مع تغيير محافظ البنك المركزي نهاية الشهر الماضي، توقع البعض عودة نظام الاعتمادات المستندية وتيسير الاستيراد، وأجرى الصندوق السيادي السعودي صفقةً دولاريةً لشراء حصص من الأصول العامة، ثم عززت زيارة رئيس الجمهورية لقطر التوقعات بشأن تدفق استثمارات جديدة تضاف إلى اتفاق البلاد مع الإمارات على حزمة من الاستحواذات والاستثمارات العام الجاري.
يتابع المواطن الأخبار ويتساءل عن مدى ما يمكن أن تحققه من تيسير في أزمة ضعف التدفقات الدولارية، التي يشعر بآثارها منذ بداية العام الحالي في صور عدة، سواء انخفاض قيمة الجنيه منذ مارس/ آذار أو ندرة بعض السلع المستوردة.
وجهنا هذا السؤال للخبراء، وحاولنا أن نحسب حجم احتياجاتنا الدولارية ونتوقع طرق تدبير التمويلات الكافية لتغطيته، وما مصادر هذا التمويل؟ أما عن الإجابة فيمكن أن نوجزها في ثلاثة عناصر، قرض صندوق النقد، والخصخصة، وتخفيض جديد للجنيه أمام الدولار.
الفجوة الدولارية
يستخدم محللو الاقتصاد تعبير "الفجوة الدولارية" لتقدير حجم النفقات التي تحتاجها البلاد خلال عام ولا تجد لديها موارد مالية لتمويلها. وتنبع هذه النفقات من مصدرين؛ الأول هو عجز الميزان الجاري، وهو الفرق بين حجم حصيلتنا الجارية من أنشطة مثل التصدير والسياحة وغيرها وحجم ما نحتاج لإنفاقه على أنشطة مثل الاستيراد ومستحقات المستثمرين الأجانب في مصر وغيرها. أما الثاني فهو مستحقات الديون التي يحل أجل سدادها خلال عام.
ويجري تدبير التمويلات اللازمة للفجوة إمّا من خلال جذب استثمارات أجنبية أو عن طريق الاقتراض، لكن هذه الفجوة أصبحت مصدرًا للقلق منذ بداية العام الجاري بسبب ارتفاع أسعار السلع العالمية، على أثر الحرب الروسية الأوكرانية، ما زاد من فاتورة الاستيراد، بجانب ارتفاع أسعار الفائدة العالمية بسبب سياسات البنك المركزي الأمريكي، ما زاد أيضًا من تكلفة الاقتراض.
ويقدر المحلل الاقتصادي هاني جنينة، حجم عجز الميزان الجاري المتوقع للعام المالي الجاري، 2022-2023، بنحو 15 مليار دولار، يضاف إليها مستحقات الديون الخارجية.
وبحسب بيانات البنك المركزي يصل حجم مستحقات الديون خلال العام المالي الجاري نحو 14 مليار دولار، أي أننا وفقًا لهذه التقديرات نحتاج لتدبير نحو 29 مليار دولار خلال العام. وعلى الرغم من ضخامة المبلغ ومصاعب التمويل، لكن جنينة يرى أن العديد من العوامل ستساعد على تيسير عملية تمويله.
وتبلغ إجمالي مستحقات الدين على مصر خلال العام المالي الجاري نحو 17.9 مليار دولار تتضمن أقساط الديون والفائدة المستحقة عليها، وتتضمن أقساط بقيمة 6.5 مليار دولار وفوائد 2.1 مليار دولار بالنصف الثاني من 2022، إضافة إلى أقساط بـ 7.1 مليار دولار وفوائد بـ 2.3 مليار دولار في النصف الأول من 2023) وفقًا لبيانات البنك المركزي.
من أبرز هذه العوامل توقعات ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر خلال الفترة الراهنة، ويصل في العام المالي الجاري لما يتراوح ما بين 10 و12 مليار دولار، أي "سنمول نحو 80-85% من عجز الميزان الجاري من مصدر تمويل طويل الأجل ومستدام"، بحسب جنينة.
وتعمل مصر على الترويج لبرنامج ضخم لطرح حصص من أصول عامة للخصخصة، وأبرمت بالفعل دول خليجية صفقات في الفترة اﻷخيرة، لشراء حصص من القطاع العام، لكنها لاقت انتقادات واسعة بسبب انخفاض قيمة الأصول المطروحة.
التمويل بالقروض
أمّا عن المصدر الآخر، أي التمويل عبر القروض، فيجمع الخبراء على أن مفتاح هذا التمويل هو قرض صندوق النقد الذي تجري مفاوضاته في الوقت الراهن.
"من المستبعد أن تطرح مصر سندات دولارية قبل الوصول لاتفاق مع الصندوق، لأن المستثمر (الذي سيشتري السندات) يريد أن يضمن أمواله" كما يقول جنينة.
وتتفاوض مصر مع صندوق النقد الدولي على برنامج لتمويل قرض جديد. وبينما تصفه الحكومة بالقرض المحدود، تتباين تقديرات بنوك الاستثمار، إذ قدره بي إن بي باريبا بنحو 10 مليارات دولار، قبل أن يعود ليخفض قيمته المتوقعة إلى نحو نصف المبلغ على أكثر تقدير الشهر الماضي.
ويتفق مع جنينة، خبيرُ الاستثمار في الشرق الأوسط بشركة استثمار في لندن علي متولي، خاصة وأن الظروف الدولية الراهنة تجعل فرص نجاح طرح السندات المصرية غير مضمونة، ويمثل قرض الصندوق فرص لتعزيز هذه الطروحات.
"طرح مصر للسندات الدولية مرهون بعدة عوامل أهمها مدى استعدادية المستثمرين للعودة للأسواق الناشئة في وقت يزداد فيه الدولار قوة بالتالي يصبح مجالًا أكثر جاذبية للاستثمار، ربما يساهم اتفاق مصر مع الصندوق في تعزيز موقف طروحات السندات المصرية خلال الفترة المقبلة"، كما يضيف متولي.
وكان آخر طرح للسندات الدولارية المصرية في الأسواق الدولي في سبتمبر 2021، وبلغ فيه سعر العائد بين 5.8% و8.875% وهو عائد معتدل مقارنة بمستويات العائد في طروحات دول تحظى بالتصنيف الائتماني لمصر نفسه وفقًا لجنينة.
لكنَّ قرارات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بزيادة الفائدة 4 مرات خلال العام، ساهمت في زيادة أسعار الفائدة عالميًا، التي بدأت بزيادة في مارس الماضي ثم مايو/ أيار وفي يونيو/ حزيران ثم يوليو/ تموز، وهو ما زاد من العائد المطلوب على سندات أسواق ناشئة مثل مصر.
إضافة إلى ذلك، فهذا العائد ليس هو السعر المتداول حاليًا، إذ ارتفع بحلول فترة استحقاقه في 2027 إلى أكثر من 12%، ما يعني أن مصر لا يمكنها إعادة طرح سندات دولارية إلا في حال انخفض هذا السعر الى مستويات توازي أسعار الطرح الأول.
"عندما نصل للوقت الذي تحتاج فيه الحكومة لطرح السندات (بعد اتفاق الصندوق) سنكون وصلنا إلى قمة أسعار الفائدة في أمريكا وبدأت التوقعات باتجاه الفائدة العالمية للانخفاض مجددًا، وهنا مصر تستطيع تمويل ما تبقى من الفجوة التمويلية من خلال طرح ديون" بحسب جنينة.
وبحسب الحكومة المصرية فمن المتوقع إتمام اتفاق الصندوق قبل نهاية العام.
تسعير الجنيه
يربط المحللون بين قدرة مصر على الوصول لاتفاق مع الصندوق، ومدى استعداد البلاد للدخول في خفض جديد للجنيه، وهو التوجه الذي أكدت عليه وزيرة التخطيط في تصريحات مؤخرًا حول استعداد الدولة لتبني سعر صرف مرن.
ويساهم التسعير المرتفع للجنيه في إعاقة تدفق الاستثمارات الأجنبية في الأوراق المالية المقومة بالعملة المحلية، نظرا لتخوف المستثمرين من هبوط قيمتها خلال المستقبل القريب، وكذلك قد يكون مؤشرًا على حماية البنك المركزي للعملة، لدرجة تؤدي لعدم إتاحة الدولار بمرونة في الأسواق ما يقلق المستثمرين الأجانب من مخاطر عدم القدرة على الخروج باستثماراتهم في أي وقت.
ويرى جنينة أن خفضًا جديدًا للجنيه سيساهم في تعزيز التدفقات الدولارية لمصر ومن ثم تيسير عملية توفير الدولار، "لابد من انفتاح تدريجي في فك قيود الاستيراد وهو ما يتطلب الوصول لاتفاق مع الصندوق، وهذا قد يصاحبه ارتفاع سعر الصرف ولو على نحو مؤقت".
ويتوقع جنينة أن يتراوح السعر الجديد للدولار بين 22 و23 جنيهًا، فيما يضع علي متولي ثلاثة سيناريوهات لمتوسط سعر الصرف، لكنه رجح أن يستقر ما بين 21 و 22 جنيهًا.
"لدينا 3 سيناريوهات، إمّا أن ينخفض قيمة الجنيه مرة واحدة إلى ما بين 24 و25 جنيهًا من خلال تعويم آخر ثم نحصل على القرض، لكن هذا سيكون له تأثير كبير على الأسعار والتضخم، أو أن نترك الدولار يتحرك ببطء حتى الوصول إلى سعر ما بين 21 و22 جنيهًا خلال الربع الأخير من السنة، حتى الحصول على القرض، لكن هذا لن يجذب الدولارات من السوق (السوداء)".
أما التصور الأساسي أو الاكثر احتمالية، في رأي متولي، هو أن يلجأ المركزي لخفض قيمة الجنيه بين 21 و22 جنيهًا والحصول على قرض صندوق النقد، ثم يبدأ بعدها خفضه ببطء ويخلق فرص بيع للدولار عند الناس.
وبشكل عام، فإن قرض صندوق النقد ربما يُعدُّ فرصةً لتوفير الدولارات إلى جانب الاستثمارات الخليجية، بحسب ما قالته رئيس قسم البحوث لشركة الأهلي فاروس لتداول الأوراق المالية رضوى السويفي "اتفاق الصندوق ضروري لسببين أولًا شهادة لطمأنة المجتمع الدولي، وثانيًا سيفتح الباب للتدفقات التمويلية".
وهنا يبدو الاتفاق الجديد مع الصندوق بمثابة طوق نجاة لسد عجز الفجوة الدولارية، غير أن التضخم سيكون أحد النتائج السلبية المتوقعة.