هل وحدة الشعوب العربية في دعم الفرق العربية وكذلك الإفريقية في كأس العالم ظاهرة جديدة؟ لا، لكننا ننسى. فوسط فقر وحروب ومجاعات وواقع مزرٍ وتاريخ طويل من الاستعمار والاستغلال من المستعمر الأبيض، لا يوجد مجال للمنافسة والتفوق أحيانًا في مواجهة الكبار الأغنياء من دول العالم سوى عبر كرة القدم التي تحظى بشعبية واسعة.
وعندما تتنافس دول لها تاريخ طويل من الحروب أو النزاعات، تتحول مواجهاتهم الكروية إلى ملحمة وطنية تتجاوز بكثير كون كرة القدم في الأساس رياضة غرضها الرئيس الاستمتاع بفنون اللعبة وإمكانيات اللاعبين.
بداية كانت مشكلة الدول العربية والإفريقية ضعف تمثيلها في كأس العالم من الأساس مقابل هيمنة أوروبا وأمريكا اللاتينية على المنافسة. فالإنجليز، مثلًا، ورغم أنهم دولة واحدة تحت مسمى المملكة المتحدة، لهم أربع فرق تتنافس في التصفيات المؤهلة لنهائيات الكأس: إنجلترا وويلز واسكتلندا وأيرلندا. وفي النسخة الأخيرة في قطر، كان هناك فريقان للمملكة المتحدة؛ إنجلترا وويلز، في مجموعة واحدة مع إيران والولايات المتحدة.
وتبلغ حصة الدول الأوروبية 13 فريقًا من بين 32 كانوا يتنافسون في البطولة حتى نسخة قطر، أي أقل من النصف بقليل (40%)، لكن هذه النسبة ستقل مع رفع عدد المشاركين إلى 48 بدءًا من البطولة المقبلة لتصبح 16 فريقًا (33%).
أما "الدول العربية" فهي غير موجودة أصلًا كمجموعة جغرافية في تقسيمات فيفا، وتحتسب ضمن الحصتين المخصصتين لقارتي إفريقيا وآسيا. وحتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، كانت الفرق العربية شبه غائبة عن المنافسات، ولو تمكن فريق عربي واحد أو اثنين من الوصول للبطولة، فكان ذلك يعد إنجازا كبيرًا.
ونظرًا لتراجع الكرة الآسيوية عمومًا وعدم الاعتداد بفرقها كمنافسين حتى وقت قريب، كانت الدول "العربية" التي تتأهل للتصفيات عادة من شمال إفريقيا: المغرب والجزائر وتونس، ونادرًا مصر. السعودية فقط تمكنت من إثبات قوتها في القارة الآسيوية، وتمكنت من الوصول للنهائيات ست مرات.
كانت أول كأس عالم أتابعها بوعي في سن الطفولة تلك التي جرت في الأرجنتين عام 1978 وكنت مغرمًا بنجمها الشهير ماريو كيمبس بشعره الطويل الذي يصل لكتفيه. في ذلك الوقت توحدت كل الدول العربية لتشجيع منتخب تونس ونجمه الشهير طارق ذياب. وفي 1982، شجع العرب بجنون المنتخب الجزائري في كأس العالم التي أقيمت في إسبانيا، خاصة بعد أن حقق إنجازًا كبيرًا غير متوقع بفوزه على ألمانيا الغربية في ذلك الوقت بهدفين مقابل هدف تحت قيادة نجمه التاريخي رابح ماجر.
ملخص مباراة الجزائر وألمانيا الغربية في مونديال 1982
كما شجعنا منتخب المغرب بحرارة عام 1986 بعد أن أصبح أول منتخب عربي يتأهل إلى الدور الثاني عندما تصدر مجموعته التي ضمت إنجلترا والبرتغال وبولندا.
وانحازت جماهير الدول العربية كذلك إلى الفرق الإفريقية مثل الكاميرون ونيجيريا وغانا في بطولات كأس العالم على اعتبار أنها فرق تمثل القارة الفقيرة المضطهدة التي خضعت مثلهم للاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي.
واكتسب النجم الكاميروني روجيه ميلا على سبيل المثال شعبية واسعة خاصة بعد أن تمكن فريقه من الوصول إلى ربع نهائي كأس العالم في إيطاليا عام 1990 في إنجاز كان الأول للقارة السمراء.
وهو العام الشهير الذي تمكنت فيه مصر من الوصول لكأس العالم لثاني مرة منذ 1934، وكلنا نحفظ عن ظهر قلب هدف مجدي عبد الغني الذي ضمن التعادل مع هولندا، والهزيمة من إنجلترا والتعادل مع الأيرلنديين الذين جعلنا مدربهم يعلن أن ما نقدمه ليس كرة قدم بعد أن طبق منتخبنا خطة إقامة سد المدرب محمود الجوهري المنيع على خط الدفاع مع عدم التقدم للهجوم طوال المباراة في محاولة لتفادي الهزيمة.
ومشكلة فرق شمال إفريقيا "العربية" أنها مغضوب عليها، فلا الأفارقة يعتبرونها إفريقية ولا هم يعتبرون أنفسهم أفارقة غالبًا. تعرفت قبل سنوات على صديق من زيمبابوي يعلق على حائط غرفته خارطة لقارةٍ إفريقيةٍ منقوص منها كل دول شمال القارة. سألته "أين شمال إفريقيا؟ نحن أيضًا أفارقة!" نظر لي بغضب وقال "لا. لستم أفارقة. أنتم لستم سودًا". كما أن سمعتنا جنوب الصحراء أننا متعالون وعنصريون تجاههم، بجانب ما يقولون إنه تاريخ طويل للعرب في الاتجار بالعبيد من إفريقيا.
ومع الإنجاز الرائع الذي حققه المغرب في البطولة الأخيرة في قطر، تفجر جدل من نوع آخر يعكس ما طرأ على منطقتنا العربية من تغيرات في السنوات العشر الأخيرة، وتحديدًا منذ ثورات الربيع العربي والحديث بانفتاح أكبر عن قضايا الأقليات والقوميات والهويات.
أنصار القومية العربية احتفلوا بالتشجيع العارم الذي حظى به المنتخب المغربي، ورأوا في ذلك دليلًا قاطعًا أن "القومية العربية" ما زالت حية ونابضة في قلوب الملايين رغم كل الاتفاقيات الإبراهيمية والتطبيع مع العدو الإسرائيلي وانهيار دول رئيسية مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن.
لكن مقابل ذلك عكَّر شعور القوميين والناصريين بـ "انتصار العروبة" تعليقات مغاربة على السوشيال ميديا يرفضون فيها ذلك السعي للاحتفاء بإنجازهم، باعتباره إنجازًا "للعرب"، قائلين إن غالبية المغاربة ليسوا عربًا من الأساس، بل أمازيغ، كما هو حال الجزائر.
كما استغرب رواد آخرون، خاصة من مصر، التعامل مع انتصارات المنتخب المغربي على أنه انتصار للعرب، مع الوضع في الاعتبار أن معظم لاعبي المنتخب المغربي يعيشون في الدول الأوربية ويلعبون في فرقها الكبرى مثل باريس سان جيرمان وتشيلسي وبرشلونة، والكثير منهم لا يتحدث سوى الفرنسية أو الإسبانية.
ونعرف كذلك تهكم المصريين على اللهجات المغاربية عمومًا وكيف أنها صعبة الفهم مقابل اللهجة المصرية السلسلة التي تحظى بشعبية واسعة في كل العالم العربي عبر إنتاج ضخم من الأفلام والأغاني وروائع الأدب. وأصحاب تلك التعليقات أنفسهم لا يرون المصريين عربًا من الأساس، بل فراعنة متفردين متميزين منذ الأزل، ولذا فأي إنجاز قد نحققه يخص المصريين فقط وليس العرب، وطبعًا ليس الأفارقة.
الإعلام الأمريكي والأوروبي كان يشير إلى المغرب على أنه ممثل للقارة الإفريقية، وليس كواحد من الدول العربية، التي لا يعدها الغرب كيانًا مستقلًا من الأساس ويتعامل مع القومية العربية على أنها اختراع ظهر ونما في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وتلاشى إثرها.
حتى في القمة الصينية-العربية الأخيرة (وكان هذا اسمها الرسمي) قالت نيويورك تايمز إن الرئيس الصيني تشي جين بينج عقد عدة قمم مع "قادة دول عربية وإفريقية" وذلك على اعتبار أن تقسيم الصحيفة الأمريكية للعالم لا يعتبر السودان والصومال وجيبوتي وجزر القمر دولًا عربية من الأساس.
وباستثناء السودان بعد انقسامه عن الجنوب الذي كان يرفض أهله الحديث بالعربية ويصرون أنهم أفارقة فقط، هل ترى شعوب الصومال وجيبوتي وجزر القمر أن هويتهم عربية حقًا؟
الحقيقة المؤلمة التي سنفيق عليها في اليوم التالي لفوز الأرجنتين بكأس العالم واحتفالات قطر بالتنظيم "العربي-الإسلامي" المهيب هي أنه إذا كان حديث الهويات والعروبة التهب بفعل منافسات كأس العالم كما جرى في دورات سابقة، فإن الأحزان والانقسامات والحروب العربية التي تجمدت نسبيًا أثناء البطولة ستعود للسطح سريعًا.
ستفترس الحكومة الإسرائيلية المتطرفة الجديدة الفلسطينيين وتعمل فيهم جرائم القتل والاستيلاء على الأرض، وسط اكتفاء بذرف الدموع من العرب الذين أصابهم إنجاز المغرب بالنشوة وذكرهم بأغنية أمجاد يا عرب أمجاد.
ويعود المغرب لخلافه التاريخي مع الجزائر بسبب قضية الصحراء الغربية التي يطالب سكانها بالاستقلال بينما تتمسك المملكة بها جزءًا لا يتجزأ من أراضيها وستبقى الحدود مغلقة بين البلدين. ومشاعر العروبة التي هيجها كأس العالم لن تمحو الخلافات بين السوريين واللبنانيين، ولا استباحة الأراضي السورية من كل جيرانها ودول العالم، ولا استمرار الديكتاتور بشار الأسد في قتل شعبه بدم بارد.
كما لن تنتهي الحرب الأهلية في اليمن بين الحوثيين وحكومة عدن المدعومة سعوديًا، وستتواصل الخلافات الشيعية-السنية والشيعية-الشيعية في العراق. ولن يرفع القطريون والبحرينيون أياديهم متشابكة بعلامة النصر، كما لن تتخلى حكومة طرابلس في ليبيا عن اعتراضها على قرار مصر ترسيم حدودها البحرية من دون تشاور مسبق.
هذا هو حال العروبة والعرب والعالم العربي الآن، حتى لو كان المغرب حقق المعجزة الأكبر وفاز بكأس العالم، وسواء كان عربيًا أم أمازيغيًا. الحقيقة المُرة هي أننا عرب أثناء كأس العالم فقط، مرة كل أربع سنوات. أما الهويات فتبقى منقسمة داخل كل دولة على حدة، وبين دول ما كان يسمى قبل عقود بـ "العالم العربي".