بالنسبة لي يعبر اسم فيلم خلطة فوزية لمخرجه الكبير مجدي أحمد علي وبطولة إلهام شاهين، عن توصيف للتوليفات التي لا يمكن لها أن توجد في محتوى واحد لتنافر عناصرها وتناقضها، لكنها مع ذلك تنجح في تقديم نموذج مختلف، كالاستثناء الذي يثبت القاعدة.
وأفضل مثال ما نشهده اليوم على ذلك هو مونديال قطر، ولم تعد كرة القدم مجرد لعبة تتنافس فيها الفرق على تسجيل الأهداف وإدخال الكرات في شباك الخصم. ولم تعد البطولات مجرد حدث رياضي ننتظر في نهايته تتويج الأبطال بكأس أو ميدالية. ورغم سحرها كلعبة بعيدة عن أي "ألعاب" تدور حولها ومعها، فإنها أصبحت اليوم أكثر سحرًا للمراقب مع كل المعارك الأخرى فوق ملاعبها الخضراء، في خلطة جمعت كل الأضداد.
ربما لم يتوقع صموئيل هنتنجتون المفكر السياسي الأمريكي، أن تتحول ساحات كرة القدم ملعبًا لنظريته حول صراع الحضارات، التي استشرف فيها أن الصراعات البشرية المقبلة لن تكون بين القوميات والأيديولوجيات التي طبعت الحرب الباردة، ورأى أن الاختلافات الثقافية ستكون المحرك الأساسي للنزاعات البشرية المقبلة.
وبعيدًا عن الجدل الذي أثارته النظرية ولا تزال، يكفي أن ننظر إلى الصراع الثقافي الذي يجسده كأس العالم في دورته الحالية، ويجري تأطير وبروزة المحددات المميزة بين "النَحنُ والهُم". دولة عربية إسلامية تستضيف البطولة للمرة الأولى في تاريخ اللعبة، مع ما فرضه ذلك الاختيار من تعديلات لم تقتصر فقط على موعد إقامتها قبيل الشتاء، كاستثناء غير مسبوق، ليتناسب مع طبيعة المناخ في الدولة المضيفة، بل يمتد إلى كل المحاذير الأخرى التي شاءت قطر أن تضعها كشروط للوافدين إليها أثناء البطولة وأن تقدِّم نفسها ممثلة عن دول المنطقة وثقافتها.
بغض النظر عن قبول شعوب المنطقة ودولها لذلك التمثيل، لكن هذا هو الأمر الواقع، دولة خليجية غنية ذات نفوذ إقليمي وعالمي باستثماراتها التي تمتد من مشرق الأرض إلى مغربها، استطاعت أن تفرض ثقافتها من خلال ذلك الحدث الذي يضعها تحت المجهر. مجهر يرانا العالم كله من خلاله شئنا أم أبينا.
الخلطة الاجتماعية
لا شك أن القدرات التنظيمية الهائلة محل إعجاب وإشادة، والحقيقة أن ذلك أضعف الإيمان، أن تقدم قطر نموذجًا تنظيميًا أعلى حتى من سقف التوقعات. لكن هنا نعود لخلطة فوزية، والسؤال حول فهم فلسفة الحدث الكروي وجمهوره. هل تعني المبالغ المليارية التي صُرفت على البنية التحتية والاستادات والفنادق شيئًا لجمهور كرة القدم حول العالم؟
هل يتمكن ذلك الجمهور من شغل غرف الفنادق الفخمة؟ أم هو جمهور يتماهى مع لعبته الشعبية خريجة الأزقة والحواري؟ وهل يعنيه الطهاة العالميين والمطاعم ذائعة الصيت، التي تعجز ميزانية عشاق كرة القدم عن مجاراتها. وهو جمهور يفضل عادة سندوتش هوت دوج وزجاجة بيرة في مسرح احتفالاته وانفعالاته المفضل لديه؛ الشارع.
وحتى مع ضيق حيز الحركة، محاذير كثيرة فُرضت أيضًا على هذه المساحة
الشارع الذي لا يلعب دورًا أصلًا في الحيز الاجتماعي في المجتمع القطري والخليجي عمومًا، أولًا لعدم توافر العوامل المناخية. ثانيًا، لطبيعة المجتمع المحافظة، التي لا ترى في الشارع مكانًا للاجتماع والتفاعل كما في مدن عربية أخرى مثل بيروت أو القاهرة وغيرها. حتى مع ضيق حيز الحركة، محاذير كثيرة فُرضت أيضًا على تلك المساحة، التي من المفترض أن تكون معدّة لاستقبال مئات آلاف المشجعين على اختلاف منابتهم الثقافية لبضعة أسابيع، التي لن تشكل خطرًا على ثقافة البلد المضيف.
لكن قائمة الممنوعات والعقوبات والمحاذير التي وضعها البلد المضيف تدل على عكس ذلك. فالمجتمعات التي تمتلك ثقافة قوية وراسخة ومنيعة في وجه الدخيل عليها، لا تحتاج حقًا إلى كل تلك اللوائح والتأكيدات، ولا يجب أن تشكل الأحداث العابرة خطرًا حقيقيًا عليها.
فما الخطر الحقيقي الذي ستشكله شارة على ذراع لاعب الكرة للدفاع عن حق مجموعة من الناس في التعبير عن أنفسهم مثلًا؟ برأيي، الثقافة التي تحاول قوائم الممنوعات التأكيد عليها في ذلك المضمار، هي ثقافة ضد أي مغاير حتى لو لم يشكل خطرًا عليها.
وهي ربما لعبة توازنات شديدة الدقة بين ما تتطلبه شروط الحداثة والتواجد على ساحتها، وما يتطلبه التوازن الداخلي للمجتمع والسياسة في البلد المُضيف. في محاولة لإرضاء كل الأطراف من خلال توليفة خاصة جدًا فيها شيءٌ من كل شيء. قليل من الانفتاح وقليل من المحافظة، والكثير الكثير من مظاهر البذخ التي تفوق متطلبات الحدث.
جميل الحفاظ على الخصوصيات الثقافية لكل مجتمع، وأن تدافع الثقافات عن تمايزها في وجه مد الثقافة الواحدة، لكننا هنا لا نتحدث عن طراز معماري أو موضة ملابس أو نوع موسيقى، بل نتحدث عن معايير يسير العالم اليوم باتجاه توحيدها، في حق الإنسان لاختيار شكل حياته دون أن يهدِّد حياة غيره. حق الإنسان في ألا يُقتل لمجرد هويته الجنسية أو الدينية، مفاهيم أكثر آدمية من نشر الدعوات الدينية، وتخص الإنسانية في عملية ارتقائها وإعلائها لقيم واحدة يجتمع البشر عليها.
وللمفارقة، فالأموال الطائلة المبذولة لا تستطيع أن تقف سدًا دون عملية التثاقف، التي يكون فيها البقاء للأنسب وليس للأقوى. الأقوى اليوم هو من يستطيع تسخير كل إمكانياته من أموال ونفوذ وسلطة لفرض رؤيته على العالم، لكن الأنسب هو ما يختاره العمران البشري لصالح بقائه واستمراره. وإذا كانت فوزية نجحت في خلطتها السحرية في الجمع بين متناقضات حياتها، لأنها أعلت القيمة الأكبر بالنسبة لها، وهي بقاء أسرتها في نموذج استثنائي.
أشك أن يستطيع المونديال تقديم خلطة قابلة للاستمرار، فهي عملية مرتجلة أخرجت حدثًا فريدًا من حيث القدرة على الإبهار في ظاهره، لكنه يعكس وعيًا متشظيًا لمفهوم الحداثة، وتناقضًا بنيويًا في فهم تطور المفاهيم الإنسانية وطبيعتها، خلطة لا تستطيع الصمود طويلًا بوجه الواقع.
هذا الكلام ليس تقليلًا من أهمية الحدث الكروي، ولا انتقاصًا من فرحة الناس بإقامته على أرض عربية، بقدر ما هو دعوة للقراءة المتأنية في التفاصيل التي اجتمع عليها، ولاعتباره مادة غنية للدراسات الاجتماعية في نموذج يجسِّد على بقعة صغيرة كل التناقضات التي يعج بها عالمنا اليوم، في شرقه وغربه.