في يوليو/ تموز عام 1999 عُثر على جثة في أرض مزروعة بالنجيل في إحدى قرى الجيزة. كانت الجثة مغطاة بالذرة، ووصلت إلى مرحلة الانتفاخ، وهذا يعني أنه قد مر عليها ثلاثة أو أربعة أيام "كان لون الجلد بني مخضر، وهناك شحوب واضح على الجثة، وكان دور الحشرات إنها تصدق على تاريخ الوفاة". يحكي هذه القصة مصدر بمصلحة الطب الشرعي، فضل عدم ذكر اسمه لاعتبارات تتعلق بوظيفته.
"كانت درجة الحرارة في المنطقة 27 درجة مئوية، وعندما حصلنا على عينات من الجثة والجمجمة، وجدنا بعض الذكور البالغة من ذباب Sarcophaga، وعينات أخرى لحشرة Macellaria، بالإضافة إلى يرقات في الطور الثالث، خاصة في منطقة الجمجمة".
يوضِّح المتخصص في علم الحشرات الجنائي "نعرف أنّ عملية وضع البيض تحدث بشكل متكرر بعد مرور ما يزيد عن 12 ساعة من الوفاة؛ ومنها نُقدر الحرارة المتراكمة، والتي نعرف فيها درجات الحرارة، ومنه تقدير فترة ما بعد الوفاة، والتي كانت تتراوح بين 4 إلى 4 أيام ونصف بالضبط، ونستند في ذلك إلى مراحل نمو اليرقة لذبابة".
تطرح القصة السابقة بعض التساؤلات حول الغموض الذي يحيط بأسباب وجود متخصصين في علم الحشرات الجنائي في مسرح الجريمة. والحقيقة أنّ الحشرات لديها ما ترويه لنا؛ فهي أول شاهد على الحادث، وتصل إلى مسرح الجريمة في غضون دقائق أو ساعات من الوفاة.
يهتم علم الحشرات الشرعي باستخدام الحشرات أو المفصليات في التحقيق الجنائي، ودراسة الحشرات والشكل الظاهري لليرقات وتاريخ نموها وتوزيع الأنواع والمحتويات السامة في أنسجتها، إذ تنجذب الحشرات في مراحل حياتها الأولى إلى جسم الجثة المتحللة، وهناك تضع البيض، ويأتي دور علماء الحشرات عبر دراسة مراحل تطور اليرقات إلى أن تصير حشرة كاملة، ومن هنا يستطيع علماء الطب الشرعي معرفة تفاصيل الوفاة.
بداية الحكاية: تلك الذبابة التي كشفت القاتل
في القرن الثالث عشر، كانت هناك حادثة مروعة في إحدى القرى الصينية، عندما وُجدت جثة لفلاح بالقرب من حقل أرز، وكان الطب الشرعي يخطو خطواته الأولى ويجتهد المحققون في تتبع الأدلة؛ للكشف عن المجرمين.
وأول خطوة أجراها القاضي في تلك القضية هي التعرف على الأداة المستخدمة في الجريمة، ولما افترض، من هيئة الجرح، أن يكون منجلًا، طلب من الفلاحين المشتبه بهم أن يأتوا بمناجلهم عند ساحة البلدة، وبعدما تجمعوا، أمرهم بوضع مناجلهم على الأرض.
بدأ الذباب الأخضر الحركة نحو المناجل، وازدحم عند منجل بعينه، ولسوء حظ الجاني، فذلك الذباب ينجذب للأنسجة الرخوة وجزيئات الدماء، مهما كانت دقيقة لا تُدرك بالعين المجردة. ما فعلته تلك الحشرة كان كفيلًا بالكشف عن المجرم الذي اعترف بجريمته.
واستمرت الاستعانة بالحشرات في تقدير تاريخ الوفاة، إلى أن أعلن عالم الحشرات الألماني هيرمان رينهارد عن أول دراسة علمية منهجية في علم الحشرات الشرعي عام 1881، ما جعله مؤسس ذلك العلم.
كيف تتسلل الحشرات إلى الجثة؟
بمجرد موت الجسم، تبدأ عملية "التحلل الذاتي"، وفيها تعمل البكتيريا الموجودة في الجهاز الهضمي على تدمير الأنسجة الرخوة؛ فتُنتج بعض السوائل والغازات، وهناك جزيئات متطايرة، تتسرب من الجسم المتحلل، وتنجذب إليها الحشرات، تُسمى apeneumones.
عادة ما يُوضع البيض في فتحات الجسم الطبيعية والجروح، وعندما يفقس، تظهر اليرقات، وهي كائنات صغيرة جدًا. تنمو تلك اليرقات على 3 أطوار؛ حتى تصل إلى حجمها الكامل، وتتوقف عن التغذية، ثم تهاجر إلى منطقة أكثر جفافًا لتكوين الخادرة، وهو الطور الذي تنمو خلاله الحشرة لتأخذ شكلها الكامل، وفيها يكون الجلد صلبًا ويشكل غلافًا واقيًا، وفي النهاية تظهر الذبابة.
يشرح مصدرنا من الطب الشرعي أن أطوار الحشرات وأنواعها المختلفة، تواكب التغيرات الطارئة على الجثة، فعادةً ما يذهب الذباب نحو الجثة في الفترة الأولى، ثم تأتي المفصليات في المراحل الأخيرة من التحلل، "تمامًا مثل نمو الإنسان، مثلًا طفل أعرف أنه في KG2، بالطبع سأفهم أنّ عمره 5 سنوات، لكن طفلًا آخر في الصف الخامس، سأعرف تلقائيًا أنه في عمر العاشرة أو الحادية عشرة؛ فالأمر مرتَّب أو منتظم، ومن خلال شكل الحشرات التي تزور جثث البشر دائمًا، نعرف تاريخ الوفاة".
تشرح مراجعة منشورة في دورية جورنال أوف فورينسيك دينتال ساينسز، أن مراحل التحلل خمس، وهي:
- المرحلة الأولى: تبدأ لحظة الوفاة وتستمر ليومين حتى بداية انتفاخ الجثة، وخلالها يبدأ التحلل الذاتي، وتنهار الخلايا؛ فتنجذب الحشرات للمواد الكيميائية المنبعثة من الانهيار الخلوي خلال 10 دقائق من الموت.
- المرحلة الثانية: من اليوم الثاني إلى السابع، وهي مرحلة الانتفاخ ويزداد فيها تجمُّع الحشرات ذات الجناحين (Diptera)، وبحلول اليوم الرابع، تكون اليرقات موجودة.
- المرحلة الثالثة: تستمر إلى اليوم الخامس عشر، وفيها تنتهي مرحلة الانتفاخ. في المقابل، تكون اليرقات قد تغذت بما فيه الكفاية؛ ليزداد وزنها، وتغادر إلى الخادرة، لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها.
- المرحلة الرابعة: تستمر حتى اليوم الرابع والعشرين، تترك اليرقات الجثة، وتتبقى العظام والغضاريف والشعر وبعض الأنسجة الصغيرة، بالإضافة إلى كميات كبيرة من المواد اللزجة، وهي منتجات ثانوية للتحلل، تنشط عليها المفصليات.
- المرحلة الخامسة: تمتد حتى بعد اليوم التسعين من الموت، ويتبقى من الجثة العظام، مع قدر قليل من الغضاريف وتقل المنتجات الثانوية للتحلل، وبالتالي تقل أعداد الحشرات واليرقات حول الجثة.
وأغلب الحشرات التي يلاحظها المتخصصون في التحقيقات، هي:
- الحشرات ذات الجناحين (Diptera): وهي رتبة من الحشرات، تملك جناحين، ويُطلق عليها اسم "الذباب الحقيقي". وتنتمي إليها حشرة (Sarcophaga)، التي أشار إليها مصدرنا منذ قليل.
- الذباب المنفوخ (Calliphoridae): وتتمتع بألوان مميزة على البطن والصدر، مثل: اللون الأخضر والأسود والأزرق.
- الذباب المنزلي (Muscidae): صدرها رمادي، ولها أربعة خطوط على الظهر، ويبلغ طولها من 8 إلى 12 ملم. وهي أكثر الحشرات شيوعًا حول الجثث في حالات الجرائم.
يصل النوع الأول والثاني إلى الجثة في غضون دقائق بعد الموت، بينما يتأخر الذباب المنزلي إلى مرحلة انتفاخ الجثة.
كيف تساعد الحشرة في تحديد وقت الوفاة؟
عادةً ما يبحث المتخصصون في الطب الشرعي عن اليرقات الموجودة على الجثة؛ لتقدير ما يُسمى بـ"مؤشر ما بعد الوفاة"، وهناك طريقتان شائعتان:
1. مراقبة تتابع الحشرات على الجثة
عادةً ما تصل هذه الحشرات إلى الجثة خلال 24 ساعة من الوفاة، وأحيانًا خلال دقائق إذا كان هناك دم أو سوائل أخرى. بعض الحشرات لا تنجذب للجسم مباشرة، ولكنها قد تذهب لهناك لافتراس حشرات أخرى.
تُستخدم هذه الطريقة لتقدير زمن الوفاة من بضعة أسابيع إلى عام، بالإضافة إلى قدرتها على تحديد موسم الوفاة، ولكي تنجح هذه الطريقة يجب معرفة تعاقب هذه الحشرات مع التغيرات الموسمية في منطقة الحادث.
2. تحديد عمر اليرقات وتطورها
يمكن أن توفِّر هذه الطريقة تاريخًا دقيقًا للوفاة خلال يوم أو بضعة أيام بعد الوفاةـ وربما خلال الأسابيع القليلة التالية، وغالبًا ما تكون هذه اليرقات للذباب المنفوخ الذي يصل إلى مكان الجثة خلال وقت قصير من الوفاة. ويعمل المتخصصون في الطب الجنائي على تحليل هذه اليرقات من خلال:
يجب تحديد إلى أي نوع من الحشرات تنتمي هذه اليرقة، فهناك يرقات تعيش في المياه، وأخرى على اليابسة، وهذه التفاصيل مهمة جدًا في تحديد مكان مسرح الجريمة.
تستغرق هذه المرحلة وقتًا أطول عبر قياس طولها ووزنها الجاف، بالإضافة إلى تفاعل البلمرة المتسلسل (PCR)، لمناطق محددة من جينوم اليرقة، ثم مقارنة بياناتها مع البيانات المرجعية المُقدر مسبقًا لأنواع اليرقات المختلفة.
يعتمد معدل نمو اليرقة على درجة الحرارة المحيطة؛ وبمجرد الحصول على التاريخ الحراري لليرقات، يمكن مقارنتها بدرجات الحرارة في مكان الوفاة، وعليه تقدير مؤشر ما بعد الوفاة؛ الحشرات من ذوات الدم البارد، ما يجعل معدل تطورها يعتمد على درجة الحرارة، ما يؤدي إلى نمو أسرع.
يمكن تحليل أقدم مرحلة للحشرة على الجثة ودرجة حرارتها، والوصول من خلالها إلى مجموعة الأيام التي كانت فيها الحشرة تبيض على الجثة، وبالتالي تحديد فترة الوفاة. تساعد هذه الطريقة حتى تبدأ الحشرات البالغة في الظهور، وبعد ذلك، لا يمكن تحديد عمر الجيل الموجود، فيستخدم المتخصصون الطريقة الثانية.
ويشير مصدرنا من الطب الشرعي إلى أنّ الحد الأقصى للاعتماد على الحشرات في الطب الجنائي يختلف بحسب سبب الوفاة وطبيعة الجسم، فجثة الطفل تختلف عن البالغ، والنحيف عن السمين وهكذا.
وإن تحركت الجثة
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد؛ فالحشرات الموجودة على الجثة في موضع الحادث، تختلف عن تلك التي تظهر في حالة نقل الجثة بعد الموت، فهناك حشرات معينة تتغذى على الجثة في المياه، وأخرى تُقبل عليها على الأرض.
ويتضح ذلك من جريمة حصلت عام 1935، إذ ظهرت بعض الأجزاء من جثة لسيدة في نهر بالقرب من مدينة أدنبرة في اسكتلندا، وتم التعرف على هوية السيدة صاحبة الجثة، لكن تبقى معرفة القاتل، وأشارت الأدلة الجنائية إلى أنّ اليرقات الموجودة على الجثة في المرحلة الثالثة، ما يعني أنّ الحشرات وضعت البيض على الجثة قبل أن يُلقى بها في النهر، وهذا دلَّ على أنّ الجريمة تمت على اليابسة أولًا، ما ساعد على تحديد الجاني.
وإذا ابتلع الشخص المتوفى سمومًا أو أدوية، فإن يرقات الحشرات التي تتغذى على الجثة ستُراكم هذه السموم، وهذه طريقة فعّالة للكشف عن تلك السموم، عبر التحليل باستخدام بعض التقنيات مثل: الاستشراب الغازي أو استشراب الطبقة الرقيقة؛ فالسموم تؤثر على مراحل تطور اليرقات، وقد تسرِّع نموها. لذلك يلجأ لها المتخصصون في المراحل المتقدمة من التحلل أو الهيكل العظمي.