كنتُ أعجب لصبر الجدّات في تطريز الملاءات وملابس المواليد الجدد ومناديل السفرة في جهاز العروس. شغل يدوي، يُنسج قطبةً قطبة، وخيطًا بخيط. تجتمع بأشكال هندسية؛ طيور وزهور ومنمنمات تبدو كأنها لوحة قائمة بذاتها على سطح القماش المفروش، لكنَّ السر كله يكمن في تشابك الخيوط وتماسكها في البطانة.
ما أهمية أن أعقد الخيط طالما أننا لا نراه يا تيتا؟ كنت أسأل بنفاد صبر أمام محاولاتها البائسة لتعليمي التطريز؛ "لأن قطبة واحدة كفيلة بتفكك كل الخيوط وضياع الجهد إذا لم نعقد كل خيط مع بقية الخيوط"، كانت تجيبني بحزم.
غادرت جدتي عالمنا، وباءت محاولاتها لتعليمي التطريز بالفشل، وفاتني تعلُّم درس آخر. لكنَّ انبهاري بالمشغولات اليدوية والجَلد الذي تتطلبه استمر معي وأنا أحاول فهم السر. لم أتعلم فنون الإبر، لكنَّ الحياة علمتني معنى القيمة وراء ربط الخيوط في كل فعل نقوم به كي لا ينفك العقد وينفرط البنيان.
رحلت الجدة الكبيرة، كما يدعوها البريطانيون تحببًا وعرفانًا، وُريت الثرى تودعها الدموع والكثير من الحب والتقدير. ولو كانت رحلت حين قدومي إلى المملكة المتحدة قبل نحو عشرين عامًا، لفاتني الكثير من المعرفة.
كنت شابةً مدفوعة بحماسة الشباب، أسعى إلى تغيير كل شيء وتحطيم الثوابت وخلق عالم يناسب حجم الأوهام التي نعتقد بصوابيتها في سنوات العمر الأولى. كنت أسخر من القيم "الأنتيكة"، كما كنت أحب أن أسميها، ومن ضمنها فكرة بقاء الأسرة المالكة بكل عاداتها وموروثاتها من القرون الوسطى.
تحاملت على الملكة شخصيًا، ولم تسلم من سخريتي أنا والكثيرين ممن يعتقدون أن وجودها كعدمه. وبنفس طيشي في رفض الاستماع إلى حكمة جدتي، كان صعبًا عليّ أن أفهم المعنى إلا بعد حين. ما فعلته الملكة إليزابيث الثانية، تمامًا كفعل جدتي. أثَر جدتي محفوظ على الأقمشة، وأثر الملكة سيظل منقوشًا على نسيج المجتمع البريطاني.
بعد وفاة الأميرة ديانا في حادث سير في باريس، تعاملت الملكة وعائلتها مع الحدث كأنه خارج نطاق اهتماماتها المباشرة. لم تخرج إليزابيث الثانية على شعبها في كلمة تخفف ألم فقد أميرة القلوب، فكان في قلوب العائلة المالكة ما كان من تحامل على ديانا وخياراتها غير المألوفة، منذ طلاقها حتى مماتها.
أخلّت الأميرة الشابة بالموازين الدقيقة التي تحكم علاقة ساكنة قصر وندسور مع رعيتها، وكشفت إلى العلن ما كان يجب أن يظل سترًا وغطا. لكنَّ اللوم كان أشد من أن تتجاهله الملكة، ولم يعد من المقبول أن "تطنش" الحدث الجلل الذي أحزن الملايين حول العالم.
خرجت بعدها في خطاب مقتضب، لم تقدم فيه اعتذارًا مباشرًا عن تأخرها في مواكبة الحدث، لكنها أكدت على الثوابت التي ترسخ علاقتها مع الشأن العام، كملكة مسؤولة عن رعيتها. ذكرتهم بأنها إنسانة تحزن وتتأثر لفقد أم أحفادها، لكنها ستظل الملكة التي لن تقبل بأي تجاوزات حول نيتها أو عاطفتها وواجبها تجاه أسرتها بالدرجة الأولى، كجدة لوليام وهاري، وراعية وحارسة لقيم المجتمع وهي على رأسه في مكانتها المعنوية المولاة لها بحكم منصبها.
تداركت الخطأ سريعًا، وأعادت ربط الخيط في البطانة. قدمت درسًا حول إعلاء القيم الثابتة في المؤازرة ولملمة الجراح والاعتراف بالخطأ والسعي لتصحيحه، حتى وإن كان ذلك على حساب قناعة لديها، بأن ديانا التي أحبتها الملكة بصدق، قد أخطأت بحق تلك المحبة ولم ترعها كما يجب.
كان الهدف الأكبر هو الحفاظ على البنيان وتماسكه في وجه طوفان كاد يطيح بتلك الثوابت. طوال فترة توليها العرش، سبعين عامًا، وهي الأطول في تاريخ الملكية البريطانية، حافظت إليزابيث على تلك الخيوط وجمعتها بقبضة ناعمة أقوى من الفولاذ.
هي الشابة المتزوجة حديثًا، لم تشأ أن تصبح ملكةً. ولولا تخلي عمها عن العرش لأجل قصة حب قطع لأجلها أواصر العلاقة مع الملكية والمملكة برمتها، ووفاة والدها الملك جورج السادس فجأة، لما توّجت في السادسة والعشرين ملكةً في عالم لا تعرف الكثير عنه، ويحكمه الكثير من الرجال وقيمهم.
الراعي الذي لا يلبي احتياجات شعبه، ويبني لنفسه القصور ويشتري الطائرات في ظل أزمة اقتصادية شديدة، يعطي رسالة لأولي الأمر بأن الفساد مأمون العاقبة
توثِّق سيرتها سعيها منذ تولي مهامها لتعلم ما يتطلبه الدور. ورغم محاولات الزعماء السياسيين في سنوات تتويجها الأولى لتهميش دورها، واعتباره تحصيلَ حاصلٍ، كانت كل يوم تذهب إلى مكتبها لمباشرة أعمالها وقراءة الملفات والأوراق المتعلقة بإدارة المملكة والتوقيع عليها شخصيًا. مؤكدة قدرتها كامرأة في غابة من الذكور، وكملكة جديرة بهذا اللقب.
وبكل الأحوال فإنّ نظام الحكم البريطاني ملكي دستوري، الملك رأس الدولة، لكنَّ رئيس الوزراء والبرلمان يديران الحياة السياسية، ولا يعطي للملك/ للملكة أي صلاحيات سياسية. ورغم ضرورة توقيع الملكة على القرارات الكبيرة، كإعلان الحرب، لكنه توقيع رمزي، أو لنقل تقليد شكلي إذا جاز التعبير. لكنها نجحت في خلق دور لها، اتسعت مساحاته طوال فترة حكمها. وأعطت للمنصب قيمة وليس العكس.
أدرَكت أن قدرَها أن تكون قدوة ونموذجًا، نحّت متطلباتها الشخصية جانبًا، وكانت أمًا لأربعة أبناء، وراعية تمتد سلطة مملكتها في شرق الأرض ومغربها. دور أدته بتفان غريب، فلا نعرف لها رغبات شخصية، أو نزق وانفعالات ومواقف متسرعة، جعلت التأني والتفكر ميزانًا لمواقفها وأحكامها على الشأن العام. صوّبت خطوات السياسيين من خلال تذكيرهم بواجباتهم في احترام وتلبية احتياجات شعبها، مُعلية مصلحة بلادها فوق أي اعتبار.
قد تسألني ما أهمية ذلك؟ وما القيمة التي تقدمها سيدة مرفهة في قصورها التي نؤمّن نحن دافعو الضرائب أموال صيانتها؟ ألم تكن هي المسؤولة عن المستعمرات البريطانية والويلات التي عاشها شعوب تلك المستعمرات؟ ألم يحتل الإنجليز بلادنا، ألم ترع بريطانيا وعد بلفور وكانت السبب في معاناة أهلنا في فلسطين؟ أجيبك دون بحث كثير في تاريخ تلك الأحداث وتبعاتها ومدى دقتها، عن مدى مسؤوليتنا كشعوب مضطهدة عن الاضطهاد الذي نعيشه حد الاستمراء، أجيبك أن العالم فيه ألوان أكثر بكثير من الأبيض والأسود.
لا تعمينا ازدواجية الأقطاب عن رؤية كامل ألوان الطيف، ولا يجب أن تجعلنا نغفل عن تقدير القيم التي تضمن الحفاظ على إنسانيتنا والإخلاص والتفاني في دور نؤمن به ونؤديه على أكمل وجه. فرب البيت مثالٌ يحذوه الأبناء، وإذا كان بالطبل ضاربًا، فما شيمة أهل البيت إلا الرقص.
فالراعي الذي لا يلبي احتياجات شعبه، ويبني لنفسه القصور ويشتري الطائرات الخاصة في ظل أزمة اقتصادية شديدة يعيشها أبناء وطنه بكل طبقاته، يعطي رسالة لأولي الأمر بأن الفساد مأمون العاقبة.
والفنان المشهور صاحب التأثير الواسع على جمهوره حين يتهم بالاغتصاب ولا يُدان، أو حين يتخلى عن أبنائه ولا يعترف بهم، يعطي رسالة لمعجبيه أن النذالة وارتكاب الجرائم أمر مقبول. وقس على ذلك من خيوط تتفكك عقدها وتنتج مجتمعًا متفسخًا تسود فيه البلطجة وروح الشر.
"كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته" والملكة إليزابيث الثانية كانت خير راعية للقيمة وللثبات وللاستمرارية. لن يتكرر نموذجها، أقفلت خلفها بابًا من التاريخ لن يعود، كما لن يعود لهذا المنصب الشرفي معنى في غيابها. كانت الحارس الأخير على بوابات القصر، وفي غيابها سيتحول ما طرزته قطبة قطبة خلال عمرها الطويل إلى تحفة نعرضها متباهين بمتانتها وتماسكها مترحمين على الزمن الجميل.