كان علينا العودة من المباراة على وجه السرعة؛ فالجوع يشوش على غضبي من اختطاف محاربي الساموراي للفوز من الماكينات الألمانية، التي صارت "عجلات" في خطابنا العربي الشامت وفي الخيال الذكوري المهيمن على اللعبة الأكثر شعبية في العالم. هتف حليم متبجحًا: هم أحق. تجاهلت استفزازه وتسائلت: أحق بماذا؟ ذكرني أن اليابانيين اقتنصوا نقاطًا ثلاثًا من إسبانيا أيضًا. يبدون من أول وهلة المنافس الذي لا يخطر على البال، ويُدهِش تقدمه بسرعة من الخلف.
توقعاتي عن الفريق الأندردوج تنحصر في المغرب، لأسباب لا علاقة لها بكونها بلدنا العربي الشقيق، بل لأنها تلعب كرة من لحم ودم، خالية من تلك الروح الميكانيكية التي تغلب على لعب اليابان ومثيلاتها.
لم أرَ اليابان تصلح للرهان منذ أخفقت في عبور كوستاريكا، التي لم أندهش عندما قصف راقصو الفلامنجو الإسبان شباكها بالسبعة. لكن للسماء في الكرة شؤون، فتقفز للأمام ومعها إسبانيا، التي بالكاد استطاعت أن تمسك بباب آخر عربة في قطار دور الستة عشر، لكي يعود الألمان مبكرًا لبلادهم مكللين بمذلة الخروج من دور المجموعات للمرة الثانية على التوالي.
يذكرني حليم بإنجلترا، وهو يغني بحماس It is coming home. أنظر نحوه بغضب. فالإنجليز الذين أسسوا اللعبة لم ينسوا أن يتركوا فيها التَتَش الاستعماري، حتى بات بإمكانهم الحصول على أربع فرص للعب في كأس العالم، بينما إفريقيا، بدولها التي تقارب الخمسين، تجاهد من أجل خمسة مقاعد، ولم تتمكن من الحصول على تلك البطاقات إلا من وقت قريب.
بعد مسيرة من الاستاد تقارب نصف الساعة على الأقدام، نحط رحالنا في البوليفار، وقد قارب الليل على الانتصاف. الدوحة التي كانت قبل أسبوعين فقط مدينة هادئة خجلى، باتت صاخبة لا تنام. في كل زاوية من زواياها حدث أو ساحة أو فان زوون تشغى بالمشجعين. وأمامنا في ذلك الشارع الذي بني خصيصًا ليكون ساحة احتفال على حافة الاستاد الذي سيستقبل مباراة الختام.
ينبهني حليم لما تحويه شاشات الإعلانات الضخمة التي تحتل واجهات المباني، فتحيل الشارع كله لتليفزيونات مهولة. أجلس وأهمس بالشكر لتلك المفاصل وفقرات الظهر التي خجلت من أن تذكرني بأني عبرت باب الأربعين قبل سنين. يردد بلؤمه المعهود "العضمة كبرت"، ويذكرني أن للسن حكمه، فأرد ضاحكًا "مريام فارس من سنك، الله يسهل لكم". فيرد "لكن نيكي ليست من سنك".
أضحك لبرهة ثم أقلب وجهي حين أتذكر تلك الحمقاء، فيردد بصوته الأجش "توكو تاكا"، متعمدًا فتح الحديث عن ذلك الهراء المغنى.
لا أفهم معنى توكو تاكا، ولا أتقبل محاولات إكسابها معنى. يفتح حليم تليفونه على كليب الأغنية، وكأنه يسكب الجاز على غضبي وجوعي. أدرت عيني ناحيته حين أطل صدر نيكي ميناج، ونظر هو بلمعة عين ساخرة. أهرب من تفسير الصورة الصريحة لمحاولة فك طلاسم الكلمات.
إنجليزيتي ليست عميقة لدرجة ميناج. أما هو فلديه حصيلة لا بأس بها من الإسبانية، كما يعرف الكثير عن غناء الأندرجراوند (لحليم بعض من اسمه، فهو عازف جيتار قديم مقموع، ويعزفه كالمحترفين). بالنسبة لي، فإن كل ما استوعبت من صراخ ميناج هو أنها ممشوقة القد، وأن جسدها يفتن الرجال، ويحولهم لصغار يتشبثون به، وأن أجواء كأس العالم ليلة مواعدة بالنسبة لها، وستجتاحها هي ورفيقاتها. وربما قالت شيئًا عمن سيتجرع كأسًا أو خيبه، لا أتذكر، وكذلك عمن سيلحس لسبب مجهول قذيفة كروية.
لا يسهم جوعي وانتظار النادل في تقريب غموض السيدة ميناج، كما لا يسعف في التفسير ضحكه وتوكيده بأن المعاني أقل مما ظننته. الكلمات ربما أقل، لكن ظنوني أكبر بكثير وتكاد تقارب صدرها العارم الواضح في وفرته وحسمه للجدل. أقول بتوتر فشلت في إخفائه: هذا الصدر أوضح من كل تفسيراتك العجائبية المبهمة.
فجأة قرر أن يستدعي الشيخ نايك، ويفتح فيديو له هو الآخر، وقد بدا الشيخ بضحكته المصطنعة، وطاقيته الشبيكة وسترته الغربية، لكن طلته لا تكفي حتمًا لأن توازن طلة نيكي. لا يكتفي حليم بذلك، بل يضع أمام عيني بوست لنايك يحتفل فيه بوصول حجم متابعيه على السوشيال ميديا 22 مليونًا. لا أجد ما أضيفه من علامات الاستفهام التقليدية على خطاب نايك ولا أود الحديث عن عقل مريديه، وكيف يتداول بينهم كل ذلك الكم من النقاشات العبثية والاستغراق في التراث لمحاولة الإجابة عن سؤال بسيط عن كيف نعيش حياتنا المعاصرة.
أحاول ألا أبدي اهتمامًا، فيعيد شاشة هاتفه أمام عيني، وفيها بوست لنايك وقد زين كوكتيل الموضوعات التي سيتحدث عنها في قطر بفتاوى التداوي ببول الإبل. أضحك، وأنتظر منه الإجابة، وهو الطبيب المختص الذي تقع مأساة الأفكار الشعبية عن التداوي في نطاق اهتمامه. خشيت ألا يكتفي بالسخرية، ويشرع في نقد مصادر نايك. قال لي قبل أيام إنه يعتبر أن الرجل يسهم في عملية قتل حقيقية، لمن يسايرون مثل ذلك التصور عن إمكان علاجهم بالشخاخ.
لا يتعامل حليم مع الأمر كرأي عابر لشيخ ما لا يختلف عن الكثير من شيوخ الميديا لدينا. الرجل قادم من الهند حيث يمكن فهم جزء مهم من خطابه على خلفية التطرف اليميني الهندوسي الذي بات يحكم قبضته على بلد كان يومًا أهم بلد ديمقراطي عالمثالثي. ويخاطب بالدرجة الأولى المهجر الهندي المسلم في أوروبا والخليج. والقليل من خطابه يتقاطع مع خطاب الكتلة السلفية التي تهيمن على الوعي بالدين في منطقتنا. لكن الميديا لها حكمها وجعلت من ذاكر نجمًا لدينا أيضًا. أراه حالة مصطنعة، وهو في أفضل الأحوال مجرد عصام آخر، "لا كهربائي ولا بيفهم في الكهربا".
أتفهم قلق حليم الخبير في مجال الصحة العامة، لكني أكره الاستغراق في مثل تلك النقاشات التي ليس لدلائل العلم قدرة حقيقة على حسمها. والحال دومًا أن المتناقشين يعنيهم ممارسة الخناق بأكثر مما يعنيهم العلم والانتصار لحقائقه أو الدين والانتصار لإيمانه.
فكرت أن أعيد الصخب لساحة نيكي، فهي أخف، وفي الحديث عنها ما يصبر الجوع. قلت إن الانزعاج من مبولة نايك المقدسة سيلغي الحضور الشبقي الواجب لـ"الصدر الأعظم" وسيستدعي "قيامة أرطغرل". لكنه كان أسرع، وعلى طريقة نيوتن حين سقطت على رأسه التفاحة (كنت لأكتفي بتفاحة لتصبير هذا الجوع) فاجأني بهتافه: نِك.. لم أستوعب الكلمة، التي تبدو في نطقها فعل أمر. وهو بعكسي لا يشجع ألمانيا.
قال بحماس طفولي: نايك ونيكي يحتاجون نِك. استفهمت بمط شفتي، فتحدث عن نيكولاس ليوز الشهير بنك، الرئيس السابق لاتحاد أمريكا الجنوبية لكرة القدم الذي وجه إليه الادعاء الأمريكي تهمة التورط في فساد منح قطر وروسيا بطاقتي تنظيم كأس العالم 2018 و2022.
قال "نِك صاحبك هو الإجابة المنطقية عن حضور نايك ونيكي. ولا يمكن أن نفهم اختيار القطريين لهما معًا إلا إن فهمنا الحضور الخفي لنك ولأمثاله من مشهلاتية عمل الشركات ومحركي بيزنس الفيفا". جاهدت عقلي المتعب في فهم مراده. هل سنفهم منع الخمر وحضور شركاته كرعاة، أو الحديث عن الهوية العربية الإسلامية الذي يبدو كغلالة خفيفة على الحضور الكثيف لاقتصاد الترفيه الاستهلاكي المعولم، وهل سنفهم مشاهد معركة المثلية والعنصرية وفلسطين؟ هل حقًا باب الفهم هو الـ football corporate.
في الفيلم الذي عرضته نتفليكس قبيل بدء كأس العالم يطل علينا الوجه الكئيب لسيب بلاتر، وقد أتيحت له فرصة ناعمة لأن ينفي عن نفسه المسؤولية عن اختيار قطر وعن صنع ذلك الفاصل من تاريخ الفيفا. بدا رئيس الفيفا السابق كالحمل الوديع. أما الرسالة فظلت تدور حول قطر وشيكاتها الشريرة، وتناسى بلاتر، ومن تحدثوا في الفيلم، أن عصابة الفيفا ظاهرة لم تبتدعها قطر، وأن شبه الجزيرة الصغيرة الكائنة في شرق الخليج العربي لم تخلق أهم قوانين كرة القدم العالمية، قانون الفساد. وهو فساد له تاريخ، منذ ولد على يد خامل الذكر جواو هافيلانج. قلت "مات نك، فارحمني"، فقال "هناك مئات من النِكّات تجول في أروقة الفيفا".
كان نك حلقة الوصل بين أباطرة الفيفا ولوردات بيزنس الكرة، ممن تلقوا رشاوى المتنافسين على تنظيم دورات أسبق من كأس العالم، واستمر يقوم بالدور ذاته حتى إسناد التنظيم لروسيا وقطر. ربما خرجت من الفيفا بعد الفضيحة قرارات بحظر العديد من هؤلاء وفيهم مسؤوليها السابقين، واستبعادهم من كل اللجان والهيئات التابعة للمنظمة، لكن حليم يؤمن أنها استنسخت غيرهم، وخبأتهم في صلعة الرئيس المبتسم إنفانتينو.
أهلَّ النادل وقد حمل أطباقنا، فحمدت الله أن حديث الضحك والحماسة عن لعبة نايك ونيكي المبهجة الذي انقلب غمًا لدى ذكر نك، انتهى. لكن لحديث الشركات بقية، خصوصًا وأن بيزنس كأس العالم الملياري هذا قد ادعوا له رقمًا يفوق الخيال: مئتا مليار دولار، ومعهم بعض الدماء.