بكل الحسابات الجادة والموضوعية فإن ثورة يناير، رغم تعثرها، هي فقط من أنجزت طوال أكثر من عشر سنوات مضت.
في أي هجوم يشنه أعداؤها تزداد الصورة وضوحًا: يناير بأحلامها ومعاركها وشعاراتها الكبرى هي الرقم الصعب في معادلة السياسة المرتبكة منذ 2011 وحتى الآن.
يناصرها محبوها ويهيمون بها، ويتهمها كارهوها بكل النواقص ليؤكد كرههم حضورها رغم محاولات إيهام الناس أنها انتهت، أو أنها كانت سببًا رئيسيًا في الفشل الاقتصادي والسياسي الذي نعيشه. هاجموها بعنف وانهالوا عليها بكل صور التشويه والتجريح فلم يثبتوا سوى حضورها الطاغي؛ "وبضدها تتميز الأشياء".
خلال أكثر من عشر سنوات شهدت فيها مصر صراعًا سياسيًا محتدمًا، كانت ثورة يناير هي فقط التي أنجزت على الأرض، وشكّلت وعيًا جديدًا بين مئات الآلاف من الأجيال الشابة في هذا البلد.
بشرّت ثورة يناير الجميع، بأحلامها وقدرتها على تغيير العقول، بأن القادم لا يمكن أن يتشابه مع ما مضى، مهما تعثرت الخطوات، أو تمادى الاستبداد، ومهما عانت من هجوم وتشويه يزيد من قوة حضورها ومن قدرتها على الاستمرار في تنوير العقول.
في العام 2011، وتحديدًا في يوم 11 فبراير، أعلنت ثورة يناير بجمهورها المليوني الانتصار الأول والانجاز الأهم وهي تسقط نظامًا جثم على أنفاس البلد 30 عامًا متصلة. أسقطت يناير حسني مبارك بعد أن تحول عصره المديد البليد إلى فساد ينخر في عظام البلد، وإلى شلل وعصابات تأكل الأخضر واليابس، واستبداد واستئثار بالحكم، وصل مداه وهو يحتقر الناس وحقهم الطبيعي في اختيار من يحكمهم.
باستثنائية ما فعلته يناير، الذي يشبه الحلم، كانت الثورة ترسخ قاعدة استمرت أكثر من عشر سنوات مفادها أنها هي فقط من استطاعت أن تنجز وأن تحقق هدفًا كبيرًا كان أقرب إلى الأحلام منه إلى الواقع.
30 عامًا متصلة قضاها حسني مبارك في حكم مصر، تغلغل نظامه في كل شبر في البلد من أدناها إلى أقصاها، تسلّط على كل كبيرة وصغيرة، من الرئاسة إلى البرلمان، ومن الاقتصاد إلى الإعلام، ومن الوزراء والمحافظين والمجتمع المدني إلى المحليات. تسلُّط أضحى معه التفكير في إسقاط نظامه ضربًا من الجنون.
هنا جاءت يناير بأحلامها ونقاء أهلها لتثبت أن الأحلام يمكن أن تتحقق، وأنها قررت تحقيق الإعجاز التاريخي بإنهاء عصر بالكامل وإحالته إلى ذمة التاريخ. وكان هذا إنجازها الأول الذي لم يحقق غيرها مثله، بكل ما صاحبه من دويّ هائل لم يتوقعه إنسان.
في نفس لحظة تحقيق إنجازها الأهم كانت يناير تحقق انجازها الثاني بتوجيه الضربة القاضية لملف توريث الحكم وإمكانية نقل السلطة من الأب حسني إلى الابن جمال، لتحمي مصر وشعبها من أن تتحول إلى جمهورية ملكية يحتكرها الرئيس وابنه وأسرته.
وأعادت بهذا الإنجاز التاريخي التأكيد على استمرار قيم الجمهورية والخلاص الحاسم من فكرة "التوريث"، هذا السيناريو الكارثي الذي كان سيوصم هذا البلد بأنه بلاشعب، أو أن أصحابه رحلوا إلى كتب التاريخ وتركوه إلى شلل من الرؤساء وأبنائهم يتقاسمون الحكم فيما بينهم، بينما أصحاب المصلحة الحقيقية خارج المشهد.
ليست الثورات مجرد خروج جماهيري في الميادين، بل هي التغيير الحاسم في الوعي والسلوك العام، تخلقه الثورة خلقًا من العدم
بقدرتها، منفردة، على تحقيق إنجازات تاريخية، كانت يناير هي كلمة السر في تغيير الوعي العام في مصر. ففي ذروة الاستبداد والحكم الفردي الذي تئن تحت وطئته البلاد، دفعت يناير بمئات الآلاف من الأجيال الشابة إلى ساحة الانشغال بالهم العام.
صحيح أن مساحات الحرية ما زالت مقيدة وضيقة، لكن اهتمام الأجيال الشابة بالسياسة والحياة العامة بات ظاهرًا بدرجة لا تخفى على أحد ولا يقلل منها عاقل. آلاف من أبناء مصر غيرت الثورة وعيهم ودفعت بهم إلى شرايين الحياة العامة، يناقشون ويجادلون ويرفضون ويعبرون عن رؤيتهم ورأيهم وغضبهم، حتى وإن لم يتجاوز الرفض والجدال حدود شبكات التواصل الاجتماعي.
وهنا كان إنجازها الثالث والمهم، فهي ساهمت في تشكيل المستقبل عندما خلقت جيلًا جديدًا بات الآن على استعداد للمشاركة في الحياة السياسية عندما تحين ساعة الصفر وتنفتح الأبواب المغلقة، وتنهار سطوة الحصار على المجال العام.
في تغيير الوعي وإخراج أجيال جديدة تهتم بالعمل العام نصر كامل ليناير وحلمها الكبير الذي بات، مهما قاوم أعداؤها، جزءًا من مستقبل قادم لا محالة مهما تأخر.
مع كل هجوم تتعرض له ثورة يناير تتأكد الفكرة بوضوح: إنها الرقم الصعب وكلمة السر، وأنه لا يمكن الخلاص منها بعد ما أنجزت، وبعد ما فردت من أشرعة للحلم بين الناس، على الرغم من ترصد مؤسسات رأت في قتلها في المهد مهمة عاجلة وحاسمة.
وبقدر ما حققت من إنجازات على درب الخلاص من حكم مبارك وإسقاط مشروع التوريث وتغيير الوعي العام فإن طريق يناير لا يزال هو الوحيد الممهد الذي يمكن أن يفضي لمستقبل أفضل.
فلا يمكن إنكار أن الطريق الذي رسمت خطوطه العريضة هو الوحيد الذي اختاره الناس بحضور طاغ في الميادين، وبتضحيات كبيرة اختصرتها مشاهد آلاف الشهداء والجرحي والمنتظرين لمستقبل أجمل.
وبنفس المعنى فإن حصار يناير وتشويهها وتحميلها كل كبائر الفشل السياسي والاقتصادي لن ينجح في محو تأثيرها في الضمير العام، ولن يزيد كل من آمن بنقاء شعاراتها الكبرى إلا انتظارًا ليوم انتصارها، الذي هو آت مهما غاب.
في حسابات التاريخ، ليست الثورات مجرد خروج جماهيري في الميادين، بل هي التغيير الحاسم في الوعي والسلوك العام، تخلقه الثورة خلقًا من العدم، تنير به العقول، وتهدي به القلوب، وتُعلي من مساحات الأحلام التي تنتصر في نهاية المطاف وإن بدت مستحيلة.
في الثورات الكبرى التي انتصرت على مر التاريخ الإنساني بعد سنوات من المد والجزر والتشويه والحصار بشارة لثورة يناير ومن آمن بها. بنظرة واحدة على تاريخ الثورة الفرنسية، إحدى أهم الثورات في تاريخ الإنسانية، يبدو انتصار يناير مؤكدًا مهما كانت الرغبة الشريرة في القضاء عليها وإيهام من صنعوها بأنها مصدر كل شر.
وبينما تدفع الآلاف من أبنائها في فضاء الحلم، وفي الزنازين أيضًا، بنت يناير كوادر للمستقبل، هؤلاء الذين اختاروا الانحياز لضمائرهم وللحرية والعدل الاجتماعي. وفي التشبث بالأحلام إنجاز آخر ليناير وناسها، هذا الإنجاز ستطال ظلاله الجميع في يوم سيشعر فيه الناس بأن القادم هو ما يستحقونه.