برخصة المشاع الإبداعي- PxHere

خمس خصال حميدة لبيروقراطية فاسدة ومترهلة

منشور السبت 3 سبتمبر 2022 - آخر تحديث السبت 3 سبتمبر 2022

حين دخل بطل رواية حضرة المحترم لنجيب محفوظ حجرة المدير العام رآه نصف إله يجلس على كرسي خلف مكتب عريض، وعندها قرر أن يحل ذات يوم محله، ورهن حياته كلها لهذا الحلم العصي.

وفي رواية المرايا نكتشف أن عالم الموظفين على حاله منذ عقود طويلة، تتبدل أنظمة سياسية، ويذهب حكام ويأتي غيرهم، بينما  يحتفظ هذا العالم بسلطته وسطوته وقواعده الخاصة التي صنعها من حاصل ضرب لوائح المؤسسات في الممارسة اليومية التي يمكنها أن تنحي النصوص جانبًا، تاركة إياها حبرًا على ورق.

لهذا كان محفوظ، الذي ظل إلى سن التقاعد يعمل في وزارة الأوقاف، ينظر إلى الموظفين باعتبارهم أعوان الفرعون، يستمدون نفوذهم منه، ولو عبر خيط رفيع، لكنه لا يتبدد.

هكذا استقرت في أذهاننا البيروقراطية، ورحنا نتذكر ونردد حين نتحدث عن "سلطة المكاتب" أو "سطوة الموظفين" أشياء عن الفساد والتحجر والتباطؤ أحيانًا، ويحلو لكثيرين منا أن يسهبوا في تناول ازدحام أماكن العمل بموظفين يفيضون عن الحاجة، بما حول كثيرًا من المصالح الحكومية إلى تكايا مقنعة. مع أن رواتب هؤلاء المتزاحمين أشبه بإعانات بطالة، كما أنهم لا يٌسألون عن تكدسهم، إنما هو ذنب من لا يحسن توزيعهم على أعمال منتجة، في ظل تراجع قدرة الدولة على صناعة العمل الخلاق، الذي يمثل قيمة مضافة حقيقية للدخل القومي.

كما ننسى أيضًا في غمرة هذا الاتهام العام أن كثيرًا من الوظائف لا صلة لها بالجمهور، ما يمنع الفساد، ليس عن نزاهة الموظفين ولا التزامهم بالقانون، إنما عند انقطاع السبب الذي يمكنهم من الحصول على المال مقابل تسهيل الخدمة، سواء تم هذا وفق القانون، أو بالتحايل عليه، أو بالمخالفة له.

ومع فسادها الواسع، الذي يتوالى في إيذائه وفق تدرج الوظائف وعلاقتها بالجماهير التي تتلقي الخدمة، ومع ترهلها المزمن الذي يجعلها ثقيلة على الحياة الإدارية في بلادنا، فإن هناك خصالًا أخرى حميدة للبيروقراطية المصرية لا يمكن إنكارها، وهي لا يجب أن تعمينا عن الفساد، لكنها تفرض على الناظر إلى سلطة المكاتب ألا يراها سيئة كلها، وسلبية جميعها، وأن نقضها، وليس نقدها، ضرورة.

هذا الاستقرار يمثل قيمة لا بأس بها حين تهب على الدولة ريح عاصفة، لحرب أو ثورة أو صراع على السلطة العليا

وأولي هذه الخصال الحميدة هي الدور الذي تمارسه البيروقراطية في الحفاظ على تماسك الدولة، إذ تتغير الأنظمة، وتضطرب الأحوال السياسية، وتتبدل الأوضاع الاقتصادية من ستر إلى فقر، ومن كفاية إلى كفاف، ومن كفاءة الإدارة العليا إلى تدهور إمكانياتها الذهنية وتراجع قدرتها المادية على تسيير الشأن العام، وتبقى البيروقراطية محتفظة بتماسكها، ولو نسبيًا، تؤدي المنوط بها، والمحمول عليها، في حال من الثبات، الذي لا يكون غاية المراد لمجتمع يريد أن يتقدم.

لكن هذا الاستقرار يمثل قيمة لا بأس بها حين تهب على الدولة ريح عاصفة، لحرب أو ثورة أو صراع على السلطة العليا، في وقت من الأوقات، أو عهد من العهود.

ويمكن هنا أن أضرب مثلين، الأول هو ما رآه الناس في اليوم التالي لهزيمة يونيو 1967، إذ ذهب الموظفون إلى مكاتبهم، ينظرون فيما تكدس أمامهم من ملفات، فاعملوا فيها أقلامهم، وكان المتعاملون من بينهم مع الجمهور على أهبة الاستعداد لأداء ما هو مطلوب منهم.

ويحكي الذين عاشوا هذه الأيام العصيبة، كيف رأوا موظفي مجمع التحرير يهرعون إلى مكاتبهم صباح اليوم التالي لإعلان عبد الناصر تنحيه عن الحكم، وتكرر هذا في كل المصالح والمؤسسات والهيئات التي يصب عملها في المهمة الإدارية للدولة المكلومة.

أما المثل الثاني فجرى في اليوم التالي لتخلي مبارك عن الحكم بفعل ثورة يناير 2011، إذ اعتقد بعض منتهزي الفرص، وأغلبهم لم يشاركوا في الثورة أصلًا، أن الوقت موات ليمرروا أوراقهم التي سبق رفضها لمخالفتها القوانين، فهرعوا، كل إلى مؤسسة يقصدها، وهم يظنون أن الموظفين، الذين يمثلون الطابق السفلي في سلطة الدولة، سيستجيبون لهم، خوفًا أو استهانة، ففوجئوا بالجالسين خلف المكاتب يكررون الرفض للأسباب نفسها، فقالوا لهم: نحن في ثورة، فجاء الرد: القانون لم يتغير، فارتد هؤلاء الانتهازيون على أعقابهم خاسرين.

والخصلة الثانية الحميدة هي ما تقوم به هذه البيروقراطية من حفظ حقوق القاصرين، والمثل الناصع في هذا هو "المجلس الحسبي" الذي يحرص على حقوق اليتامى القصر، ويدقق طويلًا في الأوراق التي يقدمها له الورثة، حتى لا يبتلع الطامعون ما للصغار من حق في مال المتوفي وأملاكه.

وحكت لي كاتبة صحفية كبيرة، كانت تربي ابنها الوحيد المعاق، عن سعادتها لما فعله معها موظفو المجلس الحسبي عقب وفاة زوجها من تدقيق وحرص شديدين، حتى يتم ضمان حق الولد المسكين، وهي كانت على هذا أشد حرصًا. وهو تصرف جعل هذا المجلس، الذي يقوم بمهمة نبيلة، له هيبة واقتدار، يمثل ردعًا لكل من تسول له نفسه حرمان القصر من حقوقهم المكتوبة قانونًا، والمقدرة شرعًا.

وينطبق الأمر نفسه، إلى حد ما، على محاكم الأسرة، وبعض الهيئات التي يمكنها التوسع في إقرار حقوق للفقراء في المال العام على هيئة إعانات أو معاشات أو منح.

وتتمثل الخصلة الثالثة في ردم الهوة بين القوانين التي تنظم مصالح الناس وبين ما يخلقه التغير الاجتماعي المستمر. فالقوانين يفترض فيها اليقظة والمرونة التي تجعلها تواكب الظروف التي تتبدل. وهذه المرونة يصنعها أمران: إما الموظف الناصح الذي يمارس دور المسهل لمن يتعاملون معه حتى تمضي إجراءاتهم سليمة، وإما الموظف الذي يفهم "روح القوانين" ويعرف مساحات "العفو"، أي ما سكت عنه المشرع وتركه للتفسير فيجعل كله أو بعضه في خدمة الناس. بينما يكون قادرًا، في الوقت نفسه، على التحجر، والتمسك الصارم بحرفية قوانين كان يجب أن تتغير بعد انقضاء قدرتها على أداء دورها في تنظيم الحياة الخاصة والعامة.

أما الخصلة الرابعة فيمكن أن تكون هي التلطيف من غلواء سلطة الدولة، لاسيما في بلد يُفرض فيه السلطان على الناس فرضًا ولا يوجد ما يغل يده في أن يفعل أو يقرر ما شاء، في أي وقت يريد. فمثل هذا النوع من الحكم لا يشغله العذاب الذي يلاقيه الناس حين يمضون في طريق الحصول على خدمة معينة من دونها ستتعطل مصالحهم.

وهنا يأتي الموظفون الصغار، ليقوموا، بما لهم من سلطة إدارية تحميها القوانين، ليقللوا من الوطأة الثقيلة جدًا للسلطة العليا على حياة الشعب.

والخصلة الخامسة هي رد بعض فساد الكبار، أو التقليل منه، فمن بوسعهم التنعم بثمار المحسوبية العطنةريمكنهم الحصول على ما ليس لهم عبر تأشيرات يمنحها مسؤولون، أو وساطة بعض من يملكون سلطة الأمر والنهي في المجتمع خصوصًا من أجهزة الأمن، لكن هؤلاء يجدون في الموظفين حائط صد، حين يلوذون بالقوانين لتحميهم، أو بالأعراف المكتبية لتمدهم بردود تمنع عنهم الأذى.

وقد يقوم الموظف بهذا ليس دفاعًا عن القانون أو الطريق الإداري المستقيم، إنما لأن هذا التدخل من قبل الكبار، سيحرم الموظف من فرص الحصول على منفعته.

وباستنثاء هؤلاء الذين يتمادون في ارتكاب الجرائم المالية والإدارية بغلظة وتبجح، فكثير من الموظفين يسبح فساده، القليل أو الكثير حسب قيمة الخدمة، في مساحة "العفو" هذه، وتسمى الرشوة، الإكرامية، أو "الشاي" وفق ما هو متعارف عليه في مصر.

وفي بعض الأحيان يلعب وسطاء من المحامين دورًا في هذا، لاسيما أنهم يمتلكون القدرة على تفسير النصوص أو تسييلها لصالح موكليهم، وقد يتم هذا عبر المسهلين أو "المشهلاتية"، وكثير من هؤلاء يعرفون الثغرات والدهاليز التي ينفذون منها.

وهناك ثلاث مسائل لا يجب أن تغيب عن أذهاننا في معرض تقييم البيروقراطية في مصر، الأولى أنها تعمل في إطار القيمة الظاهرة والمتغلبة التي تشكل الوعي والتصرف العام وهي "التحايل"، لا سيما إزاء القوانين التي تسن في غرف مغلقة ينعزل فيها المشرعون عن الظروف الاجتماعية، أو يهملونها بلا أدنى إحساس بالمسؤولية أو يصنعونها لتحقيق مصالح قلة من الشعب، أو لحساب سلطة مستبدة لا تراعي الصالح العام أو الخير المشترك.

 أما الثانية، فهي أن البيروقراطية ليست بدعة مصرية، إنما تعرف دول العالم أجمع سلطة المكاتب وتقدرها، بما في ذلك الدول التي أقامت الحكم فيها على عقد اجتماعي بين أهل الحكم والشعب، وللأخير الحق في منح الشرعية للحكومة، وله السيادة على المال العام، وإمكانية المحاسبة والمساءلة المستمرة. وهناك دول تعرف أنماطًا من البيروقراطية أشد تحجرًا، وأعمق فسادًا، وأقسى بطئًا، من نظيرتها المصرية.

والثالثة أن جزءًا من الفساد البيروقراطي يتم بالتواطؤ بين الجمهور وبين الموظفين. فيقدم بعضهم الرشوة أو "الشاي" عن طيب خاطر، شفقة على الموظفين الذين لا يمكن لرواتبهم أن تكفي أسرهم، فيمدون أيديهم اضطرارًا، ولو توفر لهم الراتب المجزي، فسيكتفون به، ومن لا يكتفي سيجد من يصده بلا تردد.

وقد استجاب هؤلاء المشفقون لدعوة أطلقت ذات يوم بتقنين الرشوة، ورأوا أنها طالما تتم، شاء الناس أم أبوا، فعلى الأقل يجب أن تقدر وتخرج إلى العلن. وبحث آخرون عن حل أفضل، يتمثل في منح الموظفين المتعاملين مع الجمهور نسبة من المال المفروض رسميًا على أداء الخدمات. وهذان الرأيان يدلان على تساهل مع فساد البيروقراطية، لكنهما لا يغفلان ما لها من إيجابية.

لا يعني كل ما سبق، أن البيروقراطية، تستحق أن تبقى على حالها دون إصلاح أو تأهيل، لكنه يطرح ببساطة بعض ما يجب أن يُؤخذ في الاعتبار، ولا يُهمل أو يتم التغافل عنه، من وجوه حميدة لهذه البيروقراطية الراسخة أثناء الشروع في إصلاحها الذي طال انتظاره.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.