يمثل خطاب الرئيس السيسي في افتتاح المؤتمر الاقتصادي بالعاصمة الإدارية تحولًا في "فلسفة" خطابه السياسي، من مطالبة الشعب بالتحمل في انتظار نقلِه الدولةَ إلى وضع أفضل، إلى مجرد الاعتزاز بفضيلة هذا الشعب في التحمل، إلى ما لا نهاية، فقط من أجل حماية الدولة من الضياع، كما حدث لدول حولها.
لم يعُد الرئيس يعِد بشيء، كجعل مصر "قد(ر) الدنيا" مثلًا، بل أصبح يُنكر حتى أنه قدّم وعودًا من قبل! وكأنه استعان بكاتب خطابات رئاسية جديد، لم يكتب أو يطلع على أيٍّ من تصريحات الرئيس السابقة والمسجلة من قبل!
ما لم يتغير هو أسلوب إلقاء اللوم على المواطن أو الشعب المصري. فالرئيس يطلب من شعبه عدم لوم الدولة أو "مخاصمة" الحكومة لعدم قدرتها تلبية احتياجاته التعليمية والصحية؛ "هل فيه أب جه لابنه أو لأولاده الأربعة.. خمسة، وقاله ماتزعلش مني أنا جبت أربعة.. ومش قادر أصرف عليك؟ ولّا بيقول له: الدولة مش قادرة تأكّلك؟"، استمرارا لاستخدام شماعة الزيادة السكانية.
كانت المفاجأة بالنسبة له هي مرور سبع سنوات ومازال الشعب المصري متحملًا وقابلًا
تزداد فترة التحمل المطلوبة تدريجيًا في خطابات الرئيس مؤخرًا، بعد الأزمة المالية. كانت فترة المعاناة والتحمل ثلاث سنوات في المثل الذي ضربه منذ خمسة أشهر، بحصار الرسول وأصحابه بشعاب مكة حتى اضطروا "لأكل أوراق الشجر" دون شكوى. بعد ذلك ازدادت فترة التحمل المطلوبة إلى 15 سنة مع مَثل تحمل الشعب المصري وتوقف الحياة والاقتصاد والمعاناة من حرب 1967 إلى استكمال استعادة سيناء 1982، وهو ما كرره الرئيس في خطابه في ذكرى حرب أكتوبر قبل أسبوعين.
أما فترة التحمل المطلوبة في الخطاب الأخير فمفتوحة نهايتها، دون تحديد لفترة التحدي، التي اعتبر أنها قائمة وتواجه مصر منذ خمسين عامًا ولا يريد أحد التصدي لها بحلول صعبة.
لكنَّ المفاجأة كانت بالنسبة له هي مرور سبع سنوات، ومازال الشعب المصري متحملًا وقابلًا لأعباء القرارات الأصعب التي اتخذها لمواجهة التحدي الكبير، بالعمل على مسارين: بناء صرح ضخم ومدن جديدة بينما يحاول جزئيًا إصلاح المشاكل التي ورثها، رافضًا أن يقتصر عمله على مجرد توفير أكل الناس وسكنهم.
يعترف الرئيس في خطابه أنه بدأ في استخدام "رصيده الشعبي" لدى المواطن منذ عام 2015 في اتخاذ قرارات اقتصادية صعبة لم ينفذها غيره من قبل، بتخفيض دعم الحكومة لأسعار الوقود والسلع الأساسية. لكنه يعود لجعل قياس ما تبقى من رصيد صعبًا، فهو يرفض قياس الرضا عن الحاكم بالشكل التقليدي المعروف عالميًا، إذ قال في خطابه:
"أخطر شيء.. واسمعوها مني كده، هو قياس الرضا الشعبي بما يتحصل عليه المواطن مباشرة وحرص الحاكم على الحكاية ديت، إن هو يلبي مطالبه مباشرة، يعني يحط له في جيبه.. حتى لو كان ده على حساب مستقبل الوطن وحاضره".
بالتالي، أصبح المطلوب هو الرضا بوجود الحاكم في حد ذاته يواصل مشروعاته ومدنه الجديدة للمستقبل بغض النظر عن الحاضر واحتياجات المواطن.
إنه رصيد أشبه برصيد "العشم"، أو ثقة الحارس القوي المدجج بالسلاح بحاجة المدني الأعزل الضعيف لحمايته من مخاطر الغابة المليئة بالذئاب والوحوش الضارية. لكن حتى حين استخدم المجلس العسكري الحاكم لمصر، في أحد بياناته أواخر فبراير/ شباط 2011 بعد تنحية مبارك، تعبير "الرصيد"، جاءت العبارة باللون الأصفر تقول "اعتذار ورصيدنا لديكم يسمح".
نعم، بدأت باعتذار على اشتباك القوات المسلحة مع المتظاهرين والتعدي عليهم أمام مجلس الوزراء، ثم تحويل العشرات لمحاكم عسكرية.
وكانت صدمة للثوار الذين استنجدوا بالجيش من الشرطة.
تكررت اشتباكات الجيش لاحقًا مع المتظاهرين، ومنها في ماسبيرو، وتم التوسع في إحالة المدنيين للمحاكم العسكرية وبالتالي لم تعد كلمة الاعتذار واردة في البيانات اللاحقة ولا حتى الحديث عن الرصيد، حتى جاء الرئيس السيسي بعد فترتيه الدستوريتين من حكمه لتذكيرنا بالرصيد الشعبي!
مع ذلك، يجب ألا ننسى أن الحديث الشعبي الهامس عن نفاد رصيد الرئيس، في غياب حرية الإعلام، ليس جديدًا. فقد أُثير ذلك مابين عامي 2016 و 2018 بعد تخفيض قيمة الجنيه المصري وأزمة سيولة النقد الأجنبي والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير وعدم جدوى الإنفاق على تفريعة القناة.
لكن شيئًا لم يحدث، بل بالعكس تم بعد إعادة انتخاب الرئيس لفترة ثانية تعديل الفقرة الدستورية "غير القابلة للتعديل بالزيادة"، بزيادة فترة الرئاسة وإضافة ثالثة "استثنائية"!
لا وجه للمقارنة بالطبع بين الوضع الاقتصادي في نهاية فترة السنوات الأربع الأولى للرئيس، وبين الأزمة الخانقة الحالية في مطلع سنته التاسعة. فالأهم هنا رصيده عربيًا وأمريكيًا.
قناعة الرئيس بأن رصيده لا زال يسمح تستند إلى نفس منطق المجلس العسكري السابق
الدعم العربي والغربي لحكم الرئيس السيسي بلغ ذروته متواكبًا مع تولي الجمهوري دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية وتولي الأمير محمد بن سلمان ولاية عهد السعودية. ودخلت مصر في تحالف مع السعودية والإمارات ضد قطر وتركيا. كما أعطت الإدارة الأمريكية الضوء الأخضر لحلفائها العرب بالتعامل مع مواطنيهم كما يحلو لهم. حتى إن ترامب لم يكن معجبًا فقط بأصدقائه المستبدين بل أيضًا بأحذيتهم!
هذا الرصيد الذي نفد!
أمريكيًا جاء بايدن. ورغم ضعفه وتأثره بوساطة اللوبي الإسرائيلي لمراعاة الحلفاء العرب ولو كانوا من أصدقاء خصمه ترامب، فلم يعد لدى مصر ما يمكنها تقديمه خارج اشتباكات غزة، تاركًا الديمقراطيين في الكونجرس يقتطعون من المعونة لمصر ما لا يعترض عليه البنتاجون من تسليح.
عربيًا، لم تقدم قطر ما يكفي لأن بعض مطالبها لايمكن تلبيتها وتمس أجندة الإمارات في قمع الربيع العربي، سواء كان إسلامًا سياسيًا أو ليبراليًا حقوقيًا.
والسعودية حصلت على الجزيرتين ولا تريد مواصلة الإنفاق على ناطحات سحاب تعلو الإمبراطورية الجديدة، بمنطق "العين ماتعلاش عن الحاجب". وسِجل ابن سلمان معروف في تبديل رؤساء دول عربية لا ينجزون المهمة بسرعة. فعلها مع سعد الحريري في لبنان وعبد ربه منصور هادي في اليمن.
من هنا تأتي أهمية قول الرئيس السيسي عن نفاد هذا الرصيد العربي "حتى الأشقاء والأصدقاء أصبحت لديهم قناعة بأن الدولة المصرية غير قادرة على الوقوف مرة أخرى. وأن الدعم والمساندة عبر سنوات شكلت ثقافة الاعتماد عليها لحل الأزمات والمشاكل (..) خلاص الناس ساعدت كتير قوي وبقى لها كتير بتساعد (..) وانت ما ساعدتش نفسك وعمرك ماوقفت وعودك يصلب".
في المحصلة، نفاد الرصيد العربي والخارجي هو التحدي الرئيسي الذي يواجه استمرار حكم الرئيس السيسي، ولو بشكله المعهود من قبل. أما رصيده الشعبي داخليًا فقد سبق وتعرض للعديد من الأزمات، ولا مجال لقياسه برضا الشعب، طالما يرفض الرئيس اعتبار تلبية احتياجات المواطن معيارًا مقبولًا!
قناعة الرئيس بأن رصيده لا زال يسمح ليست مفاجِئة، فهي تستند إلى نفس منطق المجلس العسكري السابق، الذي كان عضوًا فاعلًا فيه؛ منطق القوة المسلحة، إلى أن يتحداها أحد، ليس دائمًا عن جرأة، بل أحيانًا عن إحباط ويأس!