كل رحيل يستدعي رحيلًا، وأسماء وذكرى آخرين، وهم -في جيلنا- منذ 2011 كُثر، لكن ارتحال محمد أبو الغيط إلى رحمات الله، فاجعة كبرى لا يشابهها رحيل آخر.
يكتب وديع سعادة "العابرون سريعًا جميلون. لا يتركون ثقلَ ظلّ. ربما غبارًا قليلًا، سرعان ما يختفي"، لكن محمد أبو الغيط في جماله وعبوره السريع، ترك أكثر من غبار كثيف، غبار لن يختفي بسهولة على الإطلاق. يقول المصريون إن "فلانًا ابن موت" للتعبير عن خفته على الأرض، وللدلالة على شغفه بالحياة وألوانها، على نُبله وفتنته، ومحمد أبو الغيط على هذا كله، لم يكن يستحق أن يكون "ابن موت".
في صيف عام 2021، تواصلت مع محمد أبو الغيط في لندن ليجري حوارًا صحفيًا مع جيرمي كوربن زعيم حزب العمل البريطاني، لمطبوعة كنت أرأس تحريرها، حول حملة التضامن مع فلسطين وأنشطتها في بريطانيا. خلال أيام أرسل أبو الغيط رسالة إلى مكتب كوربن، ورد علي بأسئلة أعدها للحوار، وتناقشنا في زواياها، ثم أعاد الاتصال بمكتب السياسي البريطاني المعروف لتسريع الحصول على موعد، وفجأة، أرسل لي يعتذر "أنا مريض قليلًا".
كان أبو الغيط في الأثناء يجري التحاليل والفحوص التي كشفت إصابته بالسرطان، وفي الوقت نفسه ينهب الوقت نهبًا للعمل، في أكثر من مكان وعلى أكثر من وسيط صحفي، ما بين المكتوب والصوتي والتلفزيوني. لم يخبرني أبو الغيط حينها بطبيعة مرضه، وربما كان يحدوه الأمل وقتها في أن يكون في الأمر أمر آخر، لم تنتصف ثلاثينياته حتى ليضرب موعدًا مع الموت، وقبله الألم العضال.
علمتُ، وعلمنا جميعًا بعد ذلك بأسابيع، بحقيقة مرض محمد أبو الغيط، وأدار أغلبنا وجهه عن الحقيقة والمصير لعل الإنكار يريح، وأدار محمد وجهه نحو الأمل، وتمسك بالحياة بقوة، وأخضع الأورام التي أمسكت بتلافيف خلاياه إلى الشرح والتفكيك والحوار معها بالكتابة والتعبير.
كان في حياته السابقة، حياته قبل أن يقرر التوجه نحو النور، طبيبًا شابًا، يعرف خطورة ما يمر به، وما يحدث على نحو دقيق في جسده، وكنا نعرف معه عبر ما يكتبه، المعنى وراء الألم، والشعور الذي لا تترجمه المعارف الصحية. هكذا وصل محمد أبو الغيط إلى محطة جديدة في حياته، وفي كتاباته، ضمن متتالية تبدو الآن بموته متتالية أسطورية، اكتملت على نحو أدبي معجز في مجازه.
كانت تدوينة محمد أبو الغيط صورة أخرى لا يريد أن يراها أحد، وكتب فيها عن ما يقرب من عشرين شهيدًا لا نعرفهم، ولن يكتب عنهم أحد
في يونيو/ حزيران 2011، بعد الإطاحة بحسني مبارك بأشهر قليلة، ندت عن محمد أبو الغيط صرخته الأقوى التي عرفه القراء منها، تدوينته الأشهر "الفقراء أولا يا ولاد الكلب". كان الثوار قد عادوا إلى منازلهم، وعرف الكثيرون موقع فيسبوك الذي حرك الانتفاضة الثورية العارمة، وعرفوا ما يتيحه من معارف وتسلية، ومساحة شاسعة للتعبير والتهريج معًا.
كانت طاقة السخرية المستمدة من ميدان التحرير لا تزال تسري في الأوصال، وأُنشئت صفحة ساخرة على فيس بوك باسم "شعبان وصباح" تسخر من صور "السرسجية" وهيئاتهم، ولم يكن ذلك ما استفز محمد أبو الغيط تحديدًا ليطلق هتافه المدوي على مدونته جدارية، التي أنشأها عام 2010 وعرف نفسه عليها باعتباره مشروع دكتور، بل كان التنميط الذي كرسته الصحف والمواقع والفضائيات التي انضمت للترحيب بالثورة وشبابها، للشهداء، والتأكيد فقط على أسماء وصور أيقونية للدلالة على "نضافة" الأبطال، فيما كان نفس الإعلام يهاجم البلطجية الذين يحاولون تشويه تلك الصورة المثالية.
كانت تدوينة محمد أبو الغيط صورة أخرى لا يريد أن يراها أحد، وكتب فيها عن ما يقرب من عشرين شهيدًا لا نعرفهم، ولن يكتب عنهم أحد. كتب ونشر صورًا لمحمد عبد الحميد الشهير بكامبا الذي قتل بالرصاص عند قسم الزاوية الحمرا يوم جمعة الغضب، وعن أحمد محمد سيد من محافظة بني سويف الذي لم يكرم ضمن احتفالاتها بالشهداء، وعن الذين ماتوا في شارع أبو سليمان في الإسكندرية، وعن سامح عبد الفتاح الذي مات أثناء محاولته إنقاذ أحد المصابين أمام قسم شرطة الحدائق، وعن أم يوسف وزوجها محمد صادق اللذين قُتلا في مركز الواسطى بمحافظة بني سويف وتركا ثلاثة أيتام، وغيرهم ممن لم نعرفهم إلا من محمد أبو الغيط.
كتب عن أسرهم، وعن أوضاعهم الاجتماعية، وعن بطولاتهم الصغيرة بالنسبة إليهم، الكبيرة في أثرها، وكانت تلك التدوينة التي انتشرت على نطاق واسع جدًا، معنى من معاني محمد أبو الغيط، معنى البحث عن الفقراء، وتخليد الحرافيش كما يستحقون. كتب أبو الغيط من دون تصرف "لماذا لا نرى أبدًا صور أي واحد من هؤلاء وأمثالهم؟
لماذا لا يتم التركيز أبدًا عند الحديث عن (شباب الثورة) أو (شهداء الثورة) إلا على أمثالنا فئة شباب الطبقة المتوسطة/البرجوازية الصغيرة المتعلم الأنيق الذين خرج منهم شباب الائتلافات و6 أبريل؟
لماذا غاب عن تحقيق المصري اليوم التاريخي إياه الذي تحولت صور الشهداء الذين ظهروا فيه إلى أيقونات بصرية أي صورة لأحد هؤلاء؟ هل لأنهم (بيئة) أو (سرسجية) فلا يصح أن يكونوا من (الورد اللي فتح في جناين مصر)؟
على كل حال هم لم يهتموا طوال حياتهم بالورد، لأنهم اهتموا بالأهم: الخبز".
في شهادته ككل كتاباته فيما بعد استوصى محمد أبو الغيط بالدقة والفصاحة معًا، دون أن تغالب إحداهما الأخرى أو تطغي على زميلتها.
بعد التدوينة الأشهر، وفي 2012 يكتب محمد أبو الغيط شهادته عن الثورة ضمن كتاب "يوميات الغضب.. شهادات حية من ميادين مصر الثورة" الذي حررته الكاتبة هبة عبد العليم وقدمت له الروائية الراحلة رضوى عاشور، ومرة أخرى يقدم محمد أبو الغيط معنى جديدًا للتدوين عن الملحمة.
قالت لي هبة محررة الكتاب إن أبو الغيط رفض في البداية المشاركة، قائلًا إنه اعتقل فور نزوله إلى الشارع ولم يكن مشاركًا قويًا مثل باقي الناس، وأصرت هي على أن يكتب، فكتب واحدة من أهم الشهادات. قدم محمد أبو الغيط في شهادته التي عنونها "ما أصعب أن تكون ثائرًا في الصعيد"، ما يشبه القراءة التفصيلية لأسباب عدم تجاوب محافظات الصعيد مع دعوات الانتفاضة في 25 يناير 2011، ولا ما قبلها في 2006 التي تزامنت مع إضراب المحلة الكبرى، ولا بين التاريخين في الحراك السياسي ضد التمديد والتوريث، متجاوزًا النعرة الجهوية وبوعي يتجاوز سنه الصغير.
كتب أبو الغيط عن التركيبة الاجتماعية في محافظته أسيوط وما يحدها من محافظات، ولخص في أربعة أسباب كيف يمكن أن تقرأ معادلة الصعيد القوي الذي لا يهاب أحدًا بينما هو غارق في خوفه من السياسة، بعد تجربة الحرب على الإرهاب في التسعينيات، عن القبضة الأمنية المريعة، واختفاء مظاهر الاستفزاز التي أغضبت أبناء القاهرة والمحافظات الشمالية.
كتب عن التواطؤ بالتوافق الذي يلف الجميع هناك حيث لا يعرف أبناء العاصمة شيئًا عنهم، وحافظ على دقته فيما يخص غياب وقائع التعذيب وعسف الشرطة مقارنة بما يحدث في المحافظات الأخرى، دون أن ينخرط في التيار العام ودعايته العكسية لكامل نظام مبارك، ثم وفي صدق بالغ يعترف أنه لم يتحمس لدعوات الخامس والعشرين من يناير، ولم يشأ المشاركة فيها منذ البداية، رغم مشاركته السابقة حينما كان في القاهرة في مظاهرات حركة كفاية أمام نقابة الصحفيين عام 2008.
في شهادته ككل كتاباته فيما بعد استوصى محمد أبو الغيط بالدقة والفصاحة معًا، دون أن تغالب إحداهما الأخرى أو تطغي على زميلتها.
كانت ثورة يناير هي النور الذي اجتذب محمد أبو الغيط مثل فراشة، فتأكد خياره أن يترك الطب، ويغادر إلى حيث الحقيقة والبحث عنها، وإلى تقديمها للقارئ والمشاهد، بعد النظر إليها نظرة أمينة بعينين متسعتين عادلتين، لا بعين واحدة، ترى الناس العاديين وأبطال الصورة في المنتصف.
في تحقيقه "المستخدم الأخير"، الذي حاز عنه عدة جوائز، ويتناول السوق السوداء للسلاح المنتشر في يد المقاتلين اليمنيين في الصراع القائم هناك، قضى محمد أبو الغيط نحو عام ونصف العام يتتبع القصة، ويدقق معلوماتها وينفرد بها ويكشفها على عكس إرادة جميع الأطراف المحلية في اليمن، والإقليمية في دولنا العربية، والدولية حيث تتعطل القوانين عن العمل متجاهلة هذا الصراع.
كل فقد كبير يستدعي فائضًا من اللغة، رومانسيًا وحزينًا، لكن معنى محمد أبو الغيط كان في المعلومة، وفي الواقعي، والجاد، والرائي. محمد أبو الغيط الذي لم يعدم أبدًا الدقة والفصاحة.