يأتي سبتمبر دائمًا حاملًا ذكرى مفارقة عجيبة تخص فؤاد المهندس، لأنه ولد وتوفي في ذلك الشهر، وكأنه اختتم رحلة دائرية أثرى خلالها الحياة الفنية في مصر والعالم العربي، وأنهاها حيث بدأ، بين لحظة ميلاده عام 1927 (وفقًا للمهندس شخصيًا، وخلافا لما تذكره مصادر كثيرة تفترض أن 1924 هو عام مولده) ولحظة رحيله عام 2006.
سبتمبر شهر له حضور خاص بالنسبة لعشاق فنان الكوميديا الراحل، لكن تحمل أيامه المتأخرة أيضًا ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر (29 سبتمبر/ أيلول 1970)، وهي مناسبة تستدعي لدى قسم كبير من الجماهير العربية لحظة "الموت الرمزي لناصر" في 1967، قبل وفاته الجسدية عام 1970.
تمر هذا العام خمس وخمسون سنة على هزيمة المشروع القومي العروبي بسبب ما عُرِفَ إعلاميًا بالنكسة. كيف يلتقي الحدثان: حياة فؤاد المهندس ومشواره الفني الذي امتد عبر النصف الثاني من القرن العشرين، وهزيمة مصر وجيرانها العرب التي شكلت أساس علاقات القوى في الشرق الأوسط، طيلة الفترة نفسها، وتضافر ذكرى رحيل كل من ناصر والمهندس في سبتمبر؟
أجيب: الدور المميز الذي لعبه فؤاد المهندس ككوميديان عبر موجات الإذاعة، وعلى خشبة المسرح، وعلى شاشة السينما "ليمحو آثار الهزيمة" منذ يونيو 1967، بتعبير الخطاب الرسمي في الستينيات. وهو الدور الذي يضيف رابطةً ما بين ناصر والمهندس، علاوة على كون كلاهما رحل عن عالمنا في شهر سبتمبر.
العلاقة الرمزية والدلالية بين ما يمثله فؤاد المهندس في التاريخ الثقافي العربي، وما يمثله جمال عبد الناصر في التاريخ السياسي العربي، أوثق مما نتصور، ولا تبتعد كثيرًا عن التوازي الذي يلاحظه النقاد الثقافيون بين دور ناصر على الساحة السياسية، ودور أم كلثوم أو حليم على الساحة الغنائية. فناصر كان صوت العروبة في حلبة التاريخ، وأم كلثوم وحليم كانا صوتين بارزين في ساحة الغناء لتلك النظرة للتاريخ العربي، مجسدين بذلك إحدى ملامح العروبة الثقافية.
لا تتوفر معلومات كافية لتؤكد وجود مخطط واع لغزو الأسواق بكوميديات خفيفة، وأحيانًا تافهة، بعد حرب 1967 للترفيه عن الناس وإلهائهم، لكنَّ المؤكد أن سنة 1968، التالية على الهزيمة، شهدت نشاطًا محمومًا لفؤاد المهندس. ففي مجال السينما وحدها، قدّم فؤاد المهندس سبعة أفلام، هي "مطاردة غرامية" و"عالم مضحك جدًا" و"مراتي مجنونة مجنونة" و"المليونير المزيف" و"أرض النفاق" و"السكرتير الفني" و"شنبو في المصيدة".
ثلاثة من هذه الأفلام؛ "مطاردة غرامية" و"أرض النفاق" و"شنبو في المصيدة" صارت من كلاسيكيات الكوميديا العربية في السينما، وتعتبر أعمالًا ذات مستوىً راقٍ. لكن الأفلام الباقية خفيفة مصنوعة على عجل، ولذلك لم تحظَ بالاعتبار الجماهيري والصحفي، ولم يتول التلفزيون عرضها سنويًا وبالتالي لم تتمتع بالتكريس الذي تحقق لهؤلاء الثلاثة.
لا يعنيني هنا إثبات أن النظام الناصري حاول إلهاء الناس أو تغييبهم فأغرقهم بأفلام كوميدية، بعضها خفيف إلى درجة الإسفاف، أو أن النظام قد عهد إلى فؤاد المهندس "كوميديان النظام المعتمد" بتنفيذ هذه الخطة، بل تحليل بعض البنى الدرامية والتيمات المتواترة في أفلام ما بعد النكسة التي قام ببطولتها المهندس لتوازيها مع قضايا مجتمعية وهموم سياسية كان تشغل مصر الناصرية، لا سيما بعد الهزيمة.
كتبت في أكثر من موضع ما معناه أن أفلام فؤاد المهندس الكوميدية، بالذات في السنوات القليلة التي سبقت ثم تلت هزيمة 1967، تكشف عن لا وعي الناصرية، وتجسد مقلوب المجتمع أثناء الحقبة الناصرية، بمعنى أنها تورد الوجه الآخر، الخفي، المسكوت عنه، وتقدم نقدًا ساخرًا وغير مقصود لتصورات المجتمع عن نفسه، في هيئته الوردية، الواثقة، المعتزة.
ولعل أبرز الملامح التي تمنح أفلام فؤاد المهندس فاعليتها وحيويتها هو طغيان تيمة القرين والتوأم أو الشبيه، أو ازدواج الشخصية، على أحداث هذه الأفلام ومواقفها المولدة للكوميديا. فهو مثلًا المهندس حمدي الرجل الطيب وشبيهه: سعيد المكسيكي، في فيلم "المليونير المزيف" (1968).
وفي فيلم "العتبة جزاز" (1969) يلعب فؤاد المهندس دوري عبد الحفيظ المصري الأصيل وماكس المجرم الأمريكي الخطير، بالإضافة إلى أن الشخصية المصرية تزدوج مرتين: مرة حين تسمع أغنية العتبة جزاز فتتحول إلى بطل قوي لا يقهر، ومرة حين يتحول عبد الحفيظ إلى فرافيرو، البطل المتوهم (وهو النسخة المعربة من شخصية الكارتون "الفار القهار" Mighty Mouse الأمريكية).
مشهد من فيلم العتبة جزاز
الحضور قوي لتيمة القرين، يمكن فهمه أيضًا على أنه تأمل فكاهي في التأرجح بين التغريب والتشريق. فكثيرًا ما يجسد فؤاد المهندس في هذه الأفلام شخصيتين: الأولى شخصية المصري البسيط، المستقيم، سليم النية، والثانية شخصية غربية، مثل إكس زعيم العصابة الأمريكي، أو ماكس المجرم الأمريكي، أو زلاطا راعي البقر والزعيم المكسيكي أو المليونير المكسيكي.
غير أن كوميديا القرين تأخذ أيضًا منحىً أكثر أخلاقية في توظيفها لقصة الشبيه أو التوأم. فكثيرًا ما جسَد فؤاد المهندس بجسمه فكرة وجهي العملة الأخلاقية: الطيب البسيط/ الشرير المتعجرف، مثل زكي في مقابل إكس، في "أخطر رجل في العالم" (1967) ومفتاح في مقابل إكس، في "عودة أخطر رجل في العالم" (1972).
هذه القطبية الثنائية ترسم مخطط الخطاب الأخلاقي للفيلم الذي يدعم الإنسان الطيب البسيط. لكنها تساهم أيضًا في البناء الكوميدي لأنها مولد أساسي للمواقف المضحكة الناجمة عن سوء التفاهم حين تواجه الشخصيات فؤاد المهندس متصورة أنه الشخص "فلان" بينما هو في الحقيقة الشخص "علان".
على أن طغيان فكرة الانفصام أو الازدواجية الملازمة لتيمة القرين والشبيه، هي في حد ذاتها مواكبة لازدواجية الحقبة الناصرية، بل وفصاميتها. في تلك الحقبة، ازدوج خطاب المجتمع عن نفسه بين خطاب ثوري تحرري وممارسات قمعية ضد المعارضين؛ أو بين ادعاءات أخلاقية عن المساواة بين المواطنين ومحاربة الفساد من ناحية، وممارسات تخلق طبقة تتمتع بامتيازات خاصة وتدعم الفساد من ناحية أخرى؛ أو بين خطاب القوة السياسية والمادية العسكرية، وفي مقابله القصور الذي أدى إلى هزيمة حاسمة في 1967.
بهذا المعنى، فـ"كوميديا الازدواجية" تكشف لا وعي الحقبة الناصرية، وتفعل ذلك غالبًا على نحو غير مقصود، مثلما تفعل زلة اللسان التي تعري ما تبطنه النفس. وبهذا تكون كوميديا القرين أو الازدواجية تجليًا مقلوبًا لخطابات التحرر والقوة والأخلاق التي كانت سائدة في الستينات.
إن المصادفة التي شاءت أن تتوافق ذكرى رحيل كل من فؤاد المهندس وجمال عبد الناصر في شهر سبتمبر تلفت النظر إلى مصادفة أخرى تتعلق بالشهور، وتحديدًا بأغسطس، الشهر السابق على سبتمبر. فقبل هزيمة 1967 بعام واحد، عُرضَ فيلم "غرام في أغسطس" من بطولة الثنائي شويكار وفؤاد المهندس، وهو بالمصادفة أيضًا من "أفلام القرين"، التي يجسد فيها المهندس شخصيتين.
على وجه الدقة، يمثل المهندس دور رجل ينتحل شخصية آخر، من باب الشفقة على زوجة ذلك الرجل. فالزوجة (شويكار) قد أصيبت بأزمة عصبية شديدة عند وفاة زوجها في حادث. ثم عادت إلى وجهها البسمة عندما التقت بفؤاد المهندس في مصيف الإسكندرية، حيث إن شخصية فؤاد المهندس، للمصادفة، تشبه شخصية الزوج الراحل، وكأنهما توأمان.
تتر فيلم غرام في أغسطس
لم يحظَ فيلم "غرام في أغسطس" بنفس شهرة ونجاح أفلام أخرى لشويكار والمهندس. ولم يتم تكريسه كفيلم من كلاسيكيات الكوميديا، بالقدر الذي كرس فيه التلفزيون أفلامًا أخرى للثنائي نفسه، مثل "أخطر رجل في العالم" و "مطاردة غرامية".
لكن المصادفة التاريخية شاءت أن يكون "غرام في أغسطس" هو واحد من آخر كوميديات عصر البراءة والأمل في الحقبة الناصرية، كما يمكن استقراء التعبير عنها في أفلام فؤاد المهندس وشويكار. فمن ناحية، نجد في الفيلم تيمة الازدواجية بين الزوج المتوفي والحبيب الحي، التي توافق الازدواجية في المجتمع الناصري؛ ومن ناحية أخرى، نرى فيلمًا تم تصوير جزء كبير منه في فندق فلسطين عام 1966، أي بعد عامين فقط من افتتاح هذه الدرة السياحية الناصرية على شاطئ الإسكندرية، وقبل عام واحد من زلزال 1967 السياسي والعسكري.
يحتفي فيلم "غرام في أغسطس" بفندق فلسطين. ففيه يلتقي فؤاد المهندس بشويكار، وفيه يقع في غرامها وينفصل عن خطيبته المتسلطة (نادية الجندي)، لينتهي الفيلم بفرحة ارتباط الحبيبين/النجمين/الزوجين في الحياة. في لحظة النهاية هذه تلتقي الآمال والأحلام بالحقيقة، فالزوجان في الحقيقة يتزوجان في عالم الخيال السينمائي، في اللحظة التي تختفي فيها الحاجة لازدواجية شخصية فؤاد المهندس.
أما المفارقة، فهي أن حلم الريادة المصرية في قضية فلسطين، سوف يظل أسير ازدواجية بين خطاب التضامن مع فلسطين والوقائع التي أدت إلى هزيمة 1967، بعد عام واحد من عرض الفيلم.