"الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم، باستثناء كل الأشكال الأخرى التي تمت تجربتها" هذه المقولة الشهيرة عن مساوئ النظام الديمقراطي قالها ونستون تشرشل، الذي قاد بريطانيا خمس سنوات للنصر في الحرب العالمية الثانية، وبمجرد تحقيقه عام 1945 خسر حزبه الانتخابات أمام حزب العمال.
عاد تشرشل للحكم بعد خسارته بست سنوات، لكنه انسحب من الحياة السياسية بعد أربع سنوات، لأن وقت السلم، لا يجمع الناخبون على سياسة أو زعيم.
تجعل الديمقراطية البلد دائمًا غارزًا في الوحل، لكنها تحول دون أن يغرق!
باقة الديمقراطية
يأتي مع الديمقراطية صداع وانقسامات وشد وجذب ثمنًا لحرية الرأي واختلاف الرؤى بين المحافظ والمتغير، الرجعي والتقدمي، رفاهية الفرد مقابل رفاهية المجتمع، وغيرها من مفاهيم تطرح للنقاش وينتخب الناس بنزاهة وحرية مَن يقتنعون بإنجازاتهم الفردية/ المحلية لينفذ هؤلاء إنجازات على مستوى أعلى.
بالتالي، لن تجد في انتخابات نزيهة بمجتمع ديمقراطي زعيمًا ملهِمًا عليه إجماع وطني، أو حزب يحتكر الانتماء "الوطني" أو "مستقبل" بلد. ولن يفوز رئيس جمهورية أو نائب برلمان بأرقام تتجاوز الـ60%، فالمعهود هو أغلبية بسيطة لا تصل الثلثين!
تعوَّد الأمريكيون كلما انتخبوا رئيسًا، ألا ينتظروا انتهاء فترته ليغيروه أو يعبروا عن ضيقهم. بل يسرعون في نصف فترته، أي في انتخابات الكونجرس والمحليات التي تُجرى كل سنتين، لمعاقبة حزب الرئيس لما قد يرونه من بطء مسيرة الإصلاح مقارنة بالوعود التي أطلقها خلال حملته الانتخابية. ويبدأ الناخبون الندم على اختيارهم أو شرائهم (كأنه سلعة) ذلك السياسي دون منافسه، وهو ما يُسمى "ندم المشتري"!
لذا يأتي تصويتهم في الانتخابات النصفية، سواء في الفترة الأولى أو الثانية، رسالة إنذار للرئيس حتى لا يظن أن معه تفويضًا بلا قيود، ولا أنهم تركوا له الحبل على الغارب، أو تورطوا فيه، حتى لو كان انتخابهم له نكاية في منافسه!
القاعدة إذن، باستثناءات بسيطة، أن يخسر حزب الرئيس أغلبيته أو بعضها في مجلس النواب أو الشيوخ، أو كليهما.
لا يهم وقتها سن الرئيس، ولو كان أكبرهم سنًا مثل بايدن، أو أصغرهم وربما أطيشهم، مثل بيل كلينتون الذي واجه اكتساح الجمهوريون للكونجرس عام 1994 بعد عامين من انتخابه، وأجبروه على التحول يمينًا في تشريعات جائرة لمكافحة الجريمة، لم تسامحه عليها حتى الآن قاعدة الحزب من الأمريكيين الأفارقة!
لم يكن الرئيس الجمهوري دونالد ترامب استثناءً. فبعد عامين من انتخابه عام 2016 سيطر الحزب الديمقراطي على أغلبية مجلس النواب، وحافظ الجمهوريون على أغلبيتهم في مجلس الشيوخ.
وهو ما يتكرر الآن مع الرئيس الديمقراطي بايدن. تشير النتائج الأولية لانتخابات التجديد النصفي أن حزبه فقد أغلبيته البسيطة في مجلس النواب، التي لم تكن تتجاوز تسعة أعضاء عن النصف، من مجموع 435 نائبًا. بينما كسب حزبه مقعدًا أو اثنين فوق النصف في مجلس الشيوخ المكون من مائة عضو.
سيستخدم كل حزب صلاحيات المجلس التشريعي الذي حصل على أغلبيته لتعطيل أجندة الرئيس فيما تبقى له من فترة، أو لمحاسبته أو محاكمته بعد اتهامه برلمانيًا، لاختلافهم مع سياساته وممارساته.
مثلًا، بيد مجلس النواب توجيه اتهام رسمي للرئيس بانتهاك القانون أو الفساد أو الخيانة، بينما يملك مجلس الشيوخ المخوَّل بمحاكمة الرئيس برلمانيًا صلاحية الإدانة أو التبرئة. يمكن إذن توقع توجيه مجلس النواب، بأغلبيته الجمهورية بعد الانتخابات الأخيرة، الاتهام لبايدن بدعوى أن ابنه هانتر تورط في فساد وتعاملات مع أوكرانيا منذ عهد ترامب.
ولو فعل الجمهوريون ذلك، ولو بهدف التشويش على بايدن وحزبه في انتخابات الرئاسة بعد عامين، فيمكننا توقع تبرئة الأغلبية الديمقراطية البسيطة بمجلس الشيوخ للرئيس وابنه بعد المحاكمة البرلمانية.
هذا ما حدث مع ترامب بعدما حصل الديمقراطيون على أغلبية مجلس النواب في عهده، واتهم رسميًا بالتواطؤ مع حملته الانتخابية والسماح للروس بالعبث بالعملية الانتخابية لصالحه، فبرأه مجلس الشيوخ من تلك التهم.
وسبق أن حاول الجمهوريون في التسعينيات عزل كلينتون أثناء سيطرتهم على مجلس النواب، لكن حزبه المسيطر على الشيوخ برأه من اتهامات كذبه وحنثه باليمين بأنه لم يكن على علاقة جنسية مع مونيكا لوينسكي المتدربة بالبيت الأبيض!
وبالمثل عطّلت الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ترشيح أوباما أحد القضاة للمحكمة الدستورية، حين خلا مقعد من مقاعدها التسعة، لكنهم سمحوا لترامب بمجرد توليه الرئاسة بتعيين قاضٍ، وبعده اثنين، ليتمكن من تعيين ثلاثة قضاة (مدى الحياة) محافظين، بجانب ثلاثة قبلهم من المحافظين أيضًا، بمجموع ستة في مقابل ثلاثة ليبراليين/ تقدميين.
وأدى هذا لتراجع المحكمة عن حكمها السابق قبل نصف قرن بحرية الإجهاض، الأمر الذي استخدمه الديمقراطيون في انتخابات هذا العام لتخويف الناخبين، خصوصًا النساء، من مخاطر عودة اليمين المحافظ.
وكما أعلن بايدن، فإن عدد من خسروا مقاعدهم من حزبه في انتخابات نصف فترته الرئاسية الأولى كان الأقل على مدى أربعين سنة مقارنةً بأي رئيس ديمقراطي قبله!
يظن بعض حكامنا العرب أن باستطاعتهم لعب دور سياسي حزبي داخل أمريكا، بدفع مال أو حجب نفط أو موالاة جماعة ضغط أصبحوا موالين لقومها. ويظن نفر منهم أنه يساهم في تغيير الحاكم الذي يضايقه شخصيًا، وليس قوميًا، بإثارة غضب الناخب الأمريكي على حكومته بسبب الغلاء، عله يأتي بحزب الحاكم السابق.
لم تأت نتائج انتخابات النصف الأمريكية بجديد لجماعتنا من محدثي الديمقراطية، الذين اعتقدوا أن بإمكان أموالهم تغيير حكام شعوب أخرى، ويا حبذا لو كان الحاكم الجديد من متضخمي الذات وكارهي الإعلام والمشككين في أي انتخابات لا تبقيه في السلطة، ولا تجعل أبناءه وأصهاره هم مستشاريه دون غيرهم.
يجب أن يعلم هؤلاء أن المراهنة تكون على كسب الناخب وليس عقابه على اختياره حاكمه. إن دعم بعض العرب لليمين العنصري في أمريكا أو أوروبا رهان خاسر، وضد علاقاتهم الأقوى والأبقى مع الأقليات والملونين والشباب والجامعيين ممن يريدون لبلدهم العدالة في سياساتها الداخلية والخارجية.
كما يجدر بشعوبنا أن تخرج من مثل هذه الانتخابات، في أمريكا وأوروبا وضوضائها ومشاحناتها، بدرس لبلادنا مفاده:
إن توزيع وتوازن السلطة والفصل بينها؛ تشريعية وتنفيذية وقضائية يعطل من سرعة تنفيذ أجندة أي حاكم أو حكومة، مهما كانت روعة الفكرة التي يأتي بها الحاكم سواء بإلهام أو بمشورة، ويبطئ مسيرة الإصلاح وسير دولاب الحكومة، ويعطي صورة مزعجة أحيانًا وصاخبة دائمًا عن مسيرة هذا البلد ومدى انقسام سياسييه وحكامه ومحكوميه.
لكنه توازن وتشاحن ومعارضة وفضائح تحول دون استيقاظ الشعب بعد أربع أو ثماني سنوات على "حكم الفرد"، الذي بلا منازع، ليجد نفسه بأخطائه الجسام المتراكمة في الضياع، وبعد أن استفحل الخطأ وتراكمت الديون أو التجاوزات يصعب اصلاحها أو إنقاذ القارب.
هذا ما كان يعنيه تشرشل بنقمة الحكم الديمقراطي ونعمته: ستظل أقدامك في الماء والوحل لكنك لن تغرق. فهناك من سيمنعك من جر البلد بأكمله لحافة الهاوية، حين يرفع صوته معارضًا في الصحافة أو البرلمان أو الشارع.
"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".