تصميم أحمد بلال - المنصة.

إغاثة اللهفان.. سمة اجتماعية في خطر

منشور السبت 8 أكتوبر 2022

حين يقع إنسان في ضيق أو ورطة يستغيث بغيره أو يستجير، وينتظر منه إغاثة أو إجارة. إن لبَّاها فهو يقيم سُنَّةً حميدةً اعتاد عليها المجتمع المصري عبر قرون طويلة، وإن تقاعس أو ضنَّ بجهده أو ماله أو حتى رأيه، فإنه بهذا يخرج على سلوك الجماعة، أو يتساوق مع تصرفات مغايرة، لم يكن المصريون يعرفون أغلبها من قبل على النحو الذي نراه الآن.

رأينا في الشهور الأخيرة ثلاث فتيات يُقتلن في الشوارع، وقبلها ذبح رجلٌ زوجتَه أمام المارة لأنه كان يتهمها بخيانته، وأضنانا جميعًا قطع مسطول رقبة رجل في وضح النهار في أحد شوارع مدينة الإسماعيلية. في كل هذه الحوادث المفزعة والمؤلمة كان كل من يصل إليه خبرها يسأل: أين كان الناس وقت القتل؟ لماذا لم يمدوا أيديهم ليمنعوا هذه الجرائم البشعة؟

تفاوتت الإجابات بين أولئك الذين خلقوا أعذارًا لمن تقاعسوا بأن الجرائم وقعت أحيانًا في مناطق معزولة أو اُرتكبت بسرعة خاطفة لم تسمح للمسارعين إلى منعها بأن يحققوا ما أرادوا، وهؤلاء الذين لم يقبلوا بأي عذر ورموا الجماعة كلها بأنها أصيبت بتبلد شعوري، واستسلمت لروح الأنانية المفرطة، وتاهت في مجتمع الفرجة الذي قد يجعل فردًا ينظر إلى جريمة أمامه باستهانة ولا يعنيه منها سوى أن يسحب هاتفه الذكي ويصور وقائعها، ثم يرفعها على فيسبوك أو تويتر أو يوتيوب.

هناك فريق ثالث، ومعه كثير من الحق، يرى أنَّ الناس لا يزال فيهم الخير، وأن علينا، في كل الأحوال، أن نفرق بين نوعين من الإغاثة:

1 ـ إغاثة خطرة مُكلفة: وتكون مرتبطة غالبًا بأحوال السياسة وشؤونها، أو بسلطان الأمن والتقاضي. رأينا مصريين ممن هدمت بيوتهم في أماكن كثيرة، حتى في القاهرة المكتظة بسكان يتمتعون بدرجة وعي سياسي أكبر من سائر المدن والقرى، لا يغاثون من أحد. بينما نادوا الناس طويلًا أن يهرعوا إليهم ليمنعوا هدم بيوتهم أو محلاتهم التجارية، في إطار ما يسمى بتطوير العشوائيات وتوسعة الشوارع وبناء الكباري وغيرها، لكنَّ الناس التزموا أماكنهم، ولم يقدموا لهم نفعًا، لخشيتهم بطش السلطة.

ينطبق الأمر نفسه على المعتقلين والمحبوسين احتياطيًا، وهؤلاء لا تنقطع مطالبهم وذويهم بالإفراج عنهم. وقد يلجأ الأهل إلى المجتمع كي يقف إلى جانبهم، فيدبجون الالتماسات والمطالبات ويدفعونها إلى غيرهم للتضامن معهم، لكنَّ أغلب الناس لا تقدم لهم يد العون، خوفًا من مساءلة، في ظل التوسع الشديد في دوائر الاشتباه والملاحقة.

وقد نرى الحالة قائمة مع أصحاب المطالب الاجتماعية، الذين يتنادون للتظاهر أو تنظيم وقفات احتجاجية عند بعض المؤسسات الرسمية المعنية بما يريدون. فهؤلاء يطلبون أو ينتظرون من الآخرين أن يتضامنوا معهم في قضاياهم العادلة، لكن لا أحد يستجيب بيده أو حتى بلسانه، وإن كان قلبه ينبض تعاطفًا معهم، ونفسه تهتز حدبًا عليهم.

ويمكن أن يمتنع بعض الناس عن نجدة مصاب في حادث مروري هرب مرتكبه، خوفًا من تقليد متبع يجعل الناجد هذا أول متهم في نظر الشرطة، لا سيما إن لم يكن هناك شهود على براءته، وكان القاتل لا يزال مجهولًا. ودفع البعض ثمن شهامتهم، إن لم يكن حبسًا وسجنًا وتعويضًا، فعلى الأقل قلقًا وتعطلًا يدوم لأيام، طالما لا يزال من ارتكب الحادث طليقًا.

2 ـ إغاثة آمنة لا غرم فيها: وهي كل أنواع النجدة التي تقدمها الجماعة وهي في مأمن من الاشتباه أو المساءلة أو العقاب. وهنا تبرز وقائع أشد ظهورًا، منها تعاون أهل الريف على إطفاء أي حرائق تنشب في بيوتهم أو حقولهم، وعلى مطاردة لصوص سرقوا بهائم من الحظائر أو نواصي الغيطان، وقيام جيران بمساعدة من شبت نار في شققهم بالمدن على النجاة، وهرع المسافرون إلى الالتفاف حول من وقع له حادث مروري، فيمدون يد العون له بشتى الطرق.

وأيضًا كيف يطارد الجالسون على المقاهي لصوصًا خطفوا حقيبة سيدة تمضي على مهل في الشارع، وكيف ينجدون شخصًا يسقط في إعياء فجأة بين الناس، وكيف يتعاطف الزبائن مع باعة بسطاء يفترشون الأرض ببضائعهم الرخيصة حين تداهمهم البلدية، وكيف يمدُّ البعضُ المشردين في الشوارع ببعض ما يحتاجون من غذاء أو كساء، أو يتسابق بعض الركاب لدفع الأجرة لمن لا مال له في حافلة أو قطار. وهناك ما يقوم به صديق أو جار أو زميل من تطبيب نفس من ألمَّ به مصاب في يوم من الأيام.

وهناك مثل عملي يمكن ضربه في هذا المقام، قد يجمع بين تفاوت تقدير الناس لحالة معينة، وعما إذا كان التعامل معها آمنًا أو خطرًا، فيه مغنم أخلاقي وإنساني أو متشح بالغرم والخوف. ففي يوم قام أحد الصحفيين بسكب كيس دم على ملابسه في غفلة من الناس، ثم ألقى نفسه على الأرض، وراح يستغيث، فانقسم المارة بين من سارع إلى نجدته، ظنًا منه أنه مصاب قد يفارق الحياة، وبين من خاف التورط إن اقترب منه، فمضى مسرعًا لا يلوي على شيء.

أما في المدينة، لاسيما بعيدًا عن الأحياء الشعبية، فالعلاقة بين الناس طافحة بالغربة والاغتراب

هذا معناه أن القدرة على إغاثة الملهوفين، لا تدور في فراغ، ولا تنبع من عدم، إنما هي ترتبط، في أغلب الأحيان، بأربعة أمور أساسية:

1 ـ نمط السلطة القائم: ففي أوقات الاستبداد والعنت والعسف تتراجع قدرة الناس على الإغاثة والإجارة في أي مسألة ذات صلة بقضايا السياسة وشؤونها، لاسيما إن كانت السلطة غير معنية بأمر الجماعة، بل تخشى أحيانًا من مسارعة الناس إلى مساعدة بعضهم البعض، لا سيما في القضايا التي يختلفون فيها مع هذه السلطة.

2 ـ قدرة المجتمع على إعلاء قيمة التعاون: وهو أمر يتسع ويضيق وفق عوامل عديدة منها ما يصنعه الخطاب الديني والثقافي السائد من حض على التكاتف والتراحم والتكافل، وما يقوم به التعليم من غرس قيمة الشعور بالآخر وتفضيل الإيثار على الأثرة، والغيرية على الأنانية أو الأنامالية، وما قد يقدمه الإعلام من توصية للناس بألا يكفوا عن البذل والعطاء، وما يؤصله العرف والتقاليد من إيعاز بضرورة مساعدة من يطلب النجدة، دون تفكير في عاقبة، أو انشغال بشيء، سوى ما على الإنسان من دور إيجابي حيال غيره، على أن يقوم به، ولا يتردد في هذا.

3 ـ طبيعة التكوين الاجتماعي: فالمجتمعات الريفية، التي تقوم على علاقة الوجه للوجه، تجعل القرويين مطالبين أكثر بنجدة أبناء قريتهم، فكل منهم يعرف الآخر، وبينهم تاريخ مشترك من العلاقات الاجتماعية والإنسانية، تفرض عليهم ألا يتهربون من المسؤولية الأخلاقية حيال الغير، وإلا لحق بهم العيب أو العار الذي يقيمه سلطان الجماعة، ولا يفرط فيه.

أما في المدينة، لاسيما بعيدًا عن الأحياء الشعبية، فالعلاقة بين الناس طافحة بالغربة والاغتراب، حتى أن الجار قد لا يعرف شيئا عن جاره، ويمكن ألا يهتم بأن يعرف من الأساس، فما بالنا إن كان الملهوف سائرًا في شارع بعيد عن سكنه، يستنجد بمن لا يعرفهم ولا يعرفونه، فيقدمون في النظر إليه الشك على اليقين، والريبة على الثقة، والحيرة على الاطمئنان.

4 ـ مدى وجود مؤسسات للإغاثة: فهذه تعفي المواطن الفرد أحيانًا من القيام بهذا الدور، لا سيما إن كانت مؤسسات ذات كفاءة قادرة، ومتنوعة الاهتمام والانشغال، ومنتشرة في كل مكان، وقامت بالأساس على النفع العام والخيرية، وتدرك أن مهامها هي تطبيب العوز، وتلبية الحاجة، وإغاثة اللهفان.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.