه للمرة الثانية في العام نفسه، وهو رئيس دولة إسرائيل إسحق هيرتزوج الذي زار الشيخ محمد بمنزله في أبو ظبي الأحد الماضي، توجه رئيس الإمارات في اليوم ذاته إلى الدوحة لإنهاء سنوات طويلة من القطيعة مع قطر منذ عهد أميرها السابق الوالد، وليتصافح ويتصالح في استقبال حافل من الأمير تميم، الذي حرص على جولة بسيارة مع ضيفه بمفرديهما، تيمنًا بجولته أول العام الماضي في العُلا بسيارة مضيفه ولي العهد، الذي صالح تميم لاحقًا بالمثل مع الرئيس السيسي، مثلما تصالح الإعلام القطري مع أخبار مصر.
لم يتبق لقطر في المصالحة إلا البحرين، وإن كان البلدان حريصين على ألا تتجاوز الحملات الإعلامية بعض المنصات غير المحسوبة مباشرة عليهما، مراعاة للوسيط السعودي بالنسبة لقطر والكفيل بالنسبة للبحرين.
فهنيئًا لشعوبنا العربية بمصالحات حكامها، ولا عزاء للإعلاميين المستقلين أو المعارضين للحكم الفردي أو المدافعين عن الحريات وحقوق الإنسان من أراض عربية.