ليست السلطة السياسية وحدها التي يمكن أن تؤذي الناس في مصر إن أرادت، إنما هناك جهات أخرى لديها قدرة على جلب الألم الضاري إليهم، سواء بترتيب مع السلطة أحيانًا، أو من خلف ظهرها، أو بصمتها الذي يمكن أن يطول، أو انشغالها عن الأمن الاجتماعي لحساب الأمن السياسي، الذي يعلو لديها على ما عداه، في الغالب الأعم.
هذا الأذى هو تعبير واضح وفاضح عن فقدان "الأمان" بالنسبة للأغلبية الكاسحة من الشعب، ويمثل في كثير من الأوقات سلطة موازية؛ تنكمش وتتمدد وتألف وتتوحش، وفق الظروف التي تتغير، متدرجة من السكينة الظاهرية إلى الفوضى العارمة، ومن الحدب العابر إلى التجبر المقيم.
في زمنٍ مضى كان هذا السلطان بيد الفتوات، الذين يقبضون على الشوارع والحارات، فيجمعون الإتاوات من الأعيان، ويطأون أعناق الحرافيش. وكانت الدولة تقر، بالصمت أو التواطؤ، سلطة هؤلاء الفتوات، وتعتمد عليهم أحيانًا في إخضاع الناس أو تنظيم تفاصيل حياتهم، أو تأديب الخارجين منهم على الحكم.
وكان الناس أنفسهم ينظرون إلى هذا الأمر باعتباره شيئًا طبيعيًا، يجب أن يتآلفوا معه، فيجعل أهل كل حارة لفتوتها ورجاله سلطة الأمر والنهي، فيدفعون لهم مقابل الحماية، مؤمنين بأن الحارة التي لا فتوة لها تكون مطمعًا لفتوات الحارات الأخرى.
ومن يطالع روايات نجيب محفوظ يعرف هذا النظام الذي ساد في لحظة فارقة من تاريخ مصر، يحكيها محفوظ نفسه ناقلًا لنا، في حوار صحفي معه، واقعة مثّلت نهاية هذا النظام. حين أقدم عرابي، فتوة حي الضاهر، على فقئ عينيَّ ضابط إنجليزي، فجاء الإنجليز إلى الحي بتجريدة عسكرية كبيرة، وأوسعوا عرابي ضربًا أمام الناس، وقادوه مقيد اليدين إلى السجن مع من تبقى من رجاله، ثم عملوا على إنهاء هذا النظام، لتبدأ رحلة تراجعه إلى أن صار أثرًا يُحكى.
لكن لم تلبث أن أفرزت الحياة الاجتماعية سلطة أخرى قامت هذه المرة على أكتاف "البلطجية"، وهم فئة أشد خطرًا من الفتوات، فالأخيرة كانت تحكمها بعض القواعد والأعراف، وأولها "الإتاوة مقابل الحماية"، وبعض الفتوات كانوا يأخذون من الموسرين ويمدون يد العون، ولو قليلًا، إلى المحتاجين. أما البلطجية فليسوا ملتزمين لا بالحماية ولا بالعطاء، ولا حتى بالمعاملة الحسنة لفقراء الأحياء أو موسريها.
والبلطجية، المستمد اسمهم من كلمة تركية معناها "حامل البلطة" ضمن صفوف الجيش العثماني، زادت أعدادهم، حتى قدرها البعض بين ثلاثمائة وأربعمائة ألف، وهم في الأغلب سجناء سابقين قضوا فترات محكوميتهم، دون أن تنقطع همزة الوصل بينهم وبين جهاز الأمن، الذي قد يستدعيهم أحيانًا لمواجهة غاضبين خرجوا في مظاهرات، مثلما رأينا خلال ثورة يناير 2011.
وفي مقابل هذا التعاون، الذي لا تقره أخلاق ولا قانون، تُترك مساحة لهؤلاء كي يمارسوا أذاهم على المحيطين بهم، ويمكن للسلطة الأمنية أن توسع هذه المساحة أو تضيقها وفق تقديرها أو مزاجها أو الظرف السياسي الذي تمر به البلاد، والذي إن اشتد واحتد يكون لهؤلاء دور كبير، وتُبارك أفعالهم، حتى وجدنا من يصفهم بـ "المواطنين الشرفاء"، ويصف تدابيرهم العنيفة بأنها "عمل وطني".
وهناك العصابات المسلحة، الخارجة على القانون والمنفلتة، إلى حين، من قبضة الساهرين على الأمن من رجال الشرطة. وترتكب هذه العصابات جرائم منظمة من قبيل السرقة والقتل والتخريب، وقد تضم بين أفرادها بعض البلطجية، لكنها تعتمد بالأساس على مجهولين مؤقتًا بالنسبة للشرطة حتى تظل آمنة بعض الوقت من الملاحقة، فيسهل عملها.
ويشكل المطاريد سُلطةَ أذىً أخرى، وهم مجموعة من الهاربين من أحكام قضائية مشددة واللصوص الذين يلوذون بالجبال، لا سيما في صعيد مصر، ويعملون طوال الوقت على إطالة أمد بقائهم في أماكنهم وتوفير أقواتهم، ولا يتأتى لهم هذا إلا بالسرقة أو فرض الإتاوات على وجهاء الريف، أو يستعين هؤلاء الوجهاء بهم في أعمال الثأر أو الإضرار بالمنافسين في أي صراع قبلي أو عائلي ينشب بين حين وآخر.
ويشكل البدو أو "العربان" سُلطة قوية في الصحراء الممتدة غرب وادي النيل وشرقه، والتي يصعب على الدولة إحكام السيطرة عليها، وبسط نفوذها فوق ربوعها الصفراء. وتوالت أزمنة سياسية، وتبدل حكام على عرش مصر، بينما يحتفظ البدو بقوتهم، ويفرضونها على من يقتربون من الصحراء زارعين أو صانعين أو فارين إلى البلدان المجاورة.
وهذه الفئات التسع، غير الرسمية، تعني دون مواربة أن هناك معاناة إضافية، ومخاوف زائدة وفائضة، تسري في أوصال المجتمع المصري، إلى جانب الخوف التقليدي المستمر من السلطة السياسية نفسها
وعمل حكام مصر المتتابعين على استمالة البدو بالمال، أو تسريب التحديث إليهم من خلال تسجيل مواليدهم، وإلحاق أبنائهم بالمدارس والعمل والخدمة العسكرية، لكن لا يزال أغلبهم يعتبرون الصحراء مملكتهم التي لا يجب أن يأتيها شريك من الوادي والدلتا. ولهذا كان على مستصلحي الأراضي أن يدفعوا لهم مضطرين، كما يدفعون إلى الجهات الرسمية التي تخصص لهم أرضًا للزراعة أو غيرها.
وفي وقت استقواء الجماعات الإسلامية المتطرفة وتنظيماتها التي تمارس العنف وفق تصور وإدراك ديني مغلوط، كان هؤلاء يمدون أذاهم إلى الآخرين، فرأيناهم يستولون فعليًا على بعض الأحياء الشعبية في المدن، وعلى بعض القرى، ويطبقون فيها قانونهم الخاص، لا سيما إن تراجعت قوة الدولة في بعض الأحيان.
ويمكن أن أضرب هنا مثَلين، الأول يخص ما أطلق عليها "جمهورية إمبابة" في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، حيث اشتد نفوذ التنظيمات الدينية المتطرفة في هذا الحي، وفرضت أحكامها على الناس، باعتبارها هي الشرع الإسلامي، وأبطلت عمل القوانين العامة، وخضع الناس لها خضوعًا كبيرًا، حتى شنت السلطة ذات فجر حملة أمنية واسعة، تمكنت من بسط سلطان الدولة على إمبابة، بعد القبض على العناصر المتطرفة، وإجبار بعضها على الهرب إلى حين.
والمثَل الثاني وقع في مدينة المنيا، التي كانت إحدى المعاقل الرئيسية لتنظيم "الجماعة الإسلامية" في أواخر الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات من القرن الفائت. فقادة الجماعة كان يقومون بتنظيم الأسواق، وإقامة الحدود، في شبه غياب للشرطة، حتى أنهم نفذوا حد الحرابة ذات يوم في وسط سوق الاثنين على رجل كان يفرض إتاوة على الفلاحات القادمات من الأرياف لبيع بضائعهن في سوق المدينة، فأوثقوه إلى عمود كهرباء وقطعوا يديه ورجليه من خلاف.
ولا يقف سلطان الأذى عند مرتكبي الأعمال العنيفة والجارحة، بل يمتد إلى هؤلاء الذين يستولون على ما في جيوب الناس من مال، في عمليات نصب متكررة قام بها من أطلق عليهم "المستريحون"، الذين جمعوا أموالًا طائلة قدمها لهم أصحابها عن طيب خاطر، بدعوى الانتفاع الأكبر، وأخفقوا في استعادتها، أو أخذوا النذر اليسير منها، وجلسوا يعضون أصابع الندم.
وهناك المحتكرون من كبار التجار، الذين يخزنون السلع فترتفع أسعارها، وتفيض الأموال الحرام في جيوبهم. ولهؤلاء قدرة عجيبة على الإفلات من العقاب، لا سيما إن تمكنوا من استمالة جهات رسمية منوط بها مقاومتهم، وكف أيديهم، سواء جرت هذه الاستمالة بإشراك بعض المتنفذين في الجهاز الإداري للدولة من الباطن في أعمال تجارتهم، أو تقديم الرشاوى، أو استغلال المحسوبية.
وهناك أيضًا المتسولون احتيالًا لا احتياجًا، الذين ينتشرون في الشوارع والمقابر وغيرها، ويشكلون تنظيمات متفرقة في المدن، لها من يقودها، وهي تضم كثيرين من أصحاب العاهات الطبيعية أو المصطنعة، وتتمكن من جمع أموال طائلة مستغلة ميل الناس، بفعل التصورات الدينية، إلى التصدق أو عدم رد السائل.
وهذه الفئات التسع، غير الرسمية، تعني دون مواربة أن هناك معاناة إضافية، ومخاوف زائدة وفائضة، تسري في أوصال المجتمع المصري، إلى جانب الخوف التقليدي المستمر من السلطة السياسية نفسها، لا سيما في أوقات استبدادها أو تبلد شعورها حيال القاعدة العريضة من الناس، فتسن من القوانين، وتتخذ من الإجراءات ما يؤثر سلبًا على معيشتهم.
والسلطة الرسمية الحاكمة، في خاتمة المطاف، هي التي تحدد المساحات التي تتحرك فيها أغلب هذه الفئات، حيث تتسع حين تنشغل الدولة بالأمن السياسي على حساب الأمن الاجتماعي، وتضيق إن اهتمت السلطة بحقوق الناس، وعملت باقتدار على توفير الأمان لهم، من الخوف والجوع والقهر والاستباحة.