انطلق المونديال إذن، المهرجان الأهم في الرياضة الأهم حول العالم. وها هي منتخبات الدول، كبيرها وصغيرها، توغل يومًا بعد الآخر في الفوز أو الهزيمة.
ضمن فعاليات الاحتفال بالانطلاق، غطت صورة مصافحة الرئيس المصري ونظيره التركي، بعد سنوات من العداء، على كثير من الصور الأخرى. مصافحة بمباركة الأمير الحاكم صاحب الأرض والدعوة، الذي تصالح هو نفسه والرئيس المصري قبلها بعدة أشهر.
لم يكن هذا ليحدث إلا في المونديال، حيث يمكن تمرير الكثير من الأشياء.. الكثير جدًا، وتلبيس العديد من الأحداث غير أثوابها الحقيقية، وإن لم تكن مناسِبة للجسد المقصود ومقاييسه. يمكن للجميع أن يسقط أحلامه وأوهامه الشوفينية والدينية والأيديولوجية.
المشجعون يدخلون في دين الله أفواجًا، وقطر تغير قوانينها الراسخة لتصبح أكثر انفتاحًا أو علمانية حتى، بضغوط العالم ويمثله في الحدث الفيفا. الخمور للمرة الأولى في الدوحة، مع أنها متاحة في الفنادق وللأجانب طوال الوقت! والصورة المقدمة للحدث على القنوات الأجنبية، وصفحاتها على السوشيال ميديا، تختلف بالكلية عن تلك التي تبثها قنواتنا العربية، كأن هناك مونديالان في الدوحة!
لا يركز الجميع مع مستطيل اللعب فقط، ولا الذين يواصلون العدو عليه لتحقيق الفوز. الفوز -بالنسبة لهم- تحقق في قضايا أخرى، رغم أن النجيلة نفسها تغطي دماء المئات ممن بسطوها خلال مدة وجيزة لتكون جاهزة في الموعد. مئات العمال سقطوا صرعى تحت الشمس ومع ساعات العمل الشاقة الطويلة، لكن أسرهم في قرى آسيا الفقيرة حصلوا على التعويض. الدولة المضيفة قادرة على ذلك، رغم مماطلتها كثيرًا من الضحايا وذويهم، بينما لم تعوِّض البرازيل آلاف الأسر عام 2014 عندما أزالت عششهم الصفيح لتبدو البلاد أنظف وأكثر اتساعًا، ومع ذلك انهزمت هزيمة مذلة على أرضها أمام الألمان، فأصيبت الجماهير بالهستيريا وخرجوا يحتفلون في الشوارع بجنون!
ليست الكرة وحدها في الملعب. الفريق الوطني الإيراني استغل الأضواء، وعبَّر عن رفضه للديكتاتورية الحاكمة في بلاده في المؤتمرات الصحفية ما قبل مباراتهم مع الإنجليز، وفي المبارة نفسها رفض الفريق ترديد النشيد الوطني، احتجاجًا وغضبًا من المقتلة المفتوحة على مصراعيها منذ أسابيع، ولعله انهزم قاصدًا بنتيجة مهينة في مباراته الأولى، ليعلن رسالته بشكل مختلف.
https://www.youtube.com/watch?v=jpXjxNIJFioملخص مباراة إنجلترا وإيران في مونديال قطر 2022
هذه ليست المرة الأولى التي يسدد فيها فريق وطني أهدافًا ضد ديكتاتورية الحكم في بلاده، ولو بالعكس، أي يتلقى أهدافا في مرماه لئلا تستغل السلطة الطاغية الانتصار الرياضي في بنك رصيدها السياسي.
في كتابه "تاريخ شعبي لكرة القدم" الصادر حديثا عن دار المرايا بترجمة محمد عبد الفتاح السباعي، يعدد مؤلف الكتاب الصحفي الفرنسي ميكائيل كوريا، المواقف التاريخية لمناهضة الاستبداد والقمع والاحتلال والإمبريالية والكفاح ضد الرأسمالية في المونديال، ويخصص القسم الثاني بالكامل من كتابه الضخم (نحو 400 صفحة) لذلك، تحت عنوان موحي "الهجوم.. دعونا نهاجم الديكتاتوريات".
يحكي كوريا عن نادي برشلونة الذي أصبح منذ إنشائه عام 1899، منبرًا لمطالب الجمهوريين والكتالونيين، وفي عام 1920 أعلن أعضاء جمعيته العمومية رسميًا "نحن نادي برشلونة لأننا كتالونيين". يروي الكاتب أنه في الأيام الأولى من الحرب الأهلية الإسبانية في يوليو 1936، انتفضت العاصمة الكتالونية في مواجهة الجنرالات القوميين، وأصبح ملعب نادي إسبرتو جوبيتر في برشلونة نقطة تجمع للقوات الأناركية.
الناشطون الليبراليون، كانو يستفيدون من سفريات الفريق لتهريب مسدسات مخبأة داخل الكرات، وحولوا المدرجات في ملعب "جوبيتر" إلى ترسانة تحت الأرض، ومن جهته التزم نادي برشلونة بتشجيع لاعبيه على الانضمام إلى الجبهة المناهضة للفاشية، وخلال صيف 1937 قام لاعبو البلوجرانا بجولة في المكسيك كسفراء للكفاح الجمهوري وجمع التبرعات للنادي والمقاومة المناهضة لفرانكو.
وفي يوليو/ تموز من عام 1935 انتُخِب جوزيب سونيول رئيسًا للنادي، وهو عضو سابق في اليسار الكتالوني المؤيد للاستقلال، لكنه لقى مصرعه في أثناء رحلة لمدريد، عندما أوقف مسلحو الميليشيات القومية سيارته عند حاجز على طريق في سييرا دي جواداراما، وما أن تعرَّفوا عليه حتى أطلقوا النار عليه بدم بارد وأردوه قتيلًا.
طريقة لقول "لا"
هناك دائما عقاب رهيب في الدول الديكتاتورية للرياضيين الذين يخرجون عن النظام. فعندما تضبط نغمة واحدة بين الجماهير في المدرجات وحول الاستادات واللاعبين على النجيلة الخضراء، فهذا خطر كبير.
يسجل الكتاب ما حدث لأصحاب نادي سبارتاك في الاتحاد السوفييتي، الأشقاء نيكولاي وألكسندر وأندريه وبيوتر، الذين أسسوا النادي تحت اسم سبارتكوس؛ العبد الآبق والمصارع المتمرد في العصر الروماني، وعرف النادي باسم سبارتاك، وكان النادي يتمتع في الثلاثينيات بشعبية كبيرة ومتزايدة بين العمال الروس، ويأتي عام 1936 فيحكم جوزيف ستالين قبضته على السلطة بشكل كامل بعد ثورة تطهير حزبية، وفي مايو/ أيار من العام نفسه يستعيد النظام الديكتاتوري السيطرة على كرة القدم من خلال تنظيم الدوري السوفيتي بالإضافة إلى بطولة وطنية.
ومع جنوح النظام إلى الاستبداد والإرهاب والقمع الوحشي، أصبحت كرة القدم شغفًا سوفيتيًا يجب على الحزب السيطرة عليه لصالحه. كانت الدولة أنشأت نادي سيسكا التابع للجيش الأحمر ويمثله، بينما يمثل نادي دينامو موسكو البوليس السياسي، وبينما كان البوليس المخيف والمكروه من الجميع يفرض القمع والترويع، رآه السوفيت ينهزم أمام نادي سبارتاك الشعبوي الذي يشجعه الفقراء والعمال، وكانت الهتافات له تعني الهتاف ضد النظام القمعي.
نادي دينامو في عام 1938 كان رئيسه الفخري لافرينتي بيريا رئيس الشرطة السياسية والذراع القاهرة لستالين، وأمام مكاسب نادي سبارتاك على فريقه، قرر سحق النادي من أعلى. حاول اعتقال أصحاب النادي عام 1939، لكن حماية ما من جانب رئيس الوزراء مولوتوف حالات دون ذلك، ولم ييأس رئيس الشرطة، ففي مارس/ آذار عام 1942 وفي خضم الحرب الوطنية العظمى ضد النازية الألمانية، اعتقل الأشقاء الأربعة بتهمة الدعاية المناهضة للاتحاد السوفيتي والفساد، والتحريض على الهجوم على ستالين.
ربما يتغير الموقف في المونديال القادم، لكن المشجعون حتى الآن في معية الله في الدوحة
سُجنت سجن عائلة ستاروستين في المقر الكئيب للأجهزة الألمانية "لوبيانكا" قبل ترحيلهم إلى معسكرات الاعتقال في سيبيريا، ليخرجوا بعد 12 عامًا من المعتقل في عام 1954، وقد وفرت لهم مواهبهم في لعب الكرة وشهرتهم الحماية من العمل الشاق في المعسكر، حيث كان بعض السجناء وحتى الحراس يزورونهم يوميًا لدعمهم.
يكتب ميكائي كوريا "نجا آل ستاروستين من جحيم المعسكرات السوفييتية بهذه الطريقة، وذلك بفضل الشعبية الهائلة لسبارتاك و'بفضل طريقة بسيطة لقول لا' امتدت إلى حدود مع معسكرات سيبيريا".
أي إلهاء؟
لطالما سدد المتدينون سهام نقدهم المنهجي لكرة القدم مستهدفين جماهيرها، قولهم الدائم إنها ملهاة، تعطل التضرع إلى الله وتنهى عن ذكره، لكن ما أن انعقد المونديال في دولة إسلامية، رأى الدعاة أنها فرصة للتعريف بالإسلام وقيمه، ولم تعد كرة القدم تنهى عن الصلاة.
ربما يتغير الموقف في المونديال القادم، لكن المشجعون حتى الآن في معية الله في الدوحة!
ثمة معضلة جدلية في الحديث عن الكرة بوصفها إلهاءً. الدول الشمولية صاحبة الأيديولوجيات الفاشية والقومية، تتخذها ذراعًا قوية لآلتها الدعائية، سواء في مزيد من السيطرة على الجماهير أو في دفع أفكارها إلى الآخر وإلى العالم، مثلما فعلت إيطاليا الفاشية في مونديال 1934.
لكن هناك أيضًا مدرجات الجماهير بقوتها الإنسانية الكبيرة، منها هاجموا الفاشية في مناسبات رياضية عدة، وفيها رفرفت أعلام الجزائر المستقلة ضد المحتل الفرنسي، وارتفعت الهتافات المؤيدة لفلسطين مثلما قال محمود درويش "سنصير شعبًا حين لا يتذكر الفلسطيني رايته سوى في ملعب الكرة"، وفي المدرجات نفسها صنعت الآلهة، سقراط ومارادونا وبيليه.
كرة القدم أكبر من مجرد إلهاء أو دعاية، وهي حتمًا ليست وحدها في الملعب.