في الولايات المتحدة حيث تلعب شركات الدعاية والإعلان دورًا كبيرًا في تشكيل الرأي العام، يوجد تخصص يسمونه spinning للأخبار السيئة. والترجمة المباشرة لهذه الكلمة هي "غزل" أو تمرير الأخبار السيئة لكي تبدو وكأنها جيدة. وفي العامية المصرية نستخدم مصطلح "البرم" ونقول "مبروم على مبروم ما يلفش".
قد يكون البرم معقولًا أحيانًا ويمكن هضمه، لكنه في أحيانٍ أخرى يقترب من حدود المثل المصري القائل باستحالة صنع الشربات من الفسيخ.
ففي أعقاب غزو الولايات المتحدة واحتلالها للعراق في 2003، كانت خسائر الجيش الأمريكي البشرية تتصاعد ما بين قتلى وجرحى مع اشتداد المقاومة العراقية. لكن المسؤولين عن "برم" الأخبار السيئة في إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش كانت لديهم القدرة على تقديم الموضوع بشكل مختلف للزعم بأن استراتيجية البيت الأبيض كانت ناجحة.
فمثلًا يقولون في الـ power point presentation (استعراض المعلومات عبر البيانات والرسومات)، إن عدد الهجمات ضد القوات الأمريكية تراجع بمعدل 40%، ويتجاهلون حقيقة أن الهجمات كانت أكثر عنفًا فأوقعت عددًا أكبر من القتلى، ربما بمعدل الضعف.
معيار النجاح هنا أن تخرج عناوين صحف اليوم التالي بتراجع الهجمات، مع تأخير الكشف عن أرقام الخسائر البشرية في التقارير الإخبارية.
وفي مصر، لدينا خبراء في البرم لكن بنكهتنا المصرية الخاصة. ففي أعقاب قرار البنك المركزي الأخير تحرير سعر الصرف، وفقدان الجنيه لنحو 25% من قيمته للمرة الثانية خلال ستة شهور، وما يزيد عن 200 في المائة خلال ست سنوات منذ التعويم الأول في نوفمبر 2016، سرت حالة من الفزع والهلع بشأن تأثير ذلك على غلاء الأسعار والتضخم في بلد يعيش على استيراد الغالبية العظمى من احتياجاته الأساسية من غذاء وبترول وآلات وتكنولوجيا ومكونات إنتاج.
انطلقت برامج التوك شو واللجان الإلكترونية الداعمة للنظام في حملة، لم تقم فقط على الترويج للمزاعم الرسمية بشأن "فوائد" التعويم من قبيل السماح بزيادة حجم الصادرات وزيادة عدد السائحين وعودة ضخ المال في الاحتياطي النقدي عبر "الأموال الساخنة"، ولكن الأهم التشديد على ضرورة الاتكال على الله الذي لن يسمح لمصر العزيزة بالغرق أو العوز. وكان لافتا تكرار الرئيس السيسي في تصريحاته في الأسابيع الأخيرة ثقته أن "ربنا واقف في ضهري" وأنه لا يراعي في كل قراراته سوى الله سبحانه وتعالى.
ولاحظ المتخصصون في متابعة السوشيال ميديا تكرار الرسالة التالية مع فوارق بسيطة في الأرقام وكأن ذلك سيكفي لاخفاء أن المصدر واحد. "اللي رزقنا والدولار بـ 7 جنيه هو اللي رزقنا لما وصل 18 جنيه وهو اللي هيرزقنا لو الدولار وصل 100 جنيه. علمت أن رزقي لن يأخذه غيري فاطمأن قلبي". بينما يقول آخر "وفي السماء رزقكم وما توعدون. قلق غريب. يا جدعان اللي رزقنا والدولار بـ 5 جنيه هو اللي يرزقنا لو الدولار وصل ألف جنيه".
هكذا، مرة الدولار بسبعة، ومرة بخمسة، ومرة بـ 13، حتى لو كان مقابله مائة أو ألف أو عشرة آلاف، فإن الله معنا، والكل عارف إن الرزق من عند ربنا.
ثم يخرج علينا الشيخ التليفزيوني خالد الجندي بحديث تذوب له القلوب من فرط الإيمان والوطنية. يقول لا فض فوه "الجنيه عملة مستقلة لها سيادتها وكرامتها وكيانها. علينا ألا نربط العملة بتاعتنا بالدولار ولا الذهب، وإنما بإيماننا بالله. وكلما كان الإيمان قويًا بالله، كان الاعتماد على الله أنه ييسر الأرزاق ويخفض الأسعار ويصنع الاستقرار والحياة". الله أكبر!
حلقة برنامج الشيخ خالد الجندي التي دعا فيها إلى ربط سعر صرف الجنيه بالإيمان بالله لا بالدولار والذهب
فهكذا يجب أن يدار الاقتصاد؛ بالدعاء والابتهال لله، أو على طريقة تشجيع كرة القدم "وهنكسب بالمحبة، وهنكسب بالأخلاق".
الأمر إذن لا يتصل بالسياسات الاقتصادية، أو بتجنب تكرار أخطاء وقعت خلال السنوات الثمانية الماضية والعودة للمربع صفر أو ما هو أقل من الصفر، مع التصاعد المرعب في حجم الديون الخارجية حتى اقتربت من حد 170 مليار دولار.
وقبل أن تعترض على السياسات الاقتصادية وأولويات الانفاق على المشاريع القومية التي يكتم المصريين في أنفسهم أملًا أن يخيب الله شكوكهم، عليك أولا أن تفهم ما هي الدولة بكل تعقيداتها وقلة مواردها وجهازها البيروقراطي الضخم، بجانب المؤامرات الإقليمية والدولية.
المسألة لا علاقة لها بالفشل، رغم كل الشعارات الداعية الآن لإجراء إصلاحات هيكلية تجعل الاقتصاد المصري مُنتجًا بدلًا من الاعتماد الدائم على مصادر مالية عرضة للاهتزازات الإقليمية والعالمية، مثل السياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين في الخارج والأموال الساخنة التي سرعان ما تهرب مع أي أزمة.
كانت النوايا سليمة، لكن الله سبحانه وتعالى ابتلانا بالجائحة، ولم نكد نفيق منها حتى اندلعت حرب أوكرانيا وانقطعت واردات القمح وتضاعف ثمنه، كما تضاعف ثمن البترول وواردات أخرى.
كانت النوايا سليمة، أعددنا البنية التحتية وتوسعنا في الطرق والكباري والمدن الجديدة والقطارات السريعة والموانئ والمطارات بجانب أعلى ناطحة سحاب في إفريقيا وأكبر جامع وأكبر كنيسة من أجل استعادة هيبة الدولة في بلد يعاني أكثر من 30% من سكانه من الفقر، و6% يقبعون تحته. أصبح حالنا مثل مستثمر أنفق الملايين على تطوير فندق لاجتذاب الزبائن، ولكن لم يأتِ أحد.
أما لماذا بنينا فندقًا ينتظر الزبائن أو الرزق الإلهي، ولم نبنِ مصنعًا ينتج ما يمكن تصديره بانتظام بغض النظر عن التقلبات الدولية والإقليمية، فهذا سؤال يصعب على غير من يديرون شؤون الدولة الإجابة عنه، لأنهم العارفون ببواطن الأمور. وتبقى التوصيات الداعية لإعادة النظر في أولويات الإنفاق والاهتمام بالتعليم والصحة والتصنيع والزراعة، صادرة عن طلبة وأكاديميين لا يجيدون سوى التنظير.
الصورة ليست وردية، والأوضاع ستزداد صعوبة وفقًا لتوقعات الاقتصاديين في العالم خلال العام المقبل على الأقل، خاصة مع استمرار التصعيد بين روسيا والغرب.
وبجانب الإيمان بالله، ربما المدخل الأصح في الإقرار بالخطأ بدلًا من الضيق بالنقد واتهام الآخرين بالجهل، وتناسي دور القائد "الأيقونة" عند نقطة ما من التطورات التي شهدتها مصر في السنوات العشر الأخيرة.
لم يشفع للرئيس الفرنسي الراحل شارل ديجول دوره التاريخي في قيادة المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي، واضطر الرجل للاستقالة بعد أن خرجت المظاهرات اعتراضًا على سياساته. لم يقُل للفرنسيين كيف تجرؤون وتنسون دوري في إنقاذكم. كذلك مارجريت تاتشر التي تمكنت من استعادة قوة الاقتصاد البريطاني على مدى سنوات، اضطرت للاستقالة مع تزايد التبرم من سياساتها التقشفية.
أما بوش الأب فبعدما شهد الانهيار العظيم للاتحاد السوفيتي السابق وقاد تحالفًا دوليًا لتحرير الكويت، ظنَّ أن مهمته سهلة في مواجهة المرشح الديمقراطي الشاب بيل كلينتون. لكنه سقط، وفاز كلينتون لأنه وضع مصالح الناس الاقتصادية نصب عينيه بدلًا من الاكتفاء بالمجد الذي تحقق وشعارات التفوق الأمريكي.
المحك هو تلبية احتياجات المواطنين وتنفيذ الوعود. وعدنا الرئيس أن "نرى العجب" خلال عامين بعد توليه منصبه، ثم طلب عامين إضافيين، وبعد ذلك اختفت مواعيد تحقق الرخاء، وتحولت إلى مطالبة بالصبر والتحمل والمزيد من الصبر والتحمل، كما تحمل المصريون بين احتلال سيناء في 1967 وتحريرها في 1982. لم يعد المطلوب الصبر عامًا أو اثنين أو ثلاثًا، بل 15.
لا يمكن صنع الشربات من الفسيخ. الوضع صعب ونحتاج إصلاحات حقيقية وهيكلية للاقتصاد المصري، لا مجرد إصلاحات مالية نجد معها أنفسنا مضطرين للاقتراض كل عدة سنوات مع كل أزمة إقليمية أو خارجية.
نحتاج سعة صدر من حكامنا ومشاركة في اتخاذ القرار رغم الإدراك الكامل لصدق النوايا مع الاختلاف في الوسائل. المصريون يأنون من غلاء الأسعار، ويحتاجون بالفعل لمن يحنو عليهم.